حرية اعتقاد أم استبداد؟!
يصدق على زمننا هذا أنه زمن لبس الحق بالباطل؛ لتمرير الباطل وتسويغه، وصرف الناس
عن الحق. وهو زمن تسبق فيه حرب المصطلحات الحروب العسكرية والحصار الاقتصادي
والتجريم الدولي؛ فيُسَكُّ المصطلح في دوائر الاستشراق الغربي، لينتقل منها إلى
أجهزة المخابرات، التي تقذف به إلى سوق الإعلام؛ ليطرق الآذان وتعتاده، ثم بعد ذلك
يلصق بالمستهدف به؛ فيصبح الضحية إرهابيًا - كما هو حال أهل السنة في لبنان وسوريا
والعراق واليمن - ويصبح المجرم الجلاد مكافحًا للإرهاب - كبشار والمالكي والحوثي
وحسن نصر الشيطان وفرق الموت في العراق وسوريا - ومصطلح الحرية هو من المصطلحات
التي يحارب بها الحق وأهله، فكل من عارض باطلًا أتت به الحرية بمفهومها الغربي اتهم
بأنه عدو للحرية، حتى أضحى هذا المصطلح في العرف القانوني والإعلامي والسياسي حقًا
مطلقًا، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه.
ومن المهم قبل معالجة عنوان المقالة أن أبين أسسًا وأصولًا لا بد من فهمها قبل
الدخول إلى صلب الموضوع:
أولها:
أن حرية الاعتقاد هي جزء من الحرية الفكرية، أو حرية الرأي، وتسمى حرية الضمير،
وحرية التفكير، وهي بكل هذه المسميات جزء من منظومة حقوق الإنسان المقرة دوليًا في
إعلانات حقوق الإنسان.
ثانيها:
أن حقوق الإنسان التي انبثقت منها حرية الاعتقاد مبنية بناءً علمانيًا لا يقيم
للغيب أي وزن، وتعد الديانات كلها في عرفه سواء، لا فرق فيها بين حق وباطل، ولا
تُعنى بالدين من قريب ولا من بعيد، ولا ترتكز هذه الحقوق على أي شيء ديني.
وبناء على ذلك:
فهي حقوق الإنسان المستمدة من الإنسان؛ فليس لله تعالى فيها حق، ولا لرسله عليهم
السلام فيها حقوق.
وهي أيضًا ليست حقوق الإنسان المستمدة من الله تعالى عن طريق شرعه ورسله عليهم
السلام، وإنما هي حقوق الإنسان المستمدة من هوى الإنسان الفردي، ومن نتائج ذلك:
أنه لا حق فيها للوالدين، ولا للأرحام، ولا للجيران، ولو كانوا يدخلون ضمن دائرة
الإنسان؛ لأن مصادر هذه الحقوق هي الشرع.
فالعقوق فيها مباح، والأم والأب فيها كسائر الناس.
ثالثًا:
أن هذه الحقوق
-
ومنها موضوعنا:
حرية الاعتقاد
-
ليست تحترم الأديان، ولا تحافظ عليها، ولا ترى لها أي حق، وإنما تحترم حق الإنسان
في التدين بأي دين أو نحلة، وله أن ينتقل من دين إلى آخر، ويسمونها:
حرية الاعتقاد الإيجابية، ويقابلها:
حرية الاعتقاد السلبية، وهي أن لا يدين بشيء، أو يعتنق الإلحاد، ويحارب الأديان.
وبناء
على ذلك فإن شتم الله تعالى وشتم ملائكته ورسله وكتبه وشرائع دينه حق مكفول لمن
يدين بكره الأديان، ويريد شتمها، ما لم يترتب على ذلك أذية متحققة لمن يدين بالدين
المشتوم، كأن يكون في شتم دين ما تحريض على إيقاع الأذى والعنف على من يدينون به.
رابعًا:
أن ثمت ازدواجية في تطبيق حرية الاعتقاد، فإذا كان التحريض على دين الإسلام يؤدي
إلى إيقاع الأذى على المسلمين فإن المجتمع الدولي والدول الغربية تغض الطرف عن ذلكم
التحريض
-
وقد أفتى بعض الروافض المعممين باستباحة دماء أطفال أهل السنة في سوريا، ولم يؤاخذ
بفتواه
-
بينما يؤاخذ المسلم بتهم لا تثبت عليه بدعوى التحريض.
ويمنع نقاب المسلمة بقوة القانون
-
مع أنه شعيرة دينية تدخل ضمن حرية الاعتقاد، وأيضًا تدخل ضمن الحرية الشخصية في كون
الإنسان يلبس ما يشاء
-
ويسمح بجميع الشعائر في اللباس لأهل الديانات الأخرى.
ومسألة
منع النقاب في فرنسا جديرة بالتأمل، وبأن يفاخر كل مسلم بدينه؛ فإن شعيرة النقاب
-
وهي شعيرة واحدة
-
هزمت المنظومة الليبرالية الغربية في أكبر قيمة فكرية لديها، وهي الحرية، وفي أعلى
سلم لها، وهي الحرية الشخصية؛ فإنها أقوى أنواع الحرية في الغرب، حتى إنهم ليضحون
بحرية الرأي
-
مع أهميتها
-
إذا تعارضت مع الحرية الشخصية.
ناهيك عن أن النقاب هزم الغرب في حريته الفكرية، المتمثلة في حق ممارسة الإنسان
شعائر دينه.
خامسًا:
أن مشرعي منظومة حقوق الإنسان من العلمانيين لم يعتمدوا الشرائع الربانية في
تشريعاتهم؛ لأنهم يعتقدون بنسبية الحقيقة، وينفون الحقيقة المطلقة
-
وهو ما نقرؤه كثيرًا ونسمعه أكثر من العلمانيين والليبراليين العرب
-
ولكنهم يقوضون هذا الأصل فيما يتعلق بالفكرة الليبرالية وما نتج عنها من القول
بالديمقراطية وحقوق الإنسان فيجعلونها حقائق مطلقة يجب أن يتحاكم الناس إليها، ولا
يجوز المساس بها، أو التشكيك فيها.
سادسًا:
أن حقوق الإنسان بمفهومها الغربي شريعة غربية يرون وجوب امتثالها في مجتمعاتهم،
وتصديرها للمجتمعات الأخرى، وهي بالنسبة لشريعة الإسلام على قسمين:
1 -
ما وافق الشريعة الربانية؛ فهذا يكتسب شرفًا لا بأصل وضعه البشري، وإنما بموافقته
الشريعة الربانية وإن لم يكن لواضعيه نية ولا أجر.
2 -
ما خالف الشريعة الربانية؛ وهذا تحت الأقدام ولو دان به أكثر البشر، وعظموه،
واعتمدوه.
ما حرية الاعتقاد؟
حرية الاعتقاد مصطلح غربي أممي يُسلط على الشرائع والأفكار التي لا تتوافق مع
الفكر الغربي في مجال الاعتقاد وممارسة الشعائر، وهو مصطلح محدث لا يُعرف في مدونات
الإسلام.
وظهوره كان إبان الثورة الفرنسية، وأول نص أثبت حرية الاعتقاد في فرنسا هو نص
المادة الأولى من قانون
9
ديسمبر
1905م،
الذي قرر أن الجمهورية الفرنسية تضمن وتؤكد حرية الاعتقاد، وتضمن حرية ممارسة
الشعائر في ضوء القيود التي يفرضها النظام العام.
ثم
أُقِرَّ هذا الحق للإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مادة
(18)
وفيها:
لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو
معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم
بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حدة.
وأكد هذا الحق في الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، مادة
(18)
وفي المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان المعتمدة عام
1950م
المادة:
التاسعة.
وفي الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المعتمد في
1981م
المادة الثامنة.
وتبنت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عام
1981م
في التوجيه رقم
36/55
إعلانًا للقضاء على التمييز النابع عن عدم التسامح الديني أو الفكري.
وأفادت المادة الثالثة من هذا الإعلان:
أن هذا التمييز هو انتهاك للكرامة الإنسانية، وطعن في مبادئ هيئة الأمم المتحدة.
وهذا
التقرير لحرية الاعتقاد في هذه الإعلانات الدولية الأممية، وبهذه الصيغ المذكورة
يتعارض مع جملة من شعائر الإسلام وحدوده، وأهمها ما يلي:
أولًا:
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانيًا:
شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى.
وما ينتج عنها من أحكام أهل الذمة؛ لأنها أحكام مبنية على تمييز بسبب الدين.
ثالثًا:
حد الردة.
والمواد المذكورة في إعلانات حقوق الإنسان
-
الآنف ذكرها
-
اشتملت على ما يلي:
حرية أن يدين الإنسان بأي دين، بما في ذلك اعتناق الإلحاد؛ لأن الإلحاد ومعاداة
الدين دين أيضًا ومعتقد عند صاحبه.
حرية تغيير الدين بلا حد.
وأيضًا حرية الدمج بين دينين فأكثر، وحرية أن يأخذ من الدين ما يهوى ويترك ما لا
يهوى؛ فكل ذلك داخل في إطلاق حرية الاعتقاد، وهو المطبق واقعًا في التدين الغربي؛
فإن الغربي يأخذ من الدين النصراني ما يهوى كالصلاة الكنسية والتعميد وشعائر العيد،
ويترك ما لا يهوى كاجتناب الزنا ونحو ذلك.
حرية إظهار الدين وممارسة الشعائر.
الدعوة إلى دينه ومعتقده أيًّا كان، وتعليمه غيره.
أن أي تمييز على أساس ديني فهو امتهان للكرامة الإنسانية.
وهذه
المواد تعارض الشعائر والحدود المذكورة آنفًا، وتفصيل ذلك كما يلي:
أولًا:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو فريضة على كل مسلم بشروط وضوابط ليس هذا محل ذكرها.
وهو مراتب باليد فإن عجز فباللسان فإن عجز فبالقلب.
وفي حرية الاعتقاد لا يجوز إنكار اليد بأي حال، ولا إنكار اللسان إلا في حدود سماح
الطرف المنكَر عليه ذلك.
وأكبر سلطة دينية في الغرب
«بابا
الفاتيكان»
لا يستطيع أن ينكر على الناس ولو باللسان شرب الخمر أو الوقوع في الزنا مع أنهما
محرمان في دينهم المحرف.
وغاية ما يفعله هو النصح بأن فيهما ضررًا صحيًا ويسببان الأمراض والجرائم، ونحو
ذلك، بعيدًا عن الموعظة بالحلال والحرام، والأمر والنهي.
وأيضًا:
لا يجوز حمل أحد على عمل الواجبات الدينية، فلا السلطان يحملهم على فعل الفرائض
والانتهاء عن المحرمات، ولا الأب مع أولاده، وإلا كان ذلك انتهاكًا لحرية الاعتقاد.
بمعنى:
أن الإنسان يجوز له في حرية الاعتقاد أن يأخذ الدين كله، أو يتركه كله، أو يأخذ
بعضًا ويترك بعضًا، ولا يحاسب على شيء من ذلك، ولا يؤمر بما ترك، ولا يُنهى عما
زاد، ولو مجرد أمر ونهي على وجه النصح إذا كان لا يريد النصح.
يقول عرّاب الليبرالية جون سيتوارت ميل:
إن الفكرة القائلة بأن من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل
والأساس لكل ما ارتكبه البشر من ضروب الاضطهاد الديني، فإذا سلّمنا بصحتها وجب أن
نسلم بمشروعية كل ما وقع من حوادث الاضطهاد...
وما هو في الواقع إلا تصميمنا على منع الفرد من مباشرة ما هو محلل في دينهم؛ لأنه
محرم في ديننا؛ اعتقادًا منا بأن الله لا يكتفي بإنزال نقمته على الملحد حتى يعدنا
مقصرين ومذنبين إذا نحن تركناه في إلحاده آمنًا مطمئنًا[1].
وفي هذا النص من عراب الحرية الغربية وفيلسوفها ميل ما يدل على تعارض الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية؛ لأن في الأمر بالمعروف حملًا على الطاعات،
كما أن في النهي عن المنكر حملًا على ترك المحرمات.
ثانيًا:
شعيرة الجهاد:
وتتعارض معها حرية الاعتقاد في الفكر الغربي؛ لأن في جهاد الطلب إخضاعًا لغير
المسلمين لحكم الإسلام إما بالخراج وإما بالجزية وإما بالرق؛ لقول الله تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
[الأنفال:
39]؛
فأمر تعالى بقتال الكفار إلى غاية، وهي أن يكون الدين كله لله تعالى، ولا يكون
الدين كله لله تعالى إلا بإسلامهم، أو بخضوعهم لحكم الإسلام تحت عقد الذمة[2].
والجهاد إذا أطلق في الكتاب والسنة وفي كلام المفسرين والفقهاء فهو جهاد الطلب؛ لأن
جهاد الدفع لا يحتاج إلى تقرير، فهو من جبلة الإنسان؛ إذ طبعه دفع الاعتداء عنه.
بل حتى الحيوان يفعل ذلك.
وإنما التقرير لجهاد الطلب؛ لأنه مبادأة الكفار بالقتال.
ولأن
تقرير حرية الاعتقاد في إعلانات حقوق الإنسان يتنافى مع جهاد الطلب وما ينتج عنه من
عقد الذمة وفرض الجزية كان لا بد من إلغائه؛ تماشيًا مع الإعلان العلماني لحقوق
الإنسان، وهي المهمة التي قام بها جمع من المفكرين المسلمين المتأثرين بالفكرة
الغربية في حرية الاعتقاد.
وليس المقام هنا مقام حشد الأدلة على مشروعية جهاد الطلب، وكونه فرض كفاية على
الصحيح[3]،
لكني سأتناول نقطتين مهمتين:
الأولى:
أن القول بحصر الجهاد في الدفع دون الطلب قول محدث، نشأ في الهند إبان استعمار
الإنجليز لها، وقيام ثورة المسلمين عليهم وجهادهم يقودهم فيها علماء الحديث، وهي
ثورة
1857م،
ونشأة هذا القول كانت على يد عميل الإنجليز أحمد خان بهادر، ثم بلوره مدعي النبوة
غلام أحمد القادياني في كتابه الأربعين، وفي خطبته الإلهامية[4].
وانتقل القول بإلغاء جهاد الطلب من الهند إلى مصر، وأيضًا أثناء الاستعمار
الإنجليزي لمصر، وتلقف هذا القول وقرره محمد عبده، ثم صدّره لتلامذته لينشروه[5].
ولا أعلم أن أحدًا قال بهذا القول في القرون الماضية، بل ما كان يخطر ببال أحد من
علماء المسلمين أن يُحرَّف الجهاد ويختزل في الدفع فقط.
ثانيهما:
إجماع العلماء على مشروعية جهاد الطلب، وأنه الأصل في الجهاد إذا أطلق، وذلك منقول
ومتداول في جميع المذاهب الفقهية الأربعة:
قال أبو بكر الجصاص الحنفي:
ولا نعلم أحدًا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين، وإنما الخلاف في
جواز ترك قتالهم لا في حظره[6].
وقال أبو الوليد بن رشد المالكي:
فأما الذين يُحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين[7].
وقال الشربيني الشافعي:
فللكفار حالان:
أحدهما:
يكونون ببلادهم مستقرين بها غير قاصدين شيئًا من بلاد المسلمين ففرض كفاية؛ كما دلت
عليه سير الخلفاء الراشدين، وحكى القاضي عبدالوهاب فيه الإجماع[8].
وقال الوزير ابن هبيرة الحنبلي:
واتفقوا على أنه يجب على أهل كل ثغر أن يقاتلوا من يليهم من الكفار[9].
وما ينتج عن الجهاد من عقد الذمة أمر مجمع عليه أيضًا، ومنه الجزية وهي مقررة بنص
القرآن:
{قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
[التوبة:
29].
والعمدة
في أحكام أهل الذمة كتاب عمر رضي الله عنه[10]،
وفيها ما يعد في إعلانات حقوق الإنسان العلمانية الغربية تمييزًا على أساس ديني.
ومن تلكم الفقرات:
1 -
منعهم من إظهار شعائر دينهم وأعيادهم؛ ففي شروط عمر رضي الله عنه:
«وأن
لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا كتبنا...
ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيًا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في
كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانينا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا
مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم».
2 -
منع بناء الكنائس والمعابد ففي شروط عمر رضي الله عنه:
«ولا
نحدث كنيسة ولا ديرًا ولا صومعة ولا قلاية ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي ما كان
منها من خطط المسلمين».
3 -
منعهم من حرية الدعوة إلى دينهم ففي شروط عمر رضي الله عنه:
«ولا
نظهر شركًا، ولا ندعو إليه أحدًا...».
وهذه الشروط العمرية مجمع عليها بين الصحابة ومن بعدهم من العلماء، ونقل الإجماع
عليها:
1 -
الفقيه المالكي أبو بكر الطرطوشي فقال:
وأما الكنائس فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بهدم كل كنيسة لم تكن قبل
الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة، وأمر أن لا يظهر علية خارجة من كنيسة، ولا يظهر صليب
خارج من كنسية إلا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء، وهذا مذهب
علماء المسلمين أجمعين[11].
2 -
شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال:
وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة وغيرها في كتبهم
واعتمدوها[12].
-3
مجير الدين العليمي، فقال:
وقد اعتمد أئمة الإسلام هذه الشروط، وعمل بها الخلفاء الراشدون[13].
ثالثًا:
حد الردة، وهو ثابت بالسنة النبوية، وفيه أحاديث بلغت حد التواتر، أشهرها حديث ابن
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال:
«من
بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[14]،
وثبتت أحاديث أخرى في قتل المرتد عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن
مسعود، وعبدالله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، ومعاذ بن حيدة
رضي الله عنهم.
ولذا حكم علامة مصر المحدث أحمد شاكر في رده على شيخ الأزهر محمود شلتوت بأن أحاديث
قتل المرتد متواترة فقال:
فإن الأمر بقتل المرتد عن الإسلام لم يثبت بما يسميه المؤلف العلامة حديث آحاد،
وإنما هو شيء ثابت بالسنة المتواترة، معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه
العلماء[15].
ونقل
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتل المرتد:
الماوردي والكاساني وابن قدامة وابن تيمية[16]،
وأما نقل العلماء الإجماع على قتل المرتد فكثير جدًا أكتفي بإيراد واحد من كل مذهب:
قال الجصاص:
المرتد لا محال مستحق للقتل بالاتفاق[17]،
وقال ابن رشد:
والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب فاتفقوا على أنه يقتل الرجل[18].
وقال النووي:
وقد أجمعوا على قتله[19].
وقال ابن قدامة:
وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد[20].
والقول بعدم قتل المرتد قول محدث أيضًا، وحدوثه كان على أيدي طائفة القرآنيين في
مصر والهند، وتحت الاحتلال الإنجليزي أيضًا، وهم طائفة ينكرون السنة النبوية، ثم
تبعهم في إنكار حد الردة محمد عبده وتلامذة مدرسته[21].
وقد أشاد عبدالمتعال الصعيدي
-
وهو ممن يبطل حد الردة
-
بأسبقية مجلة المنار وصاحبها في نفي حد الردة، وقد كان يظن أنه لم يسبقه أحد إلى
القول بنفي حد الردة حتى وقع على ذلك في المنار[22].
واتكأ
من ألغوا حد الردة على ما نقل عن النخعي والثوري رحمهما الله تعالى من أن المرتد
يستتاب أبدًا، وزعموا أنهما لا يريان قتله، وليس هذا مرادهما، وإنما مرادهما أنه لا
حدَّ لردة المرتد واستتابته، فكلما ارتد استتيب، فإن تاب وإلا قتل، في حين أن
الفقهاء يجعلون لذلك حدًا؛ لئلا يُلعب بدين الله تعالى؛ ولذا قال الحافظ ابن حجر:
والتحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة[23].
وقد نقل البخاري عن النخعي قال:
تقتل المرتدة[24]،
فكيف يقول بقتل المرتدة ولا يقول بقتل المرتد؟!
مما يدل على أن مراده بالاستتابة أبدًا، أنه كلما ارتد استتيب.
ولو سلمنا بالقول المنسوب للنخعي والثوري فإن المرتد يقتل عندهما إذا استتيب فلم
يتب، وهذا مخالف لما قرر في حقوق الإنسان بمفهومها الغربي، بل مجرد استتابته ولو لم
يقتل يعد قمعًا لحرية الاعتقاد.
حرية الاعتقاد هي الاستبداد:
قد يبدو هذا العنوان مستفزًا ومستغربًا، لكنه يعبر عن حقيقة حرية الاعتقاد
بمفهومها الغربي؛ فالحرية
-
وحرية الاعتقاد منها
-
هي حقيقة مطلقة عند أصحابها، بينما كل الديانات والأفكار الأخرى هي حقائق نسبية، أي:
بالنسبة لمن يعتقد بها.
فالغرب حين نفى الحقيقة عما يمتلكه غيره احتكرها لنفسه؛ ولذا نجد أن حرية الاعتقاد
صارت سيفًا مصلتًا على عقائد الناس وأفكارهم، وصارت هي الميزان الذي توزن به
المعتقدات والشرائع والأفكار.
فلو أن جماعة ما اتفقوا فيما بينهم على أن يضعوا أيديولوجية يتحاكمون إليها، وهي
تخالف في بنودها حرية الاعتقاد بمفهومها الغربي لصاروا محل تجريم وتشنيع مع أنهم قد
تراضوا فيما بينهم عليها، مما يعني أنه لا حقيقة مطلقة ونهائية إلا الحرية بمفهومها
الغربي فقط.
ولو
أن بلدًا من بلدان المسلمين صوّت في برلمانه على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية فيما
بينهم، وعملوا بذلك؛ لحاك الغرب ضده مؤامراته حتى يطيح بنظامه باسم حرية الاعتقاد
التي تضرب بها الشريعة الربانية، مع أنهم انطلقوا في إقرار تحكيم الشريعة من الفكرة
الغربية في الحرية فصوتوا عليها ولم يفرضوها، ولكن لما كانت معارضة للفكرة الغربية
وجب تجريمها ولو حظيت بإجماع المصوتين عليها، بل حتى لو حظيت برضا كل الشعب الذي
سيتحاكم إليها.
والانقلابات العسكرية التي يصنعها الغرب ويديرها ضد تحكيم الشريعة الإسلامية أشهر
من أن تذكر.
وقد يظن بعض المسوقين لحرية الاعتقاد بمفهومها الغربي من المفكرين المسلمين أن تلك
ممارسات سياسيين وعسكريين لا تلغي أصل الفكرة، وأن الممارسات الخاطئة للفكرة
الصحيحة لا تنفي الصحة عنها.
وهذه غفلة عن مراد المفكرين الغربيين بحرية الاعتقاد، وأنها ليست إلا قولبة لكل
الديانات والأفكار لتُصهر في الفكرة الغربية أو تنصاع لها، وما لا يقبل القولبة
والصهر كالإسلام فيتم إلغاؤه وسحق أهله.
يقول جون سيتوارت ميل، وهو أشهر منظري الحرية:
لا يسوغ لسلطة تنفيذية أو تشريعية غير متفقة المصالح مع الأمة أن تفرض على الناس ما
تراه من الآراء، وأن تعين ما يجوز سماعه من المعتقدات والأقوال...
فلنفترض إذن أن الحكومة متفقة مع الأمة كل الاتفاق، وأنها لا تحدث نفسها مطلقًا
باستعمال وسيلة من وسائل الضغط ما لم يكن ذلك تنفيذًا لمشيئة الشعب، فهل إذا شاء
الشعب ذلك كان عمله جائزًا مشروعًا؟ إني أنكر عليه ذلك أيما إنكار، فلا اعتراف له
بهذا الحق، ولا أراه مصيبًا في استعمال هذا الضغط سواء بنفسه أو بواسطة الحكومة؛
لأن هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها، ولا يجوز لأي حكومة أن تستعملها البتة، سواء
في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها، وأخسها وأوضعها، وهي إذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته
كانت أفظع وأشنع مما لو صدرت برغمه ومعارضته[25].
فهو يقرر أن اختيار الشعب يُلغى، ويمارس عليه الاستبداد إن كانت حريته تؤدي به إلى
اختيار شريعة فيها إجبار للناس، فجعل الحرية بمفهومها الغربي الليبرالي حقًا مطلقًا
ونهائيًا لا يتطرق إليه الباطل بوجه، وكان الأجدر بالكُتاب المسلمين أن يسلطوا
الضوء على نقطة الضعف هذه في معالجة الحرية، لا أن يقرروها كما هي في الغرب إلا
ببعض القيود ثم تضعف معالجتهم في كثير من التفصيلات؛ بسبب أنهم وافقوا على أصل
باطل، وحتمًا سيتعارض هذا الباطل مع كثير مما هو حق ثابت في دينهم؛ ذلك أن الأصل في
الإسلام تعبيد الناس لله تعالى في كل شؤونهم، والأصل في الفكر الغربي المادي إطلاق
الناس من العبودية لأي شيء إلا عبودية الأهواء، والأهواء أحيانًا توافق بعض
الشرائع، لكن معارضتها لها أكثر من موافقتها، وهذان الأصلان
-
الشرعي والغربي
-
متعارضان.
هذا؛ وليس الاستبداد الغربي في قضية حرية الاعتقاد حكرًا على السياسيين الذين
يقودون الانقلابات العسكرية على تحكيم الشريعة الربانية، وليس حكرًا أيضًا على
المفكرين الذين يوجدون أرضية الاستبداد للفكرة الغربية بجعلها حقًا نهائيًا كما فعل
الفيلسوف ميل، بل حتى عامة الناس في الغرب يمارسون هذا الاستبداد فيما يسمى بحرية
المعتقد على المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك:
أن الغربي يحضر أعياد المسلمين، ويشاركهم فيها، ويهدي لهم، ثم إذا غاب المسلم عن
أعياد الغربيين ولم يشاركهم فيها حاكمه الغربي بمذهبه في حرية الاعتقاد، فانتقده
لأنه لم يحضر عيده، واتهمه بالتعصب والتطرف، مع أن دين المسلم يمنعه من حضور أعياد
الكفار، فلم يحترم الليبرالي الغربي المسلم في التزامه بدينه، ويريد أن يقولبه على
وفق حرية المعتقد عنده، ويصهره في فكرته التي لا تمنعه من حضور أعياد المسلمين
ومشاركتهم فيها.
بمعنى:
أن الغربي يريد من المسلم أن يطرح دينه لأجل فكرته في حرية الاعتقاد.
وأقوى نقد يقوض الفكرة الليبرالية من أساسها:
هو افتراض أن الناس إن اتفقوا على أيديولوجية شمولية يلتزمون بها، ويحاكمون إليها،
فهل يوافقهم الليبرالي على ذلك؟!
بعض الليبراليين يطرح هذا الإشكال ولا يجيب عنه..
وأكثرهم لا يملك إلا أن يصرح بأنه يجب الانقلاب على فكرة الحرية إذا اتفق الناس
كلهم في بلد ما على ما يعارضها، وهي مقولتهم:
لا حرية لأعداء الحرية.
ومعناها:
لا حرية لأعداء الحرية بمفهومها الغربي؛ لأنها هي الحقيقة المطلقة، فإن لم يكن هذا
استبدادًا فما هو الاستبداد؟!
سئل الفيلسوف البريطاني برتراند راسل:
لو قرر البرلمان البريطاني أن تكون بريطانيا شيوعية بالأغلبية فهل توافق أنت على
ذلك وأنت مخلص للديمقراطية والنظام البرلماني، فأجاب على الفور:
لا بالطبع؛ لأن البرلمان في هذه الحالة المفترضة يتنكر لأسس الديمقراطية والنظام
البرلماني، ويقيم دكتاتورية البروليتاريا التي هي صورة الحكم الشيوعي، فكأن
البرلمان يلغي أسس وجوده، وقد انتخب أعضاؤه لحماية تلك الأسس التي قامت عليها
الدولة ودستورها ومؤسساتها كلها[26].
:: مجلة البيان العدد 332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.
[1]
الحرية، ترجمة طه السباعي، ص147.
[2]
ينظر: تفسير القرطبي (2/253-254).
[3]
لأنه قد قيل فيه: إنه فرض عين، وقيل: سنة، وكلا القولين ضعيف. واتكأ من عبثوا بجهاد
الطلب فألغوه، وحصروا الجهاد في الدفع على القول بسنيته وهو منقول عن الثوري وابن
شبرمة، فنقل المعاصرون الجهاد من كونه سنة إلى كونه محرمًا، والتحقيق أن قول الثوري
يعود إلى قول جماهير العلماء، وأن الجهاد عنده فرض كفاية، لكنه يرى سنيته على
الأفراد عند وجود من يكفي.
[4]
وكان أحمد خان ينفي جهاد الطلب، ويُضيّق جهاد الدفع فيشترط فيه أن يمنع الكفار
المسلمين من الشعائر التعبدية، أما إذا احتلوا أرضهم ولم يمنعوهم من الشعائر
التعبدية فلا يجوز جهادهم. فهو قد اخترع القول بإلغاء الجهاد لصالح الإنجليز، فلا
بد أن يكون متوافقًا مع استعمارهم لبلاد المسلمين. وأما القادياني فمنع الجهاد
مطلقًا وحاربه بشدة. بل إن السبب الرئيس الذي جعل الإنجليز يؤسسون الفرقة
القاديانية ويدعمونها هو سعيهم لمنع الجهاد الذي ثار ضد الاستعمار الإنجليزي آنذاك،
حتى كتب مدعي النبوة غلام القادياني للإنجليز: إن هذه الفرقة - الفرقة القاديانية -
لا تزال تجتهد ليلًا ونهارًا لقلع العقيدة النجسة، عقيدة الجهاد من قلوب المسلمين.
وقد أثنى المستشرق اليهودي المتعصب جولد زيهر على جهود أحمد خان وغلام أحمد
القادياني في مسخهما أحكام الإسلام، وزعم أن بدعتهما في إلغاء الجهاد مرحلة من
مراحل تطور الإسلام في الهند على إثر الاتصال بالحضارة الغربية إبان الاستعمار
الإنجليزي. ينظر: العقيدة والشريعة في الإسلام لجولد زيهر: 289-292.
[5]
ينظر: تفسير المنار:10/248، حيث نقل محمد رشيد رضا عن شيخه محمد عبده حصر الجهاد في
الدفع دون الطلب.
[6]
أحكام القرآن: 3/191.
[7]
بداية المجتهد: 1/279.
[8]
مغني المحتاج: 4/209.
[9]
اختلاف الأئمة العلماء: 2/300.
[10]
رواه من حديث عبد الرحمن بن غنم: ابن زبر الربعي في جزء في شروط النصارى: 22، وابن
الأعرابي في معجمه: 1/358، والبيهقي: 9/202، وابن عساكر في تاريخه: 2/174.
[11]
سراج الملوك: 138.
[12]
مجموع الفتاوى: 28/654، وينظر نقله إجماع الصحابة رضي الله عنهم على بعض هذه الشروط
في الصارم المسلول: 2/394.
[13]
الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: 1/255.
[14]
رواه البخاري (6524).
[15]
مجلة الكتاب المصرية، مجلد: 3، جزء:2، السنة الثانية، محرم 1366هـ.
[16]
ينظر: الحاوي الكبير: 13/149، وبدائع الصنائع: 7/134، والمغني: 9/16، والصارم
المسلول: 3/609.
[17]
أحكام القرآن: 4/55.
[18]
بداية المجتهد: 2/343.
[19]
شرح صحيح مسلم: 12/208.
[20]
المغني: 9/16.
[21]
تسرب مذهب القرآنيين من الهند إلى مصر فاعتنقه طبيب يدعى محمد توفيق صدقي، وكان من
أصدقاء محمد رشيد رضا، وكان كثير الثناء عليه، ونشر له في مجلته المنار المجلد:
9، الجزء:
7، ص515، غرة رجب 1324هـ مقالة بعنوان: (الإسلام هو القرآن وحده) صرح فيه بإنكار حد
الردة، وبالتخيير بين الإيمان والكفر، فقال: إنه لم يرد أمر بذلك في القرآن فلا
يجوز لنا قتله لمجرد الارتداد، بل الإنسان حر في أن يعتقد ما شاء، وهو أول من وقفت
عليه يصرح برد حد الردة. وتبعه بعد ذلك محمد عبده كما في مجلة المنار المجلد:
11، الجزء:
9، ص716، رمضان 1326هـ ومحمد رشيد رضا كما في المنار: المجلد: 23، الجزء: 3، ص185،
رجب 1340هـ
[22]
حرية الفكر في الإسلام: 123.
[23]
فتح الباري: 12/270.
[24]
فتح الباري: 12/270.
[25]
الحرية، ترجمة: السباعي: 37.
[26]
حقوق الإنسان بين الشرع والقانون، محمد فتحي عثمان: 103.