إعادة التوازن.. قراءة في كتاب "الماجريات"
في شعبان 1436هـ أصدرت دار الحضارة للنشر والتوزيع كتابًا بعنوان «الماجريات» من تأليف فضيلة الشيخ إبراهيم بن عمر السكران حفظه الله، والكتاب يقع في 344 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على مدخل وانطلاقة وثلاثة فصول وخاتمة.
فكرة الكتاب:
من المهم قبل البدء في إبراز فكرة الكتاب أن أورد - بتصرف - توضيح المؤلف لهذه اللفظة المركّبة «الماجريات»، فهي تعني الأحداث والوقائع والأخبار، حيث تولدت بأسلوب التركيب المزجي: فـ«الـ» للتعريف، و«ما» الموصولية بمعنى الذي، و«جرى» بمعنى وقع وحدث، وجُمعت بالألف والتاء لتصبح «الماجَرَيَات».
وهي كلمة استعملها المؤرخون والأدباء في العصر الإسلامي الوسيط، كما نجدها عند ابن خلكان والسخاوي وغيرهم بمعنى الأخبار والحوادث، وآل بها الأمر إلى أن أصبحت تعني عند علماء السلوك: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها. قال ابن القيم رحمه الله: «فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به... ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب». فنجد أن علماء السلوك قد جعلوا الانشغال بالأخبار والحوادث العامة والخاصة التي لا نفع فيها من ضياع الأوقات وقلة البركة.
هذا ما يتعلق ببناء لفظة «الماجريات» ومعناها، أما الكتاب فهو يتحدث بشكل عام عن مسألة الانشغال بهذه الماجريات، أي الانشغال بتتبع الأخبار والحوادث والتعقيبات والتعليقات عليها، وعالجها المؤلف معالجة تأصيلية شرعية طبية نفسية، تمكن فيها باقتدار من سبر أغوارها وتتبع مسالكها، مستدعيًا الدلائل والشواهد المتنوعة، ليصل في خلاصة بحثه إلى أن الانشغال بالماجريات، سواء كانت اجتماعية أو شبكية أو سياسية، ينبغي أن يُضبط بعدد من الموازين ليكون - أعني الانشغال بالماجريات - نافعًا ومنتجًا وذا تأثير. وانفلات الموازين في هذه المسألة يفضي إلى أحد طرفين، إما الانهماك والإفراط المؤدي إلى ضياع الأوقات وقلة الإنتاج والسلبية والانتقال من موقع المؤثر إلى موقع المتفرج، وإما الانقطاع الكامل المؤدي إلى العزلة السلبية والانتقال من موقع المؤثر أيضًا، لكن إلى موقع الهارب من الواقع.
وكان المؤلف في كل منعطفات «الماجريات» يدعو إلى إعادة التوازن في الانشغال بالماجريات، فهو كما يحذر من الانهماك في الماجريات و«المتابعة المتفرجة» إلا أنه لم يدعُ أبدًا إلى الانقطاع الكامل عنها، كما نصّ مرارًا على هذا. يقول حفظه الله تعالى معقبًا على إحدى التجارب في الماجريات السياسية: والمبهج في كل هذه التجارب الأربع أن أصحابها أكدوا في صيغ متنوعة أن مقصودهم «التوازن» وليس قطع العلاقة المباشرة مع الواقع والشأن العام. ص223.
والمؤلف يعالج مسألة «الماجريات» في ظل طفرة انفتاحية على العالم بأحداثه وأخباره وأفكاره، وفي ظل توفر هذا الكم الهائل عبر القنوات الفضائية والأجهزة الذكية، التي لم يسلم من انفلات موازين ضبطها حتى طلبة العلم ومشايخه والدعاة والمصلحون! فهي مسألة ليست بالنادرة، وليست ترفًا علميًّا، بل هي شكوى مريرة باح بها علماء ودعاة ومصلحون، ومن هنا فإن قيمة الكتاب تتصاعد للحاجة إليه من هذه الشريحة بالذات قبل غيرها.
مراتع الماجريات:
في هذه الفقرة سأتناول بإيجاز تعريفًا لمباحث الكتاب وفصوله، فهو يتكون من مدخل مهم، وثلاثة فصول جواهر، وتعقيبات.
ثلاثة مداخل بديعة يمكنك الدخول منها لترتع في بساتين هذا السفر الخصيب:
المدخل الأول: يحكي واقعًا صادقًا لتأثير الانهماك في التواصل الشبكي على تعثر المشاريع والبرامج العلمية لشريحة مهمة من القراء وطلاب العلم، حيث تتبع تفاصيل الوقائع والتعليق عليها والمشاركة في نقاشاتها. ويذكر المؤلف أن الأمر أكبر مما كان يتصور وهو يفكر في هذه الإشكالية، حيث لم تعد الشكوى من هذه الإشكالية مقصورة على الشاب حديث العهد بطلب العلم والقراءة، بل باتت الشكوى من الخاصة من المشتغلين بالعلم والدعوة، وذكر نماذج واقعية صارخة.
المدخل الثاني: يوصّف إشكالية الانهماك السياسي الذي أصاب بعض الكوادر العلمية والإصلاحية وتأثيره عليهم، حيث يصور حال مجموعات من الشباب الذين ربطت بينهم حبال العلم والدعوة، ثم آلت بهم متابعة الأخبار السياسية وتطوراتها إلى أن أصبحت هي جوهر نشاطهم اليومي كبديل عن العلم والدعوة، وبالتالي أصبحت المهام العلمية العميقة وكذلك الدعوية شاقة عليهم.
المدخل الثالث: يلفت النظر إلى مشكلتين: ضعف الهمة وتسيّد التفكير الأفقي، اللتين أورثهما الانهماك في متابعة الأخبار والمهاترات الفكرية خصوصًا عبر الهواتف الذكية، حيث الانفصال التدريجي عن التنفيذ والإنتاج وتبديد الزمن. فإذا تزامن هذا مع البعد عن المشروعات العملية المنتجة وأصحابها فإن انحلال الدافعية وهبوط العزيمة سيتم بشكل متسارع.
والمؤلف يرى أن معايشة تجارب المنجِزين في العلم والثقافة والإصلاح من الأدوية الناجعة لهذا الداء، ولذلك جاء الفصل الثالث في هذا الإطار، لكنه لا يكفي بل لا بد من معايشة لنماذج حية.
ثم خطّ المؤلف حدودًا موضوعية لمعالجة المسألة مبتدئًا بتحرير أساس الدراسة حيث وصف المشكلة بأنها: مغالاة وإفراط في أصل صحيح مطلوب. وهذا تحرير مهم لئلا يظن أحد أن الدراسة جاءت لتحض على الانفصال الكامل عن الماجريات. وجاءت حدود مراد المؤلف ومقاصده كالآتي:
التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع، فكثير ممن اقتنع بضرورة فقه الواقع في العلم والإصلاح تحول لا شعوريًّا إلى الغطس في الماجريات والانغماس في دوامة الأحداث والوقائع حتى تجاوز القدر المطلوب وغرق في وحل الواقع.
التمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة، حيث يتوهم البعض أنه بملاحقة الماجريات الفكرية والسياسية قد يصنع شيئًا نافعًا، لكن الواقع العملي يثبت أنه مجرد متفرج لا غير.
التمييز بين زمن التحصيل والمتابعة وزمن العطاء، فالشاب في السنوات الذهبية للتحصيل العلمي يفترض أن يكون انكبابه وتركيزه الأساس على استثمار هذه اللحظات الثمينة في حياته، فهي مرحلة بناء وليست مرحلة عطاء.
التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة، هناك شريحة واسعة ممن اهتبلوا فرص النشر الشبكية والفضائية تحولوا من منتجين يوظفون الآلة إلى مستتبعين تخرطهم الآلة في ماجرياتها، وتحولوا من منتجين إلى مستهلكين لأدنى ما تنتجه هذه الآلة من مهاترات فكرية وشائعات سياسية.
التمييز بين فصل السياسة ومرتبة السياسة، فالسياسة لها منزلة في سلم المطالب، وهذه المنزلة تخصصية، أي أن السياسة تخصص مطلوب، ومعنى ذلك أن المتخصص ينبغي له استيعاب تفاصيلها بقدر إمكانه، وأما غير المتخصص فيكفيه أن يعرف مجملات الواقع السياسي.
الفصل الأول جاء تأصيلًا لمسألة «الماجريات» من حيث البناء اللغوي اللساني، كما سبق بيانه بإيجاز، ومن حيث التعرض لرأي علماء السلوك فيها، حيث حذروا رحمهم الله من صحبة الماجرياتيين الذين ضاعت أوقاتهم فيما لا ينفعهم لا دينًا ولا دنيا، كما حذروا من تبديد الطاقة الذهنية التي وهبها الله للإنسان بقدر معين في هذه الماجريات، قال ابن القيم: «أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة... وبإزاء هذه الأفكار [النافعة]: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق، ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس، وماجرياتهم، ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة»، وبيّنوا أن التطلع إلى الكمال يقتضي البعد والهرب من هذه الماجريات، قال ابن القيم عن الأخفياء: «أثقل شيء عليهم: البحث عن ماجريات الناس، وطلب تعرّف أحوالهم، وأثقل ما على قلوبهم سماعها، فهم مشغولون عنها بشأنهم»، وأنها قد تكون من لهو الحديث الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْـحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: ٦]، كما نص على ذلك شيخ التفسير ابن سعدي رحمه الله.
بل قال ابن الجوزي: «ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة... ومنهم من يقطّع الزكان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك، فعلمت أن الله تعالى لم يُطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم».
والحقيقة أن المؤلف استعرض عددًا من أقوال أهل العلم في هذا الإطار، وهي قوية في التنويه بخطورة الانهماك في ماجريات السياسة والمجتمع.
الفصل الثاني عقده المؤلف بعنوان: «الماجريات الشبكية»، وهو ألماسة بين جواهر الكتاب، حيث تطرق المؤلف بتفصيل ماتع إلى المرض النفسي «اضطراب إدمان الإنترنت» IAD بشكله الطبي والتصور العلمي له، فهذا المرض يحمل من الأعراض قريبًا مما يحمله الإدمان على المخدرات والكحول والقمار! كالإخفاق الدراسي، وتدهور الأداء المهني، وأحيانًا الانفصال الأسري، وأتى بشواهد على ذلك.
ومنه، وببراعة ملفتة للانتباه، نفَذ المؤلف إلى تفاصيل دقيقة في هذا الباب مما يتلبس به الماجرياتيون كالتصفح القسري حيث يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى التصفح أثناء الأوقات الجادة المخصصة للمهام كحضور درس أو اجتماع، والأعراض الانسحابية مثل التوتر والقلق والانزعاج المصاحبة للتوقف المفاجئ عن التصفح، والهروب النفسي من تعقيدات المهام والمطالب العلمية والعملية، والتصفح الملثم حيث يخفي المتصفح أو يموّه كمية الوقت المستغرقة على الشبكة أو يدخل بمعرِّف آخر لا يعرفه الناس به، والعمى الزمني وهو فقد الإحساس بالزمن، وإدمان البيانات.
ثم تسلل المؤلف إلى مظاهر أدق في هذا الباب كتسلسل التصفح والنبأ المتدحرج ومسلسل الخبر والتعليق والتعليق على التعليق، واستطاع المؤلف أن يصف لحظات التسلسل وتأثير النظراء على استمراء هذه الحالة. وعرّج على المهاترات الشبكية وغيرها من الحيل النفسية التي نتلبس بها ونحن نتصفح ماجريات الشبكة.
الفصل الثالث: على طوله بالنسبة لسابقيه يعتبر مجموعة من الشواهد الواقعية على نتيجة البحث وهي أهمية التوازن في متابعة الماجريات السياسية والانشغال بها، سواء كان ذلك في المضامين المفاهيمة أو في الأدوات والتقنيات، وهو بهذه الشواهد يهدف إلى وضع القارئ في جو تجارب حقيقية كان لأبطالها موقف متوازن من الماجريات. وتعرض لخمسة نماذج فذة، هم: أبو الحسن الندوي، و د. عبدالوهاب المسيري، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، و د. فريد الأنصاري. رحمهم الله.
يستعرض في كل نموذج سيرته المفيدة، ثم يتبعها بالشواهد والتحليلات لما كان عليه من توازن مثمر في هذه المسألة، مع اختلاف الزاوية التي ظهر توازنهم فيها.
النموذج الأول: العالم المصلح البشير الإبراهيمي:
في القسم الأول من دراسة النموذج ذكر المؤلف تأثير عمه العالم المربي عليه، حيث وضع لابن أخيه البشير برنامجًا علميًّا منذ الصغر انتهى بتكوين علمي هائل، حيث حفظ البشير الإبراهيمي القرآن الكريم مع فهم مفرداته وغريبه، وألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وجمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقزويني، ورقم الحلل لابن الخطيب، والكثير من شعر أبي عبدالله التلمساني، ومعظم رسائل بلغاء الأندلس، وغيرها الكثير. كان ذلك في في التاسعة من عمره.
وتوقف البرنامج العلمي له بوفاة عمه، وكان عمره حينها أربعة عشر عامًا، ثم في أوائل العشرينات من عمره رحل إلى المدينة النبوية وانكب على خزائن المخطوطات فيها وعكف عليها قراءة وحفظًا ودراسة.
وفي الجانب الإصلاحي من سيرة الشيخ البشير الإبراهيمي نلمس عمق الفكرة لديه، ومن المعلوم أن مشروع الشيخ كان مناهضًا للمشروع الاستعماري الذي فرضه الفرنسيون على الجزائر، واستعملوا فيه عدة وسائل كتوظيف الطرقية الصوفية في تخدير الشعب المستعمَر، وشراء ذمم بعض المنتسبين للعلم، فعمل مع رفاقه خطة مبنية على ثلاثة أسس: التعليم المنظم، ومأسسة العلماء، والإعلام الإصلاحي. فأنشأوا جمعية العلماء الجزائريين، وبنوا المدارس ووضعوا لها المناهج والأنظمة، وأنشأوا عدة مجلات علمية، وكان العمل يسير بشكل مكثف ودؤوب إلى درجة أن الشيخ البشير كان يلقي في اليوم الواحد عشرة دروس إضافة إلى أعماله الأخرى، ناهيك عما أصابه من أذى جراء نشاطه الإصلاحي.
والمؤلف تطرق لمواقف وأحداث التجربة الإصلاحية بشكل كافٍ، حيث يضع القارئ على حقبة تاريخية إصلاحية مهمة.
وفي القسم الثاني من دراسة النموذج يعنون المؤلف له بـ: «التمييز بين اللباب والقشور» ويعرضه من وجهة نظر الشيخ البشير، فإن الشيخ البشير قدم تمييزًا مفهوميًّا في ذلك، فهو يرى أن لباب السياسة هو إيجاد الأمة بتثبيت مقوماتها من جنس أو لغة أو دين، وتقاليد صحيحة وعادات صالحة، وبتصحيح عقيدتها وإيمانها، وبتربيتها... إلخ، أما الانتخابات والتمثيل البرلماني ونحوها فهي من قشور السياسة. والشيخ بهذا التمييز لا يدعو إلى الانفصال التام مع الماجريات السياسية، بل يؤكد أن طالب العلم المبتدئ لا ينقطع عن الواقع كليًّا بل يكفيه في مبتدأ الطريق: الجُمل العامة من الاطلاع على الأحداث والأخبار، ويجعل صلب وقته للتحصيل العلمي.
النموذج الثاني: مالك بن نبي:
في القسم الأول من دراسة النموذج يقسم المؤلف حياة مالك بن نبي تبعًا له إلى أربع مراحل: مرحلة الطفل (1905-1930م)، ومرحلة الطالب (1931-1936م)، ومرحلة الهائم المنبوذ (1936-1945م)، ومرحلة الكاتب (1946-1973م).
إذا تجاوزنا المرحلتين الأوليين، فإن المرحلة الثالثة تعبر عن القسوة والضغوط التي واجهها في حياته في تلك المرحلة بسبب جهوده في إيقاد همم الطلاب الجزائريين والعرب في باريس ضد الاستعمار.
وفي المرحلة الأخيرة بدأ مالك بن نبي بنشر مؤلفاته باللغة الفرنسية ثم بالعربية، ويعتبر كتاب «شروط النهضة» كتاب الأم بالنسبة لمالك، بحسب رأي المؤلف.
أهم سؤالين كان مالك بن نبي يدور حولهما في كتاباته: كيف نقاوم الاستعمار؟ وكيف ننشئ الحضارة؟ وعليهما تدور مؤلفاته وكتاباته.
من الأفكار المهمة لدى مالك أن الحضارة ينبوعها الدين. وهو في معالجاته للحضارة يؤكد على أهمية أمرين: أهمية الأفكار، ومركزية القيم الأخلاقية. كما يضع مالك بن نبي «العمل» في أولويات البناء الحضاري. وللمؤلف نقد في تصنيف بعض المفكرين العلمانيين والحداثيين لمالك بن نبي، حيث يعتبرونه يمثل خطابًا نقيضًا لخطاب سيد قطب، ويرى المؤلف خطأ هذا الطرح.
أما القسم الثاني في دراسة نموذج مالك بن نبي فيرى المؤلف أن المنطق العملي هو معيار مالك بن نبي في تقييم الحركة السياسية، ولذا فهو يثمن جهود المصلحين. ويرى أن الخطابات السياسية أشغلت الناس عن العمل والإنتاج الفعلي على الأرض، وانتقلوا للثرثرة السياسية. ويرى مالك بن نبي أن الذي جذب الجماهير إلى ذلك هو «شعار الحقوق الجذاب» الذي يجعل الأولوية للحقوق، بينما الصحيح - بحسب مالك بن نبي - أن الأولوية للواجبات الملقاة على أفراد الأمة، وأن الأمة إذا انشغلت بالحقوق عن الواجبات فإنما تسعى خلف السراب، وهو ما يسميه «الدروشة السياسية». يقول: ينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن «الواجب» يجب أن يتفوق على «الحق» في كل تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائمًا محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي «فائض قيمة»، هذا «الواجب الفائض» هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد. اهـ. ويرى مالك بن نبي أن جوهر الحكومة هو نتيجة للوضع الاجتماعي، وأن الحقوق نتيجة حتمية للقيام بالواجبات، وأن السجالات السياسية دروشة.
وبهذا يتمحور الفكر السياسي لدى مالك بن نبي حول المنطق العملي والإنتاج الفعلي لبناء الحضارة وليس على المتابعات السياسية التي لا تختلف كثيرًا عن الطرقية الصوفية! من وجهة نظره.
النموذج الثالث: أبو الحسن الندوي:
في القسم الأول من دراسة النموذج يستعرض المؤلف السيرة العلمية له وهي سيرة عطرة، يدل عليها أنه يتقن أربع لغات: الأوردية والفارسية والعربية والإنجليزية، وكان يراجع بعض اللغات عند الحاجة كاليونانية والسنسكريتية والعبرية واللاتينية. يقول: طالعت قريبًا تاريخ أوروبا سياسةً واجتماعًا وديانةً وخلقًا وحضارةً وثقافةً، بنهامة وفي توسع وعمق... هذا عدا تاريخ الأقطار الشرقية والإسلامية، ودياناتها وحركاتها وفلسفاتها، وتاريخ الإسلام والمسلمين، وتاريخ العرب في الجاهلية والإسلام. اهـ.
وألف كتابه المعروف «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» وطاف بلدان العالم الإسلامي وصار له حضور دعوي عميق.. وينصب جل حديثه واهتمامه حول قضايا الإصلاح والنهوض بالأمة.
في القسم الثاني من دراسة النموذج يؤرخ المؤلف لجهد أبي الحسن الندوي في تأصيل منزلة وتعريف السياسة في الإسلام، ونقده لمن يجعل الحاكمية هي الغاية. ويرى أبو الحسن أن الحكومة الإسلامية ليست هدفًا يُسعى إليه، وإنما هي نتيجة لصحة الدعوة الإسلامية.
النموذج الرابع: د. عبد الوهاب المسيري:
في القسم الأول من الدراسة يتحدث المؤلف عن المسيرة العلمية والفكرية للمسيري، فهو صاحب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» (8 مجلدات)، التي استغرق العمل عليها قرابة ثلاثين عامًا، وكانت تستغرق وقته، حتى إنه لينقطع في اليوم 15 ساعة لأجل إنجازها، ولأجل بحثه هذا فقد غامر المسيري بحياته وممتلكاته، إلى درجة أن منظمة «كاخ» الصهيونية بعثت له رسالة تحذير، تطلب منه فيها التوقف عن نشاطه الفكري. إضافة إلى عشرات الكتب في الصهيونية واليهودية. المؤلف ذكر مغامراته بخصوص الموسوعة. ويرى المؤلف أن منطقتي العمل في كتابات المسيري الفكرية هما: الأولى دراسة وتفسير الظاهرة اليهودية معرفيًّا، والثانية نقد الحداثة الغربية ومنتجاتها الفكرية.
ثم استعرض المؤلف تاريخًا للتحولات الفكرية في حياة المسيري، وتأثير المدارس الفكرية عليه، وكعادة المؤلف - نفع الله به - فهو لا يؤرخ دون تحليل، وقد يضطر إلى النقد عند الحاجة، كما صنع هنا في مسألة «العلمانية الجزئية والشمولية» المشهورة عن المسيري، حيث أشكل على البعض قبول المسيري للعلمانية الجزئية، وأن هذا يعد انحرافًا. فأوضح المؤلف أن العلمانية الجزئية في منظور المسيري هي إحالة المسائل الإجرائية والفنية إلى أهل الخبرة لا إلى الفقهاء بشرط ألا تعارض المرجعية الشرعية، ولا تعني بحال رفض هيمنة الأحكام الشرعية على باب السياسة.
وفي القسم الثاني من دراسة النموذج يوضح المؤلف أن المسيري في مشروعه المعرفي كان بحاجة إلى أن يكرس له نفائس الأوقات، ولذا كان المسيري يرى أن متابعة الأحداث والماجريات السياسية اليومية عبر الإعلام يجره إلى دوامة الحدثية والوقائعية، فيشل قدرته على الإنتاج ويحوله إلى «كاتب حدثي»، وبسبب هذه القناعة قرر المسيري أن يتجنب الكتابة عن الأحداث والوقائع، على الرغم من كونه عاش أحداثًا كبيرة كحرب النكسة 67 وحرب النكبة 73 والانشغال العالمي بهما. وهو يصرح بهذا ويسميه «الانغلاق النسبي» و«الانفصال المؤقت عن الواقع».
المسيري وصل لدرجة أكبر من حيث رفضه لمتابعة الماجريات السياسية، فقد كانت له لقاءات متلفزة، وحين تنافست عليه القنوات الفضائية قرر التوقف الكامل عن هذا النوع من النشاط، لأنه يعطله عن مشروعه المعرفي، وأطلق عبارته الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا غير موجود».
المسيري - باختصار - يرى أن الانهماك في متابعة الأحداث السياسية والسجالات الفكرية لا يبني مشروعًا ولا يساعد عليه.
النموذج الخامس: د. فريد الأنصاري:
في القسم الأول من النموذج يؤرخ المؤلف لمسيرة د. الأنصاري العلمية والإصلاحية بشيء من التطويل بالنسبة لسابقيه.
ويقسمها إلى أربعة محاور:
- المحور العلمي والأكاديمي، حيث تخصص د. الأنصاري في أصول الفقه، ثم تخصص في «أصول الشاطبي» وقد تمكن من هذا التخصص، وألف بعمق عن «المصطلحات».
- محور الكتابة التزكوية، حيث كتب بعمق وتركيز وبجمال أيضًا عن تزكية النفوس، بكتابات بديعة ذات لغة خلابة وجميلة آسرة.
(حقيقةً إنني أعرضت عن بعض النقاط؛ لا شك أنها مهمة؛ وربما قارئ الكتاب يلومني في ذلك، وإنما تركتها خشية الإطالة. فليعذرني القارئ الكريم).
- محور العمل الدعوي الحركي، استطاع المؤلف أن يقدم لهذا المحور بسرد تاريخي عن الحركة الإصلاحية بالمغرب وتأثرها بالمنهج السلفي، ثم اصطدامها مع السلطة، وقد عاش د. فريد في جدلياتها ولججها، وتطورت رؤيته حتى صاغ نظريته «التضخم السياسي».
في القسم الثاني من دراسة النموذج يعرض المؤلف جهد ونتاج النموذج في علاقة السياسة بالمشروع الدعوي، حيث صاغ خمس رسائل فكرية في هذا الإطار، وهي: «التوحيد والوساطة في التربية الدعوية»، و«الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب»، و«البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي»، و«الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب»، و«الفطرية: بعثة التجديد المقبلة».
انتقد في رسالته الأولى (1995م) الأدبيات الدعوية التي تمجد التنظيم بما يؤدي للحزبية والتعصب حتى يكون التآخي بين شباب الصحوة مبنيًّا على الآصرة التنظيمية لا العقدية الصافية.
وفي رسالته الثانية (2000م) انتقد الحركة الإسلامية في كونها انساقت لصراع خارج الحلبة، من خلال واقعها الحركي السياسي.
وفي الرسالة الثالثة (2003م) بيّن د. فريد الأنصاري موقع المسألة السياسية من مشروع التجديد الإسلامي.
وفي رسالته الرابعة (2007م) يذكر د. فريد أن أكبر خطأ وقعت فيه الحركة الإسلامية هو إنشاء حزب سياسي لها، وأن الحزب السياسي جعل أبناء العمل الإسلامي منشغلين بهموم الناس الدنيوية فقط. يقول رحمه الله: «وانسحبت التربية الإيمانية الدافئة من مجالس الإخوان، لصالح التربية السياسية القارسة».
أما رسالته الخامسة (2009م) فهو يدعو فيها إلى خلع رداء الحركة، والانتقال إلى نطاق الدعوة العامة. وذلك بعد خيبة الأمل لديه من إصلاح التضخم السياسي في الحركة الإسلامية.
حصائل وتعقيبات تعتبر خاتمة للكتاب يراجع فيها المؤلف مفاهيم الكتاب الرئيسية ويؤكد على فكرة «التوازن» في مسألة الماجريات، مع التذكير بأهمية صرف نفائس الأوقات والأعمار في التحصيل العلمي النافع.
جماليات:
الكتاب من ألفه إلى يائه يبحث مسألة الماجريات ويعالج تفاصيلها، لكنك حين تقرؤه ستبهرك معالم الجمال في نواحيه، فهو في ناحية منه يعرض مسألة طبية «اضطراب إدمان الإنترنت» فتشعر أن بين يديك مقالة طبية من مجلة متخصصة، وفي ناحية أخرى منه يعرض لك خبايا نفوس الصالحين وطلبة العلم وهم يتابعون الماجريات عبر الهواتف الذكية وغيرها، فكأنك تقرأ فصلًا من كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزي.
أما النماذج التي تعرض لسيرتها فيما أسماه «محيط النموذج» فقد كانت نوافذ تطل بعقلك منها على تاريخ علمي ودعوي وفكري للحقبة التي عاشها هذا النموذج، بأسلوب متسلسل رائع، وهو مع هذا يملك طاقة تحليلية تسهل عليك فهم كثير من المغلَقات، ويقوم بتنظيم المعلومات والحقائق المتعلقة بهذه الحركات والدعوات الإصلاحية.
وفي نواحٍ أخرى تلمس المناقشة الأصولية الدقيقة، كما أنه يضع يد القارئ على قلبه هو - أعني المؤلف - وأحاسيسه ببيانٍ حلو المذاق.
نتيجة مهمة:
الكتاب من وجهة نظري ليس مجرد مناقشة علمية وعقلية لمسألة الماجريات، بل هو برنامج عملي في إدارة الأفكار وإدارة الأوقات، وأرى أن من الأهمية بمكان أن يتناوله المشتغلون بالدعوة إلى الله وإصلاح المجتمع ورواد مواقع التواصل الاجتماعي والمؤثرون فيها.
كما أرى أن يقرأه المربون والمشرفون على الأنشطة الطلابية والشبابية بشكل خاص، ليعيدوا التوازن في الماجريات، ويضبطوا الاتزان لدى المجموعات الشبابية.
إن الجوال الذكي يعد اليوم سمة عصرية، ليس الشباب بمنأى عن الماجريات المضمنة فيه، وحين نستشرف المستقبل فإنه - أعني الجوال الذكي - سيكون أحد المعطيات الرئيسية في بناء الرؤية التربوية.
وهي دعوة لأن يكون هذا الكتاب (الماجريات) مطلبًا عامًا لكل شاب دلف إلى المحاضن التربوية، طالبًا أو معلمًا أو مشرفًا، بغضّ النظر عن آلية تسريب مفاهيمه لدى المستهدفين.
إنه إضافة تربوية قيمة ومهمة في تهذيب النفوس وتزكيتها والمحافظة على طاقاتها من التبديد.
جزى الله فضيلة مؤلف الكتاب على ما قدمه خير الجزاء وأثابه أحسن الثواب.
:: مجلة البيان العدد 341 مـحـرّم 1437هـ، أكتوبر - نوفمبر 2015م.