التدخل في الشؤون الداخلية للدول.. محاولة تفكيكية (2-2)
صور مختلفة للتدخل
من وجوه ظاهرة الاستضعاف الكبرى التي تمر بها دول المنطقة العربية استخدام حيل القانون الدولي لمحاصرة ما يفترض أن يكون «مصلحة قومية» لتلك الدول، فنجد أن بإمكان إيران التدخل السافر في سوريا لكن دول الخليج العربية ممنوعة من ذلك بل يعتبر أي تدخل لحماية أنفس وأعراض وممتلكات السوريين السنة دعمًا للإرهاب والتطرف وجريمة يسرع الجميع في دفعها عن نفسه.
إن مصلحة دول السنة التي تجاور سوريا، أو بمعنىً آخر: أمنها القومي، تقتضي حمايتها من التغول الإيراني وتهديدات المجموعات الشيعية، لكن ذلك غير ممكن في ظل القاعدة الأولى من اللعبة الدولية: تجريم التدخلات. ثم حتى إن تجاوزت تلك الدول هذه القاعدة فإنها لا تستطيع أن تتجاوز الحليف الأمريكي الذي يؤمّنها من الجوع والخوف، أو هكذا تعتقد، فتبقى تحركاتها محدودة وبما لا يخرّب نظام اللعبة الكبيرة.
ومثلما أبدعت العقلية الغربية في وضع قواعد اللعبة الأولى التي تحدد العلاقات بين الدول والمجموعات أبدعت كذلك في خلق ثغرات قانونية ذكية يمكن من خلالها النفاذ إلى أي دولة وخلق نموذج جديد من «الوصاية» عليها.
من أبرز تلك العناوين الكبيرة موضوع حقوق الإنسان، وهو عنوان ذو مشكلتين: الأولى غموض التسمية حيث يمكن لثقافات غير أوربية كالحدود الإسلامية أو التجارب الآسيوية أن تكون ضد «تطبيقات» حقوق الإنسان بطبعها، والثانية هي أن الدول الكبيرة لا تتعامل مع هذه القضية إلا بما يخدم مصالحها بحيث يكون ملف حقوق الإنسان آلية للضغط على الدول الأضعف فقط[1].
وينبثق عن هذا العنوان مفهوم جانبي آخر وهو ما يسمى بـ«الحق الإنساني العام».. أي حق التدخل في أي مكان في العالم يثبت للعلن أنه تتم فيه انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، لكنه كسابقه منحاز ولا يرى إلا حسب عين المصالح التي تحركه، ففلسطين ليست من اختصاصه وسوريا بكل مأساتها لا تحرك له ساكنًا ولا تلفت انتباهه إلا على سبيل عبارات الاستنكار والإحساس بالصدمة، فلا يجد نفسه مجبرًا على التدخل إلا على سبيل المعونات الإنسانية التي لا تحل سوى جزء يسير من تداعيات الأزمة، ثم لاحقًا لوقف امتداد ما سماها «المجموعات الإسلامية المتشددة»[2].
ثم يتفرع عن تلك الذراع القانونية ما يسمى بـ«محكمة الجنايات الدولية» التي مع مرور الوقت تبدو كأنها قد أنشئت بغرض محاكمة عدة قادة فقط، وكأن الجرائم في عالمنا المعاصر قد اقتصرت عليهم.
والجدير بالذكر هنا أن مصطلح التدخل الإنساني نفسه هو مصطلح جديد لم يظهر إلا في العقد الأخير من القرن الماضي، وذلك ببساطة للتناقض بين مفهومي «الحق في التدخل»، و«السيادة» التي هي من أهم حقوق الدول، لكن المشرّعين الدوليين قد استحدثوا هذا «الحق» الذي يتيح لأي دولة، وغالبًا ما تكون من الدول الأكبر، التدخل لحماية طائفة أو فئة أو جماعة منتهكة الحقوق.
ويبرر الواقفون خلف هذا التجديد القانوني لذلك بقولهم إنه لا يحق للدولة تحت ستار السيادة انتهاك حقوق مواطنيها.
ويقر مؤلفا كتاب «المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية» بالتشابه بين الغزو التقليدي والتدخل الإنساني حيث يعتبران أنه «لا يسهل رسم الخط الفاصل بين التدخل من ناحية والغزو من ناحية ثانية على الدوام، ولا هذا الخط ثابت ومستقر. بيد أن التدخل على عكس الحرب والغزو، يتضمن التأثير في الشؤون الداخلية في دولة ما بطريقة معينة من دون الاستيلاء على هذه الدولة أو السعي إلى هزيمتها في مواجهة عسكرية. وبما أن التدخل ليس غزوًا، فإن أعمال التدخل الإنساني يفترض بها أن تكون قصيرة المدى. والنتيجة أن التدخل الإنساني بحد ذاته لا يمكنه أن يحل الأسباب الاجتماعية والسياسية العميقة التي تقف وراء النزاعات»[3].
هذا لا يعني أن الدول الصغيرة الضعيفة في ميزان القوة العالمي لا تتدخل في شؤون غيرها، بل يعني أنها تتدخل إذا تم منحها الضوء الأخضر أو إذا تطابق تدخلها مع مصلحة الدول الأكبر فتكون تدخلاتها بتنسيق مع حلفائها من الكبار لضمان غض الطرف عن أي تجاوز للشرعة الدولية أو لحقوق الإنسان.
وهكذا تبدو اللعبة كبيرة عليك طالما كنت ضعيفًا بل يبدو لك أن المناوشات التي تشتعل صباحًا بين الكبار حول القرم أو جورجيا أو سوريا لا تلبث أن تنتهي مساء حين يلتقون في مرح متفقين على مواصلة اللعبة في صباح اليوم التالي.
لكننا لا نزال نحترم قواعد اللعبة ولا نزال نعتبر الدول الغربية حليفةً لنا ودولًا صديقة، كما كان اللورد كرومر صديقًا لسعد زغلول!
الدول المارقة
الدول المارقة وصف أمريكي بامتياز، وكما أوضح نعوم تشومسكي، في كتابٍ له بالعنوان ذاته، يمكن أن تفهم على أحد وجهين: وجه عدائي قد يعني أعداء أميركا بشكل عام، وآخر موضوعي تعنى به الدول التي لا تعد نفسها مقيدة بالأعراف الدولية، ولو تحرينا الموضوعية فهي - كما يعترف صاحب الكتاب - ليست في الغالب سوى الدول الأقوى[4].
هذا المصطلح الخلاب الجديد لا ينفصل عن رؤية أميركا لنفسها على أساس أنها مركز العالم بحكم الوجود والقوة وهو ما ظهر في تعريف أوباما الذي ورد ذكره للأمن القومي.
ماذا يعني وسم بلد بأنه مارق؟ ذلك ببساطة يعني أنه لا تسري عليه الأحكام الدولية التي حرّمت آنفًا التدخلات السياسية والعسكرية المباشرة، وهو ما يجعل ذلك البلد وموارده في دائرة الاستباحة.
هي عصا تتيح التدخل في إطار القانون الدولي وتبيح لنفسها من خلاله استخدام كل أداة في سبيل إخضاع ما سمتها «الدولة المارقة».
هذه العصا لا تعمل وحدها، لكن بإمكانها استعمال الذراع القانونية للأمم المتحدة، مجلس الأمن، الذي يملك الحق في ضبط إيقاع العالم بما يكفل الأمن والسلم الدوليين، وهو الجهة الوحيدة التي تملك حق إلزام كل الدول بقراراتها.
لن نناقش في هذه العجالة تاريخ المجلس وانحيازه لصالح أميركا وحلفائها خاصة في الشأن العربي، لكن من المهم هنا التأكيد على أن هذا الانحياز ليس جديدًا وليس مختصًا بالصراع مع العدو الصهيوني؛ حيث يبدو المجلس وكأنه ولد ليكون متحيزًا أو ليستعمل في بعض الأوقات لا كلها، وبحسب حاجة الكبار.. وأكثر من ذلك فقد ذهبت الولايات المتحدة ولمرات عديدة إلى إعلان عدم خضوعها للأعراف الدولية، بل أظهرت السخرية منها خاصة حين يتعلق الأمر بدولة صغيرة كـ«نيكاراجوا» ذهبت تشتكي محكمة العدل الدولية ذات يوم وإبان فترة الرئيس رونالد ريجن من تدخلات الجار الأكبر في شؤونها.. حينها أبدى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جورج شولتز استغرابه من اعتماد نيكاراجوا على وسائل قانونية طوباوية (مثالية) مثل المحكمة الدولية والأمم المتحدة وتجاهلها عنصر القوة في المعادلة[5]!
لكن من يسميها تشومسكي نفسه بـ«الدولة المارقة» هي الممول الأكبر للمنظمات التي تتحكم في العلاقات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، ولعل المتابع يذكر كيف تعاملت أميركا بطفولية في الفترة الثانية من ولاية الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، بعد أن خسرت تصويتًا دوليًا خرجت على إثره من لجنة حقوق الإنسان ومن لجنة مراقبة مكافحة تجارة المخدرات، حيث رفضت تقديم الدعم المقرر للمنظمة بل وحتى اشتراكها السنوي!
حين يتعلق الأمر بالولايات المتحدة لا أحد يتحدث عن الحقوق أو عن الحدود وعن احترامها أو حتى عن قواعد اللعبة التي يجب أن تحترم، فيمكن للدولة الأكبر دائمًا أن ترفض أي قرار ومساءلة كما يمكنها أن تتدخل عسكريًا وفي أي مكان بالعالم بموافقة المجلس الدولي أو بدونها، فهي كانت الدولة الأسبق لنقض دستور الأمم المتحدة الذي شاركت بوضعه، والذي يمنع التهديد، مجرد التهديد، بالقوة إلا بعد قرار من مجلس الأمن، كما كانت الأسبق لتجديد قاموس العدالة الدولية بإدخال مصطلحات غامضة مثل: الحرب العادلة، الحرب الاستباقية، الحرب الوقائية، إلخ.
الولايات المتحدة هي من قام بتغيير مفهوم «العدوان» الذي وضعته مع رفاقها: الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، وتأسست عليه محكمة نورنبيرغ، وهو ما كان مهمًا حتى يتم التمهيد للتدخل والاحتلال السافر للعراق وأفغانستان[6].
المسألة الفلسطينية:
كنت أود أن أدلف مباشرة لموضوع قطاع غزة كمثال على التعامل الأممي المنحاز، لكنني وجدت أن أسئلة كثيرة يجب أن تناقش قبل الشروع في الحديث عن أزمة قطاع غزة الذي لا يمثل سوى مجرد جزء من أزمة فلسطينية، بل من أزمة معرفية ومبدئية أكبر.
وحتى تتضح الصورة أقول إننا إذا استسلمنا للقانون الدولي ولقواعد اللعبة الحاضرة في المسألة الفلسطينية فإننا يجب أن نتعامل بقواعد تلك اللعبة المبنية على ما شرعه «المجتمع الدولي»، فلا يمكن أن ندخل في منتصف الطريق قواعد من عندنا تراثية كانت أو عقدية أو غيرها.
هذا الاستسلام المبني في مجمله على الواقع الذي صاغه «المجتمع الدولي» يتأسس على ثوابت وركائز أهمها أن للعدو الصهيوني دولة قائمة بالفعل، صحيح أنها دولة متعاظمة بلا حدود معروفة وكأنها ألمانيا وهي تتبع نظرية راتزل، إلا أنها موجودة ومعترف بها منذ عام 1948، في حين يبقى «الكيان» الغامض الفسطيني في مرحلة ما بين الدولة والإقليم التابع لدولة «إسرائيل» الأم.
هذا هو، وبدون مجاملة أو لباقة، المنظار الذي ينظر به إلى القضية حتى غير المنحازين من الغربيين، فلا أحد يمكن أن يتعاطف معك بحيث يرجع إلى فترة الانتداب البريطاني وما قبلها لتقرير حقك على تلك الأرض، خاصة إذا لم تكن تملك وسائل ضغط تفرض بها هذا التعاطف.
هكذا يبدو مفهوم «الدولتين» نفسه مفهومًا به تغرير واضح، حيث إن إحدى الدولتين المفترضتين قائمة بالفعل في حين لا يوجد مكان لدولة أخرى إلا على أطراف بقعة متصاغرة من الأرض!
من داخل هذه الركيزة تصبح فكرة معاداة «إسرائيل» نفسها بلا معنى، وهنا يمكن فهم خطورة اللعبة التي تجرك دون أن تدري فتعترف بالكيان الغاصب على أنه دولة جارة وتسقط مع ذلك كل شعاراتك، بل تصبح حتى فكرة مقاطعة البضائع فكرة غير متسقة مع التشريعات الدولية ما عدا طبعًا البضائع المصدرة من داخل أراضي 1967 أي التي تغول عليها الاحتلال بعد الحرب!
هذه مجرد إشارة طرحناها، لنتجاهلها ولنسير مع «المجتمع الدولي» وثوابته راضين بحدود 1967 واتفاق أوسلو الذي أفضى إلى سلطة بلا سيادة على بعض أرض فلسطين.. هذا الاتفاق الذي أضحى هو أيضًا من الثوابت التي تحتكم إليها دول المنطقة، لكن حتى في ظل هذا التسليم الجدلي يبرز سؤال: ما بال قطاع غزة محاصرًا؟ وبأي حق يستولي الكيان الصهيوني كل يوم على أراضٍ جديدة؟ ولماذا لا يعاقب القانون الدولي تلك الدولة أو الكيان المعتدي؟
هي أسئلة ستكون لوقت طويل بلا إجابة.. وبالعودة إلى قطاع غزة أقول إنني اخترته كمثال واضح على عبثية تلك الشرعية الدولية وفراغها من محتواها.. شرعية كلما أسلمت لها نفسك أكثر تخلت عنك أكثر.. شرعية تقنن الحصار وتتفرج بصمت على شعب ممنوع من مياهه وموانئه.. شعب حر ومستقل لكن بلا مطار.. حر ومستقل لكن بلا ضرائب ولا جمارك ولا عائدات إلا ما تصادق عليه الدولة التي يفترض أنه قد استقل عنها.
أي شرعية تلك التي تسمح لجارة غزة العربية الكبيرة بتشديد الحصار على القطاع بحجة تأمين نفسها، وكيف يمكن لذلك المجتمع الدولي أن يغلق أبوابه وآذانه عن سماع صرخات الأطفال والنساء والمحتاجين ويكتفي بانتظار انتهاء العدوان حتى يدعو لمؤتمر لإعادة الإعمار؟
إن شرعية وضعية تعتمد على مصالح المجموعات الأرضية وتضعها فئة من الناس دون غيرهم لا يمكن إلا أن تكون شرعية منقوصة، بل وشريرة!
أما مفهوم «التطبيع» فهو مفهوم مخادع، فالعلاقة الطبيعية مع المحتل ليست سوى علاقة مقاومة وممانعة.. هذه هي سنة ونواميس هذا العالم، ومن غير الطبيعي أن تطالب السجين المقيد والمسروق المغتصب بأن يحتفظ بعلاقة محبة وتعاون مع سجانه وسارقه ومغتصب أرضه.
نقطة أخرى هي أن الأصل في القانون أن يحفظ مصالح الناس وقبل مصالحهم المادية أرواحهم، فإذا اعتبر القانون الدولي أن من حق أي دولة مجاورة تشديد الحصار على قطاع غزة، أو على أي أرض أخرى تلفها الحرب، فهو بذلك يكون قانونًا غير إنساني، والواقع أننا لا نرى ذلك في أي نزاع في العالم إلا في ذلك القطاع المحاصر بين نيران العدو وغدر الأشقاء.
عصر القوة:
من فضول القول أن نقرر أن الدول الكبرى هي الأقوى اقتصاديًا أو لأنها الأقوى اقتصاديًا فهي من يحدد شروط وأصول اللعبة بما يتيح لها متابعة استغلال الدول الأضعف وتوجيهها لتخدم مصالحها.
للمحافظة على ذلك التقدم فإن الدول الأكبر ترى أن واجبها هو احتكار الطفرات الاقتصادية وقبلها المناهج العلمية التي أوصلت إليها بمعنى أن عليها بشكلٍ ما أن تبقي البقية الغالبة في دائرة التخلف والتبعية.
هكذا تنتهي كل الأدبيات حول الندية والمساواة بين الدول، فدول قليلة فقط يمكنها أن تصنع لك سلاحك وبالتأكيد فإنه لا يمكنك أن تأخذ السلاح بيد وتتحدى صاحبه بيدٍ أخرى!
الحقيقة أننا نعيش في عصر القوة الذي لا مكان فيه للضعفاء وهو ما قالته بوضوح السياسية البريطانية الأشهر مارجريت تاتشر ذات يوم وهي تعبر عن إيمانها بما يسمى بـ«الدارونية الاجتماعية»[7]: «إن مهمتنا بلوغ المجد في سباق اللامساواة»[8].
إنه العصر الذي يضع فيه القوي شروطه ثم يجعل فرصة لكلٍ من القانون الدولي والمؤسسات العالمية لتوفق أوضاعها بحسب ما تقتضيه هذه الشروط.
في هذا العصر يجوز للدول الغربية ذات السطوة والقدرة التدخل بما يخرق سيادة أي بلد في هذا العالم وبما يحقق ما تراه مصلحة لها اقتصادية أو وطنية أو أمنية.
أملٌ دونه عقبات:
ليس غرض المقال الترويج للاستسلام والتسليم بهذا الواقع المرير، بل نعتقد أن الإيمان بالغرب كمحرك لهذا العالم وأنه لا يحدث شيء إلا بتدبيره، فهذا شرك بالله عز وجل. الأمل موجود لكن دونه عقبات كثيرة أهمها ضرورة توحيد الجبهات الداخلية أولًا حيث إن من أهم خلاصات هذه الدراسة، بل أهم ما خلصت إليه أبحاث العلوم السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة هو أن السياسة الخارجية إنما تبدأ من الداخل وأن من الصعب تحقيق سيادة كاملة في ظل قهر وتسلط ومشاكل متعددة داخلية ولعل الكتاب الذي صدر بهذا العنوان: «السياسة الخارجية تبدأ من الداخل»، لرئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ريتشارد هاس هو أكبر دليل على ما نقول؛ حيث ذهب إلى أن التحدي الذي يواجه أميركا ليس مشكلة الشرق الأوسط ولا الإرهاب ولا التغير المناخي ولا التحدي الصيني، بل الهموم الصغيرة الداخلية والسخط على السياسات الاقتصادية وانحسار الوظائف والتردي في بعض المؤسسات وبدون حل جذري لهذه القضايا الداخلية؛ فإن أميركا لن تستطيع طويلًا البقاء على مكانتها العالمية[9].
وإذا كان هذا هو حال الولايات المتحدة فيمكنك أن تقيس على تلك القاعدة حال جميع البلدان والأقطار.
هناك أمل، وأكثر من ذلك فإن أحداثًا كثيرة في هذا العالم الذي نعيشه تجعلنا نوقن بأن قواعد اللعبة في طريقها للتغير لا على يد واضعيها هذه المرة، بل على يد أولئك الذين كانوا لوقت طويل مجرد حقول تجارب للقوى الدولية المختلفة.
لقد كانت الثورات العربية أو ما سمي بالربيع العربي أفضل مثال على إمكانية الاختراق، وقد كانت صدمة لأولئك المؤمنين بقوة الغرب وهيمنته حيث لم يروا فيها في البداية إلا مخططًا أمريكيًا، لكن حينما أتت بالإسلاميين عن طريق الرغبة الجماهيرية وصناديق الانتخابات سقطت أوهام المؤامرة إلا عند عدد قليل حاول ربط الإسلاميين بالغرب الذي يتحالف معهم سرًا ويحاول أن يقودهم للحكم، في مغالطة واضحة مع التاريخ القريب ناهيك عن البعيد.
صحيح أن هذا الربيع قد تحول في غالبه لخريف قاسٍ وموحش، وذلك لأسباب ليس هنا مجال مناقشتها، لكن رسالة تلك الانتفاضات كانت أن هناك عوامل قدرية لا يجب تجاهلها عند استعراض خطط مواجهة أنظمة الظلم العالمي، فالأسباب المادية ليست دائمًا العامل الرئيس للقوة والنجاح وإلا لما استطاعت حركات المقاومة الفلسطينية البدائية الصمود في وجه الجيش الإسرائيلي وترسانته وطائراته.
مثال آخر قريب كان خلال انعقاد الجمعية العامة للأم المتحدة الأخير، حيث لفت العالم انتقاد رئيسة الأرجنتين «كرستينا فرنانديز» للنظام الاقتصادي الذي ترعاه الأمم المتحدة الذي يجعل دول العالم تدور في فلك الدول الأكثر سيطرة، بل وصفت ذلك بـ«الإرهاب الاقتصادي»، كما لفتهم عدم تمريرها لمصطلح «الحرب ضد الإرهاب» الذي رأته غامضًا وعامدًا إلى تجاهل حقوق الإنسان. ذلك في وقت سلّمت فيه معظم الدول الإسلامية حدودها البرية وإمكاناتها المادية والبشرية للولايات المتحدة حتى لا تتهم بالتعاطف مع تنظيم «الدولة».
وللموضوعية فإن الدول العربية والإسلامية تتفاوت في مدى استسلامها وخضوعها للضغوط الأجنبية، فتركيا مثلًا وبرغم استجابتها للدعوة الغربية لمحاربة إرهاب تنظيم «الدولة» إلا أنها وضعت هناك تصورها الخاص الذي كررته أكثر من مرة، وهو ربط محاربة هذا التنظيم بمحاربة كل التنظيمات الخارجة عن القانون في سوريا وعلى رأسها الجيش النظامي نفسه باعتبار أن الرئيس السوري ومؤسساته قد فقدوا الشرعية منذ أمد، كما أوضحت الحكومة التركية أنها أرادت تدخلًا باكرًا لدعم المعارضة وتنحية بشار الأسد الذي تسبب بقاؤه حتى الآن في كل هذه المضاعفات.
هذا مجرد مثال على أن تسجيل المواقف ومحاولة الخروج من نفق هذه اللعبة ممكن من ناحية النظرية والتطبيق خاصة لو تشكلت وحدة ما تضم أكثر من دولة من دول الإقليم لتعمل بتنسيق وتعاون على الأقل في غياب الوحدة الشاملة.
لكن ذلك يبدو صعبًا في الوقت الحالي في ظل التناحر والاختلاف وعدم الاتفاق حتى على مبادئ أساسية وأطر عامة للعمل.
في هذا الواقع المزري لا نستغرب ازدياد التدخلات، بل لا نستغرب حتى الأصوات الرسمية الليبية التي تنادي بتدخل دولي، أي غربي، في البلاد التي اجتاحها منذ نهاية العام الماضي طوفان الفوضى.
إن وصفة العلاج سهلة وبسيطة لكن تغليب المصالح الضيقة وإحساس الدونية الذي يغلف معظم زعماء المنطقة باتجاه الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، ونزوع أولئك لاستبعاد العناصر الوطنية والمؤمنة بهويتها وعناصر قوتها من مناطق صنع القرار، كل ذلك يضع عقبات وعراقيل في سبيل الوحدة التي هي أساس القوة والنهضة والبناء، فلا يمكن لبلد واحد من أوطاننا الممزقة أن يستطيع وحده تغيير قواعد اللعبة مهما بلغ من قوة ومجد.
ولن نجد وصفة أبلغ من العبارات القرآنية:
وَاعْتَصِمُواْ..
لاَ تَفَرَّقُواْ..
وأعدّوا..!
التدخل في الشؤون الداخلية للدول ... محاولة تفكيكية (1-2)
التدخل في الشؤون الداخلية للدول ... محاولة تفكيكية (2-2)
:: مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.
[1] راجع مقالنا: «الإستراتيجية الأوربية الجديدة لحقوق الإنسان.. هل من جديد؟»، مجلة البيان، العدد 306.
[2] لذلك فإن المبالغة في التعويل على الشرعية الدولية من أجل رد الحقوق إلى أهلها في مصر بعد الانقلاب مثلًا - وهو ما يدعمه كثير من المثقفين من إسلاميين وغيرهم - ربما لا يكون توجهًا صحيحًا.
[3] سبق ذكره. ص132.
[4] نعوم تشومسكي، «الدول المارقة.. استخدام القوة في الشؤون الدولية»، ترجمة أسامة إسبر، مكتبة العبيكان، الرياض، 2004، ص9.
[5] تشومسكي، «الدول المارقة»، سبق ذكره، ص12 وما بعدها.
[6] راجع مقالة: «هل الحرب على العراق عادلة.. لا»، نعوم تشومسكي، من كتاب «أشياء لن تسمع بها أبدًا»، ترجمة أسعد الحسين، دار نينوى للنشر والتوزيع، 2010.
[7] رأيي أن موضوع الدارونية الاجتماعية يحتاج إلى مقال خاص، بل عدة مقالات، فقد أسهمت هذه النظرية في تبرير الاستعمار وإبادة الشعوب التقليدية ومحاولة سلبها ثقافاتها، كما أسهمت في نشر العلمانية بنسختها الإلحادية وتفسيراتها المادية.
[8] انظر: «هيبة الدولة.. التحدي والتصدي»، د.نبيل راغب، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004.
[9] Richard N. Haass, Foreign Policy Begins at Home.. The Case for Putting America>s House in Order, Basic Books, April 2013.