مقدمة تأسيسية للتعريف بعلم الانتصار للقرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.. وبعد:
فإن العناية بالقرآن العظيم علمًا وتعليمًا، دراسة وتدبرًا، من أعظم ما يجب على أهل العلم والدعوة، فبه تسلك الأمة سبيل السعادة والطمأنينة {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩]، ومن أعظم أبواب العناية بالقرآن العظيم تعزيز اليقين به في نفوس المسلمين {الــم 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: ١، ٢]، ومن مقتضيات ذلك: الذبُّ عنه ورد الشبهات التي يثيرها المبطلون بالحجة والبرهان، خاصة شبهات المعاصرين التي سلوا فيها أقلامهم بالعدوان والتشكيك والتلبيس.
وليكون لنا سهم في ذلك نبدأ هذه الزاوية بعنوان: «الانتصار للقرآن الكريم» بالتعاون مع «مركز تفسير للدراسات القرآنية»، وهو أحد المراكز المتخصصة التي رفعت لواء الانتصار للقرآن العظيم والعناية به علمًا وتعليمًا.
نسأل الله عز وجل أن يملأ قلوبنا يقينًا، ويعيذنا من شبهات المبطلين، وانتحال المفسدين.
توطئة:
يتعرض القرآن الكريم لحملة واسعة منظمة تهدف إلى إثارة الغبار حوله بإثارة دعاوى وجود أخطاء فيه، والتدليل على عدم قطعية ثبوته وسلامته من التحريف والتناقض.
ولما كان العمل لذلك عملًا جماعيًّا منظمًا وجب على علماء المسلمين تجميع جهودهم وتنظيمها لبيان الحقيقة والدفاع عن القرآن الكريم، وعدم الاقتصار على جهود فردية مشتتة للدفاع عنه، والانتصار له، بقدر ما يتاح للمسلمين من الوسائل والإمكانات العلمية والتقنية لتحقيق ذلك.
وأقصد بعلم الانتصار للقرآن الكريم: «العلم الذي يبحث في معرفة الشبهات المثارة حول القرآن الكريم، والرد عليها بالحجة الصحيحة».
حكم الانتصار للقرآن الكريم وفضله:
الجدال في تقرير الحق وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وورثة الأنبياء من أهل العلم يقتدون بهم في حراسة الثغور، والانتصار للحق وتقريره. ويعد الانتصار للقرآن الكريم من صميم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المَهَم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُويَ بساطه وأُهمل علمه؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد.. ويدل على ذلك [أي وجوبه] إجماع الأمة عليه، وإشارات العقول السليمة، والآيات، والأخبار، والآثار»[1].
وليس ذلك مِنَّةً مِن الداعية أو نافلة تجعله يعطي للقرآن الكريم ما فضلَ من وقتِه، بل إنه حق للأمة يأثم بتركه، قال ابن تيمية: «المرْصدون للعلم: عليهم للأمة حفظُ الدين، وتبليغُه، فإذا لم يُبلِّغوهم عِلمَ الدين، أو ضيَّعوا حفظه: كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، فإنَّ ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها، فلعنَهم اللاعنون حتى البهائم»[2].
وقال: «كل مَن لم يناظر أهل الإلحاد والبدع، مناظرة تقطع دابرهم.. لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حَصَلَ بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامُه العلم واليقين»[3].
فوائد إبراز مكانة علم الانتصار للقرآن الكريم:
إيلاء الجامعات ومراكز البحوث والدراسات اهتمامها بهذا العلم يسهم في:
1. تقعيد قواعد وأسس هذا العلم حتى لا يدخله مَن ليس أهلًا له، فيفسد أكثر مما يصلح[4]. وإذا كان لا يُقبَل أن يَبحثَ في علوم القرآن الكريم الأخرى كالتفسير والقراءات والتجويد مَن ليس مِن أهلها، فكذا علم الانتصار للقرآن الكريم.
2. أن ينال هذا العلم نصيبه من البحث وخاصة في رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث المحكمة مثل غيره من علوم القرآن الكريم التي كثُرَت الدراسات والأبحاث حولها كالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، وجمع القرآن.
3. تجميع جهود العلماء السابقين واللاحقين؛ ليبني اللاحق على جهد السابق، ويلتقي العاملون فيه في منتديات مختصة ليتبادلوا الأفكار في شؤون العلم المختلفة، ويفيدوا من تجارب إخوانهم.
4. أعداء القرآن يهاجمونه بمنهجية منسقة واضحة المعالم، بينما الردود على شبهاتهم تقوم على جهود فردية متناثرة، بحاجة إلى تجميع وتنظيم، وتدريب وتأهيل، وتأصيل شرعي؛ ولا سبيل لكل ذلك إلا بإبراز مكانة العلم المختص بشؤونها، والضابط لشروط العاملين فيها.
5. التأسيس لهذا العلم يسهم في تجميع الأبحاث المتعلقة به في باب واحد؛ يشمل مؤلفات مهمة كالانتصارات الإسلامية للطوفي، والانتصار للقرآن للباقلاني، وما يشبهها من دراسات وبحوث.
وبدون تأسيس هذا العلم قد لا نعلم أين نصنف تلك المؤلفات ونبوِّبها تحت أي مبحث من مباحث علوم القرآن الكريم فهي ليست مصنفات مختصة في الناسخ والمنسوخ مثلًا ولا في المكي والمدني، ولا في جمع القرآن.. برغم أنها تتناول دراسة موضوعات في القرآن الكريم وخدمته.
حدود هذا العلم:
حدود علم الانتصار للقرآن الكريم، هي:
1. رصد وفهم الشبهات المثارة حول القرآن الكريم.
2. الرد على الشبهات المثارة حول القرآن الكريم بالحجة والبرهان.
3. وضع الآداب والشروط العلمية المطلوب توفرها بمن يعمل في الانتصار للقرآن الكريم.
4. بيان الملاحظات والمآخذ العلمية على الدراسات التي تحاكم القرآن الكريم (مصدرًا وأسلوبًا ومحتوًى) وفق أسس مناهج محاكمة النصوص الأدبية البشرية دون مراعاة خصوصيته الإلهية وتفرده عن كلام البشر، تلك الدراسات التي أسهمت في تقليل هيبة القرآن الكريم عند بعض العوام، وأسهمت في زيادة عدد متبني الأفكار المغلوطة حول القرآن الكريم؛ لأسباب من أبرزها: ندرة الردود العلمية عليها، وندرة وصول تلك الردود إلى الفئة المستهدفة بصورة ملائمة.
5. تجميع الجهود الفردية للعلماء المسلمين الذين بحثوا في الشبهات المثارة حول القرآن الكريم، والتعريف بها، والاستفادة منها.
ختامًا:
لا سبيل لتجميع جهود العاملين بالانتصار للقرآن الكريم، وتوجيه الأنظار لمزيد من العناية بموضوعاته، وتحقيق مخطوطاته، وتصحيح زلل بعض القائمين عليه؛ إلا بتوجيه أنظار المشتغلين بعلوم القرآن الكريم أنَّ الانتصار للقرآن الكريم يستحق أن تُبرز مكانته بصفته عِلمًا مستقلًا، له قواعده وأسسه ومحدداته وضوابطه الناظمة للتأليف والبحث فيه.
:: مجلة البيان العدد 335 رجب 1436هـ، إبريل – مايو 2015م.
[1] انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي 2/333.
[2] مجموع الفتاوى، ابن تيمية 28/187.
[3] درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 1/357.
[4] عن زياد بن حدير، قال: «قال لي عمر: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلامَ؟ قَالَ: قُلْتُ لا. قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلّينَ». رواه الدارمي في مقدمة سننه، باب: في كراهية أخذ الرأي، رقم: (214).