السعودية وإيران.. حرب الإعلام؟
هذه الورقة تطوير لفكرة كنت قد طرحتها في مقال قصير[1]، وهي ما تزال محاولة تمهيدية تهدف لتحليل اتجاهات الدعاية بين إيران والسعودية وسبل الاستفادة بقدر الإمكان من النجاحات وحتى الإخفاقات السابقة.
دعاية انهيار المملكة
بتاريخ السادس عشر من فبراير نشر موقع «ديفنس وان» مقالاً مشتركاً لكل من سارة شيس وأليكس دو وال بعنوان مثير: «لنبدأ في التأهب لانهيار المملكة السعودية»، يكتسب هذا المقال أهمية لعدة أسباب أولها التوقيت، وثانيها أنه لا يبدو لمن يتابع ما ينشر في مراكز العصف الذهني مقالاً منفرداً بقدر ما يبدو جزءاً من سلسلة طويلة من المقالات المعادية للمملكة، والتي تصدر خاصة في الولايات المتحدة التي يفترض أنها الحليف الأهم والداعم الأكبر للسعودية.
نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي أن المقال لم يكتبه هواة أو كتاب رأي مغمورون، فالسيدة شيس، وبالإضافة إلى عملها الأكاديمي في معهد كارينغي المرموق وإشرافها على برنامج حكم القانون، فهي أيضاً باحثة وكاتبة معروفة ومستشارة سياسية.
أما أليكس دو وال، البروفيسور في مدرسة فليتشر، فقد تنوعت اهتماماته من ملف السودان الذي درسه بتعمق إلى شؤون القرن الإفريقي وهو ما أهله لحمل لقب خبير في شؤون الأمن والسلم، مما جعله يترأس مؤسسة السلام العالمي التي منحت اسمه حضوراً مميزاً على الصعيد الحقوقي وعلى صعيد البرامج الإنسانية.
هناك نظرة عربية تنظر للكتاب المعادين على أنهم مجرد مأجورين، للأسف نحن هنا في إطار أكثر تعقيداً لا يمكن حله بطريقة المزايدة والدفع أكثر. خطورة هذا التعقيد تكمن في مواجهة العشرات، بل المئات من الباحثين وصناع القرار الذين ليس فقط يساندون المعسكر المعادي للسعودية لأسباب اقتصادية ومصلحية، ولكنهم يؤمنون بكل وعيهم بالدعاية الإيرانية أو على الأقل بأن الانحياز لإيران هو أكثر فائدة من الانحياز للمجموعة العربية.
قد يستغرب المرء من أن يكون الطرح الإيراني المبني على الانخراط البناء والرغبة في السلام وخلق علاقات إقليمية تتجاوز الأبعاد الطائفية من أجل علاقات إقليمية تشاركية فاعلة، أن يكون هذا الطرح المليء في حقيقته بالخداع طرحاً مقنعاً لباحثين متخصصين في الشؤون الدولية! ولكنها حقيقة لابد من الاعتراف بها وتحليل أسبابها. وهنا نتذكر على سبيل المثال أن المجلس الوطني الإيراني الأمريكي قد استشهد إبان المفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي بتوقيعات لأكثر من 73 باحثاً معروفاً على رأسهم نعوم تشومسكي للتدليل على أن هذا الاتفاق سيؤدي إلى استقرار المنطقة.
العدد الذي قارب الثمانين لاحقاً كان يحوي أسماء لامعة فعلاً، فتشومسكي المعروف بآرائه المنتقدة للإدارات الأمريكية وبتعاطفه مع القضايا العربية وفهمه المتعمق لخفايا السياسة الدولية، لم يمنعه كل ذلك من الوقوف مع الاتفاق النووي والدعوة لمنح إيران فرصة لإظهار حسن نواياها.
الدور الأمريكي
أحد الأسباب التي يمكن طرحها لتفسير سهولة تسويق الدعاية الإيرانية في الولايات المتحدة خاصة هو حرص إدارة أوباما على تحسين صورة إيران حتى قبل توقيع الاتفاق النووي، وهو ما جعل الدعاية الإيرانية مدعومة من ملالي إيران من جهة ومن شخصيات أمريكية نافذة من جهة أخرى؛ تلك الشخصيات النافذة والمتحكمة في السياسة والاقتصاد، وبالضرورة الإعلام كانت من روّج لما سيتم اعتباره تغيراً في التوجهات الإيرانية بعد تسلم روحاني مقاليد السلطة في طهران، وتجلى التعاون بين الطرفين الإيراني والغربي في الترحيب الواسع بمقال روحاني في واشنطن بوست والذي دعا فيه إلى ما سماه «الانخراط البناء».
لكن تاريخ التقارب الفعلي بين الطرفين كان قد بدأ قبل تلك المقالة، وهو ما اكتشفناه في المقابلة التي أجرتها فايننشال تايمز مع الدبلوماسي الأمريكي بيل بيرنز والتي كشفت أن مساعي أوباما للتقارب مع إيران عبر مفاوضات سرية قد بدأت منذ العام 2013، أي في عهد أحمدي نجاد «المتشدد» ذاته[2].
هذه الحقيقة تدل من جهة على أن الولايات المتحدة هي من سعت للتواصل مع إيران وفتح باب للتفاهم معها، ومن جهة أخرى تدلل على أن نجاد لم يكن فعلاً بذلك السوء والدوغمائية التي كان يبدو عليها!
ولأن إرضاء إيران التي تحولت لمعادل سياسي واقتصادي لا غنى عنه كان من أهم أهداف الولايات المتحدة، فقد سعت الأخيرة لتقديم ما تستطيع من دعم لإنجاح الاتفاق النووي من خلال الضغوط الدبلوماسية والترويج لمصطلح «إيران المتغيرة»، ثم من خلال اللغة الفضفاضة التي كتب بها الاتفاق، والتي ستتيح للطرف الإيراني فرصة أكبر للمناورة والالتفاف.
قد يقول قائل إن هذا المنطق يتنافى مع الحرية المكفولة أمريكياً، والتي تمنح الجميع حقوقاً متساوية للتبشير ونشر الأفكار، وأن العرب هم الذين قصروا عن تقديم الدعم الإعلامي لأنفسهم، ففي الوقت الذي سعى فيه الإيرانيون لتكوين لوبي خاص بهم ومجموعات ضاغطة كان أولئك يقدمون خدمات مجانية للاقتصاد الأمريكي.
هذا الرأي صحيح في بعض جوانبه، لكن الانطلاق من نقطة الحياد الإعلامي الأمريكي الكامل يوصل دائماً إلى نتائج خاطئة، فالإعلام الأمريكي موجه بامتياز، ليس طبعاً على طريقة دول العالم الثالث التقليدية وغير المقنعة ولكن بطريقة أكثر ذكاء ومهنية.
الواقع أن المساحة التي يمنحها الإعلام الأمريكي للكتاب المقربين من طهران لا تقارن بنظيرتها الممنوحة لمن ينتقد سلوك إيران العدواني، كما أن الحماس لترجمة كل ما هو إيجابي عن طهران يقابله فتور فيما يتعلق بشؤون المملكة العربية السعودية أو غيرها من دول المنطقة.
هناك أيضاً نقطة يجب أخذها في الاعتبار وهي أن الولايات المتحدة وبرغم ما تدعيه من علاقة وثيقة مع السعودية إلا أن تلك العلاقة لا تخلو من تناقضات، فالولايات المتحدة حريصة في المقام الأول على الاستمرار في الاستفادة من الثروة النفطية وهو ما يعني أن نظام الحكم وأمن المملكة أو دخولها تحت المظلة الإيرانية أو حتى تقسيمها لا يهم إلا بقدر تأثير ذلك على انسياب النفط وثبات أسعاره، كما يثبت التاريخ الحديث للبراغماتية الأمريكية أن الدولة الأكبر مستعدة للتخلي عن حلفائها بأسرع مما يظنون!
في بداية العام 2008 نشرت مجلة فانيتي فير مقالة على موقعها الإلكتروني بعنوان: «حدود على الرمال»، استشهد كتابها بآراء كل من الدبلوماسي دينيس روس الذي عمل في الشرق الأوسط والمؤرخ دافيد فرومكين والباحثين السياسيين كينيث بولاك ودانييل بايمان الذين دعوا بصراحة وبلا مواربة إلى تقسيم العراق والسعودية.
التاريخ المبكر وما حدث من شبه تقسيم للعراق بشكل يشابه الخريطة المفترضة الملحقة بالمقال جعل البعض يعلقون - في أروقة مختلفة داخل وخارج العالم العربي - بالقول إن المملكة العربية السعودية تنتظر دورها، خصوصاً أن بعض دوائر صنع القرار الأمريكية ترى أن هذا التقسيم إيجابي لجهة «القضاء على الوهابية والتطرف الإسلامي» من جهة، ولتحطيم الاحتكار السعودي لسوق النفط من جهة أخرى[3].
المقال سيتم الالتفات إليه وسيجذب الاهتمام مع بداية الربيع العربي حيث ستثار شكوك عما إذا ما كانت كل هذه الأحداث هي مجرد مؤامرة لتنفيذ مخطط النية المبيتة للتقسيم خاصة مع المقالات التالية التي كانت تدعم اتجاهات الثورة والمعارضة الداخلية في السعودية وتضخم من شأنها.
كان ذلك أحد الأسباب التي أثرت على تعاطي المملكة مع الانتفاضات العربية وأظهرتها بمظهر الداعم للأنظمة القديمة، أما حينما تصدر الإسلاميون المشهد السياسي بعد نهاية غبار الثورات فقد كان من السهل على النخب العلمانية، المعادية بطبعها للخيارات الإسلامية، أن تربط بين هذا التصدر وبين المؤامرة القديمة التي تهدف لإعادة رسم الخريطة السياسية.
تشويه صورة المملكة
المهم هنا هو أنه قد كان هناك التقاء إعلامي بين الدعايتين الصفوية والأمريكية، واللتين تتفقان على التركيز على استهداف المملكة. كل ذلك يظهر في المقال الذي بدأنا به والذي يتميز محتواه بالتطابق مع الدعاية الإيرانية وترديد ما تنشره، فهو يتحدث عن العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية بشكل سلبي تظهر فيه الأولى مجبرة على غض الطرف عن استبداد حليفتها في سبيل استمرار التمتع بالبترول والشراكة الاقتصادية، كما ينتقد «مذهب السعودية الوهابي الداعم للمتشددين» قبل أن يتجاوز كل ذلك ليصل حد الإساءة المباشرة حين يقول إن «السعودية ليست دولة» وإن بالإمكان وصفها «بالشركة الاقتصادية أو المنظمة الإجرامية»، ولإثبات أنها وبرغم ما تملكه من ثروة في طريقها للنهاية، يشبهها المقال بدولة جنوب السودان التي لم تستطع ثروتها النفطية أن تمنع تحولها لدولة فاشلة.
بعد التشبيه الغريب بدولة كجنوب السودان والصومال يحمّل المقال السعودية المسؤولية عن تصرفات أشخاص مثل بن لادن ويتهمها بنشر الإرهاب وسط السنة في العالم ويختم بنصيحة للإدارة الأمريكية بأنها يجب أن تجهز خياراتها منذ الآن لمرحلة سقوط السعودية.
هذه الأفكار، كما قلت، متكررة وقد اعتدنا سماعها في الإعلام المقرب من المحور الإيراني، لكن الجديد هو تردادها من شخصيات بارزة وباحثين يفترض بهم الحياد.
حتى الأزمة الأخيرة بين السعودية وإيران والتي صعدتها الأخيرة بعد إعدام السعودية لنمر النمر مع زمرة أخرى ممن صنفتهم إرهابيين أغلبهم من السنة تم استغلالها لانتقاد السعودية التي تستمر في تنفيذ أحكام الإعدام، في تجاهل لحقيقة أن إيران متفوقة على السعودية في عدد المحكومين بالإعدام والذين يعاقب أغلبهم لأسباب طائفية لا علاقة لها بالإجرام. تم تناسى ذلك وتجاهل حماقة التعدي على المقار الدبلوماسية التي لا يمكن أن تقبلها أو تمررها أي دولة تحترم نفسها.
قرار السعودية كان حاسماً حينما قررت قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهو ما ساهم في تحويل الصراع الذي كان مكتوماً منذ سنوات ولأسباب متعددة إلى صاخب.
يقول الإيرانيون إن تصرف بعض المواطنين الطائش لا يجب أن يؤثر على علاقات تاريخية بين بلدين شقيقين. الواقع أن أولئك لم يكونوا معزولين عن السلطة التي كان بإمكانها توقيفهم، والواقع أن العلاقات التاريخية والضرورات الجغرافية تم اختراقها عشرات المرات من خلال الجار الإيراني الذي يحترف سياسة المؤامرات والأعمال العدائية والتخريب. قد يكون السبب غير كافٍ لقطع العلاقات إذا كان مجرد سبب وحيد، لكن الأمر يبدو هنا أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير.
هكذا سقطت ورقة التوت الدبلوماسية التي كانت تغطي الاختلافات المبدئية بين الطرفين المتنافسين. برغم ذلك فإنه لا يزال من المستبعد دخول الطرفين في حرب مباشرة والأرجح هو تكوّن أجواء شبيهة بأجواء الحرب الباردة المعتمدة على الدعاية والإعلام والتصارع على مواطن النفوذ.
لقد تولد لدينا، كما كان الحال إبان الحرب الباردة، معسكران يخطط كل منهما لضم أكبر عدد من العناصر إليه، وهي عناصر تدخل فيها الدول والجماعات والوسائل الإعلامية وحتى الأفراد، ومن المهم في هذه المرحلة التعرف على هذين المعسكرين وقراءة أطرافهما بموضوعية بعيدة عن التضخيم والتزوير.
ماذا عن إيران؟
لأول وهلة تبدو إيران خاسرة في حرب الدعاية التي وجهتها للعالمين العربي والإسلامي، فوسائل الإعلام المهمة القريبة من إيران والتي يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة لا يمكنها بأي حال أن تنافس العشرات من القنوات في المنطقة العربية والتي، وإن كانت تختلف في بعض الأحيان مع بعض التوجهات السعودية، إلا أنها في الأخير وحينما يتعلق الأمر بعداء بين السعودية، التي تمثل السنة، وإيران، فإن الغالب منها سيقف مع السعودية. إضافة إلى أن التعلق الروحي والعاطفي ببلاد الحرمين التي زارها بالفعل عشرات الملايين من الحجاج والمعتمرين تجعل الأمر غير قابل للجدل بالنسبة لرجل الشارع البسيط الذي لم تستطع إيران كسب تعاطفه برغم تحولاتها وتلوناتها ومتاجراتها بالقضية الفلسطينية وملف المقاومة.
بالمقابل، فإن إيران تملك قوة على الأرض، تملك حزب الله، وتكاد تتحكم في الملفين اليمني والسوري، كما تملك الكثير من الخلايا المستعدة لتنفيذ توجيهات الولي الفقيه. من طرائف السياسة العربية هنا أن عدداً كبيراً من القوميين العرب ونكاية في الإسلاميين، الذين يجعلون السعودية جزءاً منهم، قد فاق ولاؤهم لطهران ولاءهم لمشروعهم القديم المبني على توحيد العرب على أساس القومية اللغوية، وهو ما تراجع لصالح مشروع المقاومة المزعوم والذي سيضم ليس فقط إيران ولكن أيضاً روسيا التي ستدخل حلف المقاومة بشروط قاسية أهمها المحافظة على مصالحها وعلى أمن الكيان الصهيوني.
هروباً إلى الأمام اتجهت إيران لترويج دعايتها في أماكن بعيدة عن من يعرفونها ويحفظون ألاعيبها، فاستغلت عداء الكثير من شعوب العالم للإمبريالية لتظهر نفسها لهم كمعادٍ قديم للتسلط الرأسمالي وللنظام العالمي المبني على قهر دول العالم الثالث. من هنا كانت علاقة إيران المبكرة بدول أمريكا اللاتينية في الوقت الذي كانت فيه تلك الدول بعيدة عن دائرة الاهتمام العربي والإسلامي وقد بدأت إيران تحصد ثمار تلك العلاقة الآن بتعاطف أولئك وغيرهم معها مما سهّل عليها مهمة إظهار خلافها مع السعودية على أنه خلاف بين الديمقراطية المنفتحة والاستبداد الرجعي.
أما حليف إيران الغربي الذي ينتقد أنظمة الحكم في الدول العربية، خاصة الخليجية، لأنها لا تمارس الديمقراطية على طريقته فهو لا يتورع عن غض الطرف عن ديمقراطية إيران الفريدة من نوعها والتي لا يقع فيها السنة وحدهم ضحية للتضييق السياسي والتمييز، ولكن أيضاً الشيعة من أصحاب الآراء المخالفة الذين، وبحسب ما تسمى «لجان حماية الثورة وصيانة الدستور»، لا يحق لهم حتى الترشح كنواب؛ وذلك من أجل الوصول إلى برلمان متناسق فكرياً!
من المهم هنا التذكير بحقيقة أن نشاط دولة الملالي الدعائي وسعيها لخلق اللوبيات وشبكات المصالح كان قد بدأ قبل وقت طويل من اندلاع الأزمة الأخيرة مع السعودية، فبالإضافة لمجموعات الضغط المساندة لها في أوربا والولايات المتحدة والقنوات المدعومة والممولة بسخاء والتي تنطق بلغات أجنبية، لجأت إيران إلى محاولة التأثير حتى على المجال السياسي الداخلي في تلك الدول عبر دعم بعض المرشحين وإغداق المال عليهم[4].
من الناحية الإقليمية من الصعب فهم منطق أولئك الذين يتحدثون عن تأثير سلبي لقطع العلاقات بين البلدين على الموضوع السوري، فالواقع أن إيران قد انخرطت قبل سنوات في دعم مباشر للأسد وهي لم تنتظر هذا التصعيد الأخير حتى تنشر عناصر حرسها الثوري في المنطقة أو حتى تتوسع في تقديم الدعم المالي والعسكري واللوجستي، بل إن كل ذلك إضافة إلى ما تقدمه الميليشيات على الأرض كان قد بدأ مع احتدام الثورة السورية.
التناقض هنا هو أن إيران تبني دعايتها على الدور السلبي لدول الخليج التي تؤجج، بحسب تصورها، الصراع في سوريا عبر دعمها للقادمين من الخارج. هي تركز على هذا بقوة وعبر كل المنابر التي تفتح لها، متجاهلة في الوقت ذاته دور رجالها الذين كانوا على الدوام حاضرين في الداخل السوري حتى تحولوا مع مرور الوقت لأحد أهم أطراف الصراع هناك.
من هنا انطلق سباق الدعاية لكسب العقول والقلوب، فكانت وجهة النظر السعودية أن المشكلة لا يمكن حصرها في حادثة اقتحام السفارة ولكن في مجمل السلوك الإيراني الذي لا يحترم حقوق الآخرين ولا يعترف بحصانتهم أو سيادتهم وأن هذا الحادث الأخير ليس أهم ما قدمته إيران لدعم عدم الاستقرار في المنطقة.
مقال الجبير ومحاولات الاختراق:
في هذا الإطار يمكن قراءة مقال عادل الجبير وزير الخارجية السعودي الأخير والذي نشره في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان: «هل بإمكان إيران أن تتغير؟»[5]، وهو مقال خاطب فيه الجبير النخبة الأنغلوفونية مذكراً بما قامت به إيران بعد ثورتها من دعم لعمليات إرهابية بشكل مباشر أو عبر تنظيمات تابعة لها في الدول المجاورة ودول أخرى منها غربية كألمانيا وهي انتهاكات تنوعت من التفجيرات إلى الاعتداءات على السفارات الغربية مروراً بدورها الداعم للفوضى اللبنانية عبر حزب الله الذي انتقل بعد تسميمه للحياة السياسية في لبنان للعب دور الشريك في قتل الشعب السوري.
رأى البعض في ذلك رداً على مقال وزير الخارجية الإيراني الذي نشره قبل أيام على الصحيفة ذاتها، لكنني قرأته كرد بشكل أوضح على مقال الرئيس روحاني الأول الذي نشره في واشنطن بوست عقب تسلمه الرئاسة والذي تحدث فيه عن إيران الجديدة والمتصالحة وعن مبدأ «الانخراط البناء» الذي بشر بتغيير في السياسة الخارجية الإيرانية وهو ما تلقفه الغربيون وبخاصة الأمريكيون من أجل التعبير عن استعدادهم لفتح صفحة جديدة مع طهران. أراد الجبير أن يقول أن كل ذلك إنما كان قراءة خاطئة لنوايا كاذبة.
لكن صاحب القرار المسيطر على «المجتمع الدولي» لا يريد إلا أن يمضي في سياسة الانفتاح على إيران وغض الطرف عن ممارساتها في المنطقة والتي اعترفت بها الجهات الحقوقية المحايدة التي كان آخرها تقرير هيومان رايتس ووتش الذي يتحدث عن تورط إيران في إرسال الآلاف من الشيعة الأفغان للقتال في سوريا في الوقت الذي تنتقد فيه السعودية لتدخلها في الشأن السوري. إن التفسير الوحيد للموقف الغربي هو أن وراء هذه السياسة التشجيعية لإيران ليس فقط رجال السياسة، بل رجال الاقتصاد الذين يسيطرون بدورهم على صناعة القرار والذين يرون في إيران بلداً ذا موارد جديدة ومنافذ اقتصادية لم تستغل بعد.
التحيز الإعلامي الغربي لصالح إيران يلاحظ بقوة في وسائل الإعلام الكبيرة وفي نقاشات مراكز البحوث وحتى لجان الكونغرس، وكلها جهات تكرر الربط بين السنة والإرهاب أو بين العلاقة بين ما يسمى بـ«مذهب السعودية الوهابي» وأفكار داعش، وهي في مجملها نقاط ظل يركز عليها اللوبي الإيراني القوي في واشنطن ومن استطاع تجنيدهم أو إقناعهم بأن الوقوف إلى جانب إيران هو وقوف مع الطرف الرابح.
نلاحظ أيضاً أنه مقابل مقال الجبير السابق فإن نيويورك تايمز وغيرها قد نشرت العشرات بل المئات من المقالات التي يمكن وصفها بالمعادية للسعودية، كما سُمح بالتعليق والرد على المقال والحدث بشكل جعل الصحيفة وغيرها من منابر الرأي الأمريكية تبدو بشكل غير متوازن.
ما سبق شجع إيران على تقوية علاقاتها الأوربية والأمريكية من خلال زيارات لكسب مزيد من الدعم السياسي والاقتصادي مستغلة العطش في الأسواق العالمية لما يمكن لإيران أن تقدمه في حال تحولت لسوق مفتوحة.
السعودية بدورها لم تستسلم وبدأت جهوداً حثيثة من خلال السعي لاختراق مراكز صنع القرار الأمريكية المؤثرة، لكنها ركزت أكثر على حماية ظهرها الإقليمي عبر تدعيم تحالفها ضد الحوثيين في اليمن وعبر دعوتها لقيام تحالف إسلامي عسكري ضد الإرهاب إضافة إلى مشاريع أخرى لخلق تحالف عربي أو آخر إستراتيجي مع تركيا، وفي هذا الإطار يمكن فهم النية السعودية لدعم تدخل بري عربي مباشر في سوريا.
إيران لم تستطع أن تفعل شيئاً إزاء هذه التحالفات سوى التشكيك في نوايا أصحابها وتحريض هذه الدولة أو تلك للنأي بنفسها عن كل تحالف أو تجمع، وهو ما لا يؤثر في محصلة التحالفات النهائية.
الواقع أن إيران خسرت الذراع الأهم الذي كان بإمكانه عبر شعاراته النارية وخطبه العاطفية أن يجلب لها دعم شعوب المنطقة؛ أعني هنا بالطبع ما يسمى بـ«حزب الله» الذي لم يصبح فقط شريكاً في القتل على الساحة السورية، ولكنه أيضاً تحول لمنظمة إجرامية تمارس، بخلاف القتل وتجويع المحاصرين، عدداً من الجرائم الأخرى كغسيل الأموال وتهريب المخدرات، ما جعله يخسر صورته الجذابة القديمة التي جعلت منه بطلاً في نظر الكثيرين.
حاولت إيران تعويض خسارتها لهذا الذراع عبر تفعيل أذرع موازية وعبر التوجه لكسب الجاليات الإسلامية في أوربا خاصة تحت شعارات التصوف ومحاربة التطرف ومحبة آل البيت، وهي المشاريع التي لم يتوقف الإنفاق بسخاء عليها حتى إبان اشتداد الأزمة الاقتصادية.
ختاماً: المعركة ستكون طويلة المدى بلا شك، وكأي معركة من هذا النوع فإن صاحب النفس الأطول هو الذي سينتصر. السعودية تبدو حتى الآن الطرف الأقوى وستظل أقوى طالما تمسكت باستقلال قرارها عن الشريك الأمريكي التقليدي الذي بات من الواضح أنه لا يبحث إلا عن مصلحته. بلاد الحرمين ستخرج منتصرة ما لم يخذلها حلفاؤها المقربون الذين كان وجود بعضهم في صفها رهناً بفوائد مادية أو سياسية. النقطة الأخيرة هذه مهمة لأنها تهدد بتغير البوصلة مع تغير مؤشر المصالح، وهو ما يعني ضرورة أن يفرق صناع القرار بين التحالفات التكتيكية المؤقتة وتلك الإستراتيجية الدائمة التي يمكن بجدية التعويل عليها.
ما فات ليس سوى مقدمة تمهيدية، وهي دعوة لتسليط الضوء أكثر على خفايا الحرب الدعائية التي يبدو أن إيران قد بدأتها منذ وقت مبكر وباحتراف. من جانب آخر تأتي تفاصيل، كذلك الفيلم الوثائقي الذي يمجد «الزعيم حسن نصر الله» والذي عرض في العشرين من فبراير 2016 على قناة إخبارية سعودية، ليؤكد إلى أي حد يمكن أن يصل الاختراق الإيراني البارد.
:: مجلة البيان العدد 351 ذو القعدة 1437هـ، أغسطس 2016م.
[1] انظر مقالنا: حرب الدعاية الباردة.. مقدمة أولى، صحيفة القدس العربي، 23/2/2016م.
[2] Lunch with the FT: Bill Burn: http://cutt.us/RRN4y.
[3] http://cutt.us/Vj0Q ،
[4] في بداية هذا العام تمت إثارة قضية تلقي حزب بوديموس الإسباني وزعيمه بابلو إغليسياس لتمويل من جهات إيرانية.
[5] Can Iran change?, Adel Bin Ahmed Al-jubeir ,The New York Times, 19/1/2016.