التدخل في الشؤون الداخلية للدول.. محاولة تفكيكية (1-2)
لا نعلم على وجه التحديد متى طفا إلى سطح المصطلحات السياسية ما يعرف اليوم بمفهوم
«التدخل[1]
في الشؤون الداخلية للدول»،
لكن بإمكاننا استنتاج متى تطور ليصبح خطيئة كبرى واتهامًا يسرع الجميع إلى نفيه
والتبرؤ منه.
استنتاجنا هو أن ذلك كان مع نهايات ما تسمى بالحروب العالمية حين تأسست لأول مرة
رابطة عالمية جمعت الدول الكبرى المنتصرة في تلك الحروب.
تلك الرابطة، كما هو معروف، قد قامت لتحفظ بالدرجة الأولى التفوق الأبدي للدول
المنتصرة في الحرب الأخيرة من خلال منحها الحصانات العقابية وامتياز رفض القرارات
أو ما يسمى بالـ«فيتو»،
وغيرها من الامتيازات التي لا تحصل عليها الدول الأخرى برغم نص كل القوانين على أن
جميع الدول متساوية في الحقوق والواجبات، وهو ما يذكر بطرافة بتلك العبارة الشهيرة
من رواية مزرعة الحيوانات:
«كل
الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من غيرها»[2]!
المهم أن هذه الرابطة قد أسست للاستفادة من أخطاء الماضي بحيث تصبح فكرة قيام حرب
شاملة جديدة بين الدول الأكثر تقدمًا أمرًا مستبعدًا.
ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا التأسيس من حيث المبدأ لم يكن جديدًا، حيث اعتمد على
التراث الغربي والمرجعية الأوربية التي تمحورت حول اتفاقية
«ويستفاليا»
التي أسهمت في إنهاء ما تعتبر آخر الحروب الدينية في أوربا في القرن السابع عشر
(1618-1648م).
بعد مرحلة اتفاق ويستفاليا بدأت تتشكل القناعة الجديدة لدى الدول الأوربية بعبثية
الصراع البيني، بمعنى الصراع فيما بينها كدول كبرى، بل بدأ كثير من المفكرين بالقول
إن أكبر خطأ من أخطاء الماضي كان المحاولة الدائمة للتنافس طمعًا في الثروات
المادية والبشرية، كما تولد اتفاق مفاده أن أهم أسباب الحروب التاريخية الكبيرة
كانت المساعي المستمرة للتدخل حتى داخل حدود الدول الأخرى بما يخدم مصالح الدولة
المعتدية.
إلا أن كل ذلك تعرض لنكسة في بدايات القرن العشرين مع الصراع غير المتسامح على
الموارد الجديدة بعد الثورات الصناعية مما انتهى إلى الحروب العالمية التي أودت
بحياة الملايين؛ وهو ما جعل أوربا تعيد النظر مرة أخرى في طريقة تفكيرها ساعية من
جديد إلى التوصل إلى صورة تمنع بشكل تام العودة لمربع الحروب الشاملة.
من أجل ذلك وضعت أوربا، ومعها حليفتها الصاعدة، الولايات المتحدة، عدة قواعد جديدة
للعبة على رأسها تعزيز مفهوم الحدود الدولية بحسب ما استقرت عليه الأوضاع العالمية
بمعنى الحدود الأوربية، ولكن أيضًا حدود المستعمرات في آسيا وأفريقيا وغيرها.
ثم كانت القاعدة الثانية بعد احترام الحدود هي إلغاء كل استعمار ورفض أي نوع من
أنواع الاحتلال مهما كانت أسبابه وذرائعه.
ثم قاعدة أخرى وهي الوصول إلى صيغ تعاونية تهدف لإعلاء المصالح القارية على حساب
المصلحة القومية، وهنا جاء الاتحاد الأوربي كأبرز قصة نجاح في هذا المضمار بترفعه
على الحساسيات التاريخية التي تشكلت بين دوله ومواطنيه.
هكذا
وضع ما سوف يسمى لاحقًا بالأسرة أو
«المجتمع
الدولي»
أسسًا جديدة للعلاقات بين الدول المختلفة، والتي لم تفقد جشعها الفطري بطبيعة الحال
لكنها عمدت إلى تنظيمه بما يقلل خسائرها لأقل مستوى ممكن ولا يسيء لصورتها الحضارية
وقيمها المعلنة.
هذه باختصار قصة ما يسمى بـ«الأمم
المتحدة»،
الرابطة التي تكونت للسهر على هذه القوانين ومراقبة تفعيلها والرقابة العليا عليها،
رابطة تضم نظريًا كل شعوب وحكومات الأرض، وهي تحظى فيها
-
نظريًا مرة أخرى
-
بالحقوق والواجبات ذاتها.
وحتى نعلم موقع دولنا الإسلامية والعربية من تلك اللعبة الكبيرة وتلك الاتفاقيات
التي تم إقرارها، والتي توسعت في انتقاد الاستعمار بشكله التقليدي كما توسعت في
انتقاد كل التدخلات الدولية وخاصة العسكرية التي تفرض على أعضائها من البلدان
المختلفة، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء..
إلى نشأة الدولة المسلمة وبالأخص العربية الحديثة.
الدولة ككيان مقدس:
برغم أننا لجأنا في هذا المقال لاتباع السياقات المنهجية الغربية لمناقشتها، ومن ثم
تفكيكها، إلا أننا وفي معرض هذا التحليل وقبل الشروع في شرح فكرة
«قدسية
الدولة والحدود»،
يجب أن نوصل للقارئ الكريم أن تعريف الدولة نفسها ظل ولوقت طويل غامضًا، بل يمكن
العثور على عشرات الكتب التي قدمت تفسيرات مختلفة لهذه الكلمة.
أكثر من ذلك فإن مؤتمر الجمعية الدولية لعلم السياسة الذي انعقد في
«ريو
دي جانيرو»
في
1982م
كان مخصصًا وبالغالب لمناقشة تعريفات الدولة التي هي مجال علم السياسة.
ولأن المقام لا يتسع لعرض كل تلك الرؤى الفلسفية المتناقضة منذ أفلاطون وأرسطو وحتى
الباحثين المعاصرين فإننا سنكتفي، برغم عدم رضانا الكامل، بإيراد التعريف المتساهل
البسيط، والذي ينحصر في الأرض والشعب والبشر.
تجاوزًا لموضوع تعريف
«الدولة»
سنحاول تفكيك مفهوم ما يسمى بـ«التدخل
في الشأن الداخلي للدول»،
متعمدين عدم التوقف المفصل على تلك المسلمات التاريخية المتعلقة بنشأة الأمم
المتحدة نفسها كنتاج للفكر الغربي بقيمه وصراعاته ابتداء من مرحلة اتفاق ويستفاليا
ومعاهدة فرساي ونهاية بعصبة الأمم ثم الأمم المتحدة التي تنصب نفسها اليوم حارسًا
للقوانين الدولية وللعلاقات السياسية بين الدول والمجموعات المختلفة..
فقط سنكتفي بالتأكيد على أن ذلك النادي الكبير كان ولايزال غربيًا وإن ضم كل بلدان
الأرض؛ فهو لم يستفد سوى من تراثه الأوربي ومن فلسفته الخاصة للقيم والأخلاق التي
لا تغيب عنها النفعية والانتهازية، والتي تفسر بوضوح تلك التناقضات التي صاحبت هذه
المنظمة العريقة ووكالاتها المتخصصة منذ نشأتها.
لقد وجدت روسيا باتحادها السوفيتي والصين كجمهورية قوية صاعدة مكانًا لهما ضمن
المنظمة الناشئة، أما الدول المسلمة فلم يكن أحد ليلتفت إليها فالإمبراطورية
التركية قد ضعفت وتفككت، والدول المنضوية تحتها قد تقاسم معظمها استعمار لا يرحم،
لا تستطيع حتى وإن تفلتت من قبضته العسكرية أن تتفلت من قبضته الفكرية وتسلطه
النفسي.
بالتركيز على الدول العربية نقول إن الدول الاستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا قد
تقاسمتها ككعة كبيرة فيما بينها، منتجة تلك الحدود التي نقدسها اليوم والتي ترفع
لها الأعلام والشارات، وذلك
-
دون الخوض المعمق في التاريخ
-
من خلال اتفاق سايكس بيكو الشهير بين عامي
1915
و1916،
ثم اتفاق سان ريمو في
1920،
وليس الغريب تاريخيًا هو تلك الاتفاقات فقد كان منطقها عاديًا بين الدول المستعمرة،
لكن الغريب والمثير للاستهجان كان أن تلك الاتفاقيات كانت في فترة زادت فيها الوعود
البريطانية بمنح الاستقلال لدولة عربية كبيرة موحدة و«محترمة»
تقع على مساحة تضم اليوم دولًا بعدد أصابع اليدين أو كادت!
إن كان ذلك غريبًا فهناك ما هو أغرب وهو الركون مرة أخرى لبريطانيا بادعاء أنها
أسهمت في تحرير الدول العربية من الاحتلال العثماني، وأنها أسهمت في مسيرة النضال
العربي ضد العدو التركي!
وحتى وقت قريب كان يصعب علينا فهم الطريقة التي يمكن بها لقلة من المغرضين إقناعنا
بمثل هذه الترهات والحماقات التي وصلت لحد تسيير جيش عربي بقيادة بريطانية ذات يوم،
وللإيمان بفكرة الجامعة العربية التي هي أداة بريطانية بالأساس وباتفاق المؤرخين.
أقول كان ذلك حتى وقت قريب، لكن درس غزة الأخير ومتابعتنا للإعلام العميل وللقيادات
التي حاولت إقناعنا أن العدو هو حركات المقاومة وأن
«إسرائيل»
ليست سوى حليف ضد التطرف والإرهاب، جعلنا ندرك السر وراء تراكم الجرائم ضد شعوب
المنطقة العربية والإسلامية بأساليب متشابهة ومتطابقة دون أن تعي النخب السياسية
والثقافية ما يحاك ضدها، أو هي تتعمد أن تظهر عدم الوعي بما يدور حولها والذي
-
للأسف
-
ليس سوى تكرار للمؤامرة القديمة ذاتها..
القديمة جدًا.
وعوضًا عن معاملة بريطانيا كعدوٍ غادرٍ، خاصة مع تبنيها لوعد بلفر الشهير
(الذي
كان سرًا في البداية ثم ما لبثت أن أعلنته حينما ضمنت السلامة وأمنت ردود الفعل)،
وضمن هذا السياق اللامتناهي من محاولات تغييب الوعي نستطيع فهم العبارة التاريخية
للزعيم المصري سعد زغلول:
«خسرنا
المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز»!
هكذا ولد ذلك السياق المرتبط ببعضه والهادف إلى تكوين مسلّمات دولية ووقائع داخلية
يصعب تجاوزها، وهكذا حفل تاريخنا
«الرسمي»
بأسماء لأبطال جدد مثل:
اللورد اللنبي ولورانس العرب وأتاتورك وغيرهم.
ومن أجل استمرار هذا السياق ونجاحه كان لابد من تغييب متعمد لإرادة الشعوب
ومحاولاتها مساءلة هذه الثوابت والأفكار والتي أهمها الوطنية والقومية والحدود
الاستعمارية، ويعتمد منهج
«التفكيك»
الذي نقصده هنا على عدم تمرير ما يعتبر ثابتًا بحسب الثقافة السائدة، فبالرجوع إلى
«الزعيم»
سعد زغلول نجد أن المنهج الذي اتبعه في التفاوض وطلب الجلاء مع استماتته في ود
بريطانيا، وهو ما سيستقر كمنهج لدى حزب الوفد بأجنحته المختلفة لاحقًا، قد كانت
مثار استياء العديد من المصريين، وإن لم يظهر صوتهم في الإعلام والتاريخ كما ظهر
صوت أنصار
«الزعيم»
المدعوم من الاحتلال والقصر المتحالف معه، فقد وجدنا على سبيل المثال رسمًا
كاريكاتوريًا للفنان عبدالسميع عبدالله بعنوان:
«العلاقات
المصرية البريطانية»
يرسم فيها شرطي مرور يتوسط سيارتين واحدة تحمل اسم التفاوض والأخرى اسم الجلاء في
سخرية لاذعة!
بالعودة إلى موضوع الدولة ككيان مقدس فإن هناك ما يجب التأكيد عليه هنا، وهو أن
الفكر الغربي قد مر في تحولاته المختلفة بمراحل كثيرة أسهمت في تشكيل ما يعرف بعالم
اليوم، وعلينا أن نذكر أنه وحتى نشأة علم الجغرافيا الحديث في بدايات القرن العشرين
فإن الحدود الدولية لم تكن مقدسة، بل إن مؤسس علم الجغرافيا وصاحب كتاب
«الجغرافيا
السياسية»
الصادر عام
1897 «فريدريك
راتزل»
لم يكن متأثرًا بشيء قدر تأثره بنظرية دارون للتطور، والتي فسرها في مجال الجغرافيا
بقوله إن:
«الحدود
لا يمكن أن تكون صلبة، وإن من حقها أن تتمدد مثل أي جلد لكائن عضوي ينمو مع الزمن»[3].
إذًا الدولة بنظره لم تكن سوى كائن أميبي يبتلع ما يستطيع الوصول إليه وما يحتاجه،
لكن ما بال الدول الأضعف؟ إن أمرها محسوم بالنسبة إليه حيث يكون البقاء دومًا
للأصلح على طريقة دارون في تفسير نظريته للتطور.
وقد لاقت فكرة ضم الدول الأضعف المجاورة كنوع من التطور الحتمي قبولًا لدى القيادة
الألمانية التي تمددت بقوة في أوج فورتها الصناعية والقومية، حتى كادت تضم كل أوربا
قبل أن تنكسر على صخرة ستالينغراد الروسية ثم بتطورات الحروب العالمية الكبرى التي
غيرت قواعد اللعبة كما أسلفنا في بداية المقال.
الدولة أم رأسها؟
في كتابه
«مدخل
إلى علم السياسة»
قام
«موريس
دوفرجيه»
بتشبيه الدولة بمعبود الرومان القديم جانوس وهو إله يرسم بوجهين أمامي وخلفي، وجه
الشبه بالنسبة لدوفرجيه هو أن الدولة بطبيعتها تعمل على مستويين حيث تقوم من ناحية
بصناعة وحماية طبقة تتقوى بها على الطبقة أو الطبقات الأخرى، وهو مستوى شرير بلا شك
لكن واقعي، وتقوم من ناحية أخرى بإقرار نظام اجتماعي تدعي فيه المثالية معلنة حرصها
على استفادة الأفراد والمجموع..
يقول الكاتب إن الدولة تخلق بذلك
«الصراعَ»
من ناحية وتدعو لـ«التكامل»
من ناحية أخرى[4].
ولا شك أن الكاتب هنا كان يقصد
«الدولة»
بمعناها السلطوي، فمعروف أن الدولة قد تعني مجموع البشر القاطنين فيها لكنها تعني
في الغالب السلطة أو الحكومة التي تسيطر على تلك الأمة أو ذلك الشعب.
من السذاجة هنا فصل موضوع السياسة الداخلية عن العلاقات الخارجية؛ حيث إن هناك
ارتباطًا عميقًا بين التدخلات الأجنبية وهيبة الدولة؛ إذ نجد أن الدولة، بمعنى
السلطة، تعمد إلى تبرير كل تدخل حتى لا تظهر أمام شعبها بمظهر العاجز المستباح، كما
أن نظام الحكم الذي يشعر بفقدان شرعيته يكون على الدوام مشغولًا بتثبيت قواعد حكمه
وتتبع أحوال رعيته الغاضبة مما يلجئه لتحالف مع الآخر الأجنبي الذي يدعمه ويؤمن
بقاءه.
أكبر مثال على ذلك هو سكوت عدد من الدول الإسلامية عن قصف أميركا وحلفائها لأراضيها
بذريعة التعاون على
«حرب
الإرهاب»،
برغم أنهم يعلمون أكثر من غيرهم أن ضحايا تلك الغارات من المدنيين والعزل يفوق
بأضعاف عدد أي عناصر مسلحة، وأن أميركا مثلًا لن تنتظر موافقتهم لو أرادت القيام
بأي ضربة جوية أو برية!
ويتمادى الحكام المستبدون في محاولاتهم الدؤوبة للتماهي مع دولهم حتى يقررون أن
الإساءة لرأس الدولة إهانة للدولة، ومراجعة ما يقول هو سوء أدب، أما السخرية منه
فهي جريمة تستحق عقوبة جنائية، وهو ما تلخصه العبارة التاريخية للويس الرابع عشر:
«أنا
الدولة»!
ومما يثير السخرية فعلًا أن يكون الحاكم في العالم الثالث ثائرًا لكرامته أمام شاعر
أو مدون، أو مستأسدًا على طلاب جامعة أو قادة نقابة تعارض سياساته أو سياسات نظامه
في حين يجبن عن رد الفعل ولو لفظيًا وهو يرى إساءات دولية لبلاده وتدخلًا سافرًا.
وسوف يجد الدكتاتور على الدوام من يؤيد ما يذهب إليه حتى تتكون طبقة ترى أن مصلحة
الوطن هي مصالح الزعيم الذي يصوغ حسب رؤاه الخاصة جميع السياسات الداخلية والخارجية
فتتماهى بذلك سلطة الحاكم وحزبه مع معاني الدولة والوطن.
وبرغم أن هذه الطبيعة البشرية المتسلقة ممتدة عبر التاريخ، إلا أنه لا يفوتنا هنا
التذكير بالدور الأوربي في تقعيد المناهج لهذه المدرسة، فقد برز في القرن السابع
عشر فيلسوف بريطاني يدعى
«توماس
هوبز»
اشتهر بدعوته إلى أن تكون السلطة مطلقة وألا يكون الحكم للشعب، وقد وجدت دعوته تلك
احتفاءً كبيرًا حتى سمي بـ«رائد
المدرسة الواقعية»
في العلاقات الدولية.
المدرسة التي تأسست مستندة على كتاب هوبز
«لوياثان»
(التنين
الأسطوري)
وكتاب مكيافيللي الأشهر
«الأمير»،
لتشكل أساس العلاقة الحديثة بين الحاكم والمحكوم من جهة وبين الدولة وغيرها من
الدول من جهة أخرى، ويلخص بول ويلكنسون في كتابه:
«العلاقات
الدولية، مقدمة قصيرة جدًا»،
هذه الرؤية بقوله:
«افترض
كلا هذين الفيلسوفين السياسيين أن البشر تدفعهم بالأساس مصالحهم الذاتية وشهواتهم،
وأن أكثر تلك الشهوات تفشيًا وانطواءً على خطورة محتملة هي شهوة السلطة.
ورأيا أن حاكم الدولة هو الضامن الحقيقي والوحيد للسلام الداخلي؛ لأنه وحده يتمتع
بسلطة فرض ذلك السلام.
بيد أنه في عالم السياسة الدولية الأشمل تسود شريعة الغاب»[5].
وإذا كان ميكيافيللي صاحب العبارة الشهيرة التي تقول إن
«الغاية
تبرر الوسيلة»،
بمعنى أن أي وسيلة يمكن استخدامها من أجل الوصول إلى الحكم وتثبيت أركان الدولة،
فإن رفيقه هوبز قد أضاف على ذلك ضرورة خضوع المجموع لسلطة الاستبداد في سبيل
المصلحة العامة داخليًا، وضرورة خضوع الأضعف للأقوى حسب شريعة الغاب على المستوى
الدولي.
وربما يكون مستغربًا أنه، وحتى في عصور الديمقراطية الغربية الحالية فإن كتابًا
غربيين كثيرين ظلوا يؤمنون بضرورة عدم إتاحة الفرصة للشعب للتفكير ومناقشة ما يصدر
عن قيادات بلادهم.
نورد هنا ما كتبه المفكر الأمريكي هارولد لاسويل في موسوعة العلوم الاجتماعية عام
1933
حيث قال ما نصه:
«إن
علينا ألا نخضع للدوغمائيين الديمقراطيين القائلين بأن الناس هم الحكام الأفضل فيما
يتعلق بمصالحهم.
علينا إيجاد السبل لكي يصادقوا على القرارات التي يتخذها قادتهم ذوو البصيرة
الأبعد، وهو درس تعلمته النخب المهيمنة منذ زمن طويل»[6].
إذا تم اختزال الدولة في شخص قائدها وزعيمها حينها لا يصبح التدخل تدخلًا ولا
الاعتداء اعتداء طالما كان برضاه أو وفق تبادلات مجهولة
(تأمينه
مثلًا مقابل الإذعان)،
ويمكن حتى لعلماء التشريع المقربين منه تغيير وصف القوات المحتلة أو المتدخلة لبعثة
«معاهدِة»
لا يجوز انتقادها أو الاعتداء عليها.
من مصلحة النظام العالمي أن يلغى صوت الشعب في سبيل صوت الزعيم كما عبر لاسويل في
الفقرة السابقة، حينها تكون الاتفاقات والتسهيلات أسرع لأن إرضاء الطموحات الشخصية
أسهل دائمًا من تحقيق مصالح بلاد كبيرة وعباد.
إذًا هناك هيمنة من الدول الأكبر على النخب الحاكمة من جهة، وهيمنة من تلك النخب
السياسية والاجتماعية على شعوبها من جهة أخرى.
نلاحظ أيضًا أنه حتى في العالم الأكثر تقدمًا، فإن الدولة يحتكرها نظامها السياسي،
فحين نتحدث عن الولايات المتحدة فنحن نتحدث في الغالب عن البيت الأبيض وسياساته لا
عن الشعب الأمريكي أو شرائحه المختلفة.
الحقيقة أنه في ذلك الجزء من العالم الذي نعيش فيه فإن التدخل لا يعتبر في الغالب
تدخلًا إلا حين يهدد رأس الدولة والنظام الذي يستند عليه.
الولايات المتحدة وتراثها الأوربي:
لا يستطيع أي باحث في مجال التدخلات الدولية تجاهل الولايات المتحدة التي تمثل
الحالة المعاصرة من التوسع على حساب الآخرين، حالة فريدة تجعلها موجودة في كل مكان
دون أن تعلن، كما جنكيز خان، إن حلمها هو السيطرة على العالم، ودون أن تخاطب الغير
بلغة هتلر ذاتها أو موسيليني الفظة والمباشرة.
وليس في الأمر مبالغة حين نقول إن الدولة الأكبر تتحكم في
«توظيف»
معظم
-
حتى لا نقول كل
-
الرؤساء حول العالم، وربما لن يستغرب أحد حين يعترف وزير خارجية باكستاني بأن
أميركا هي من يختار الزعماء في بلاده، وأن رونالد ريجان قد هنّأ بناظير بوتو قبل
توليها رئاسة الوزراء[7].
بل إن الأمريكيين يفتخرون بأنهم من اختار نوري المالكي لرئاسة العراق مستفيدين من
طمعه وشخصيته الضعيفة، وأنهم من قاموا
-
بل جورج بوش شخصيًا عبر الفيديو كونفرنس
-
بتدريبه على مهام ومسؤوليات الرئاسة[8]!
أما الفلسفة الأمريكية فهي فلسفة التناقضات بامتياز فيكفي أن تتذكر أن الولايات
المتحدة التي أنشأت الأمم المتحدة ومولتها ودعمتها سياسيًا من خلال الرئيس نيلسون
ثم فكريًا من خلال مقترح لهيئة تسهر على السلم والأمن العالميين، هي نفسها التي
قامت بضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية في أكبر جريمة شهدتها الإنسانية
المعاصرة، وهي نفس الدولة التي تتردد في التوقيع والمصادقة على اتفاقات المحافظة
على البيئة والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل!
لكن الفلسفة الأمريكية التي تجد دومًا تبريرًا للفكرة ونقيضها هي وليدة التفكير
الأوربي الذي كان قبلها على الطريق ذاته، وأي تحليل لنزعات السيطرة والتمدد المغلف
بالقيم والعبارات المنمقة سيقودنا بالتأكيد إلى المقارنة مع الجذور الأوربية.
انظر مثلًا الثورة الفرنسية وقيمها الكبيرة التي اعترفت بالقوميات والأوطان وحقوق
الناس، وانظر كيف أنتجت للعالم ظاهرة القائد نابليون بونابرت الذي سعى
-
كغيره من الأباطرة، وبعكس ما روجته الثورة
-
لضم العالم لفرنسا تحت اسم الإمبراطورية الأوربية!
وحتى حينما تحالفت بقية الدول الأوربية ضده مدعومة بالشعوب الثائرة التي أغضبها ضرب
نابليون بموضوع القوميات وحقها في تقرير مصيرها عرض الحائط، وتعيينه أحيانًا ملوكًا
وقيادات من خارج بلادهم بل بعضهم لا يعرف لغتها
-
حتى في ذلك الوقت العصيب تمخض الحلف الأوربي الذي كُتبت نهاية الفترة النابوليونية
على يده عن حقيقة كونه مجرد تجمع للزعامات الأوربية التاريخية التي لم تكن تضيق
بشيء قدر ضيقها بقيم الثورة الفرنسية وخاصة موضوع المساواة بين الناس والمسألة
القومية، وحتى مؤتمر ليباخ
1821
عادت أوربا للتحدث عن مبدأ
«الحق
الإلهي للعروش في تحديد مصائر الشعوب»!
قارن على سبيل المثال بين تدخل الولايات المتحدة المنفرد في العراق، وتدخل فرنسا
المنفرد لقمع الثورة الإسبانية بعد رفض المجتمعين في مؤتمر فيرونا
1822
إعلان الحرب الجماعي، وإذا كان سبب الولايات المتحدة أو ذريعتها هي القنبلة النووية
والإرهاب في حين كانت مصاعب واحتياجات داخلية هي السبب الحقيقي وراء الغزو على قول
أغلب المحللين، فإن فرنسا التي حكمها من جديد
«فلول»
العهد الملكي كان جل هدفها أن تثبت للداخل أولًا أنها ما زالت قوية وقادرة على
تحقيق انتصارات كانتصارات نابليون، وإن تذرعت بمسألة الثورة الإسبانية وإعادة الملك.
يمكن تسمية ذلك تناقضًا، لكن المسمى الأكثر دبلوماسية هو
«تغيير
قواعد اللعبة»،
الأمر الذي يكون غالبًا بيد الدول الأقوى.
اللعبة وقواعدها المتغيرة[9]:
ثم تأتي معضلة أخرى تتعلق بحدود الأمن القومي، والأمن القومي عبارة متكررة نسمعها
عند السياسيين وصناع القرار وهي عبارة غامضة كما يبدو لكن الغريب أنها تسمح بفعل أي
شيء في سبيلها!
وحتى لا نتهم بالفوضوية يجب ألا نناقش التفسيرات المختلفة والتعريفات المتناقضة
لمفهوم الدولة[10]،
وأن نرضى بتلك الحدود كما هي ونسلم أنفسنا لما يعرف بـ«الشرعية
الدولية»
والقوانين التي تم إرساؤها لتكون نبراسًا هاديًا يضبط العلاقات المتوازنة بين الدول
ويؤسس لعدة قواعد أهمها تجريم التدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى سياسيًا أو
عسكريًا إلا في حالة تعرض
«الأمن
القومي»
للخطر.
في الواقع إن هذا الاستثناء يهدم ما قبله تمامًا، حيث إن حدود الأمن القومي بقيت
-
وستبقى لوقت طويل فيما نظن
-
غير واضحة وغير محددة، ويمكن الرجوع في ذلك لأدبيات القانون الدولي نفسه[11]
التي ربطت الأمن القومي في معظمها بمهددات خارجية وبمتغيرات دولية وإقليمية.
بهذا المنطق انتقلنا من تقديس الدولة إلى تقديس
«الأمن
القومي»،
وهو ما يفسر ليس فقط التدخلات الأمريكية المباشرة في العراق وأفغانستان وغاراتها
المستمرة على باكستان التي تبعد عنها آلاف الأميال، بل يجعل من بحث إيران عن
مصالحها في الخليج وضمها غير المباشر للعراق ومساعداتها في إسقاط حكم طالبان، يجعل
من كل ذلك شيئًا مبررًا ضمن ذلك الشيء الهلامي المسمى
«أمنًا
وطنيًا».
ولفهم عمق الأزمة يمكننا أن نقسم الأمن القومي إلى جزئين:
داخلي وخارجي، وبالمنطق نفسه الذي لا يقبل مجادلة المفاهيم يكون من واجب الدولة فعل
أي شيء لحماية أمنها القومي من أعداء الداخل من الفوضويين والعملاء وأصحاب الفكر
الهدام، كما من أعداء الخارج سواء بسواء[12].
وبالتأكيد فإن الأنظمة المستبدة لن تجد تأصيلًا لشرعنة ممارساتها القمعية ضد
معارضيها أفضل من ذلك، كما لن تجد الدول التي تحاول فرض سيطرتها على العالم أكثر
منه لتتدخل كيفما اتفق وفي أي مكان.
هكذا يصبح المقيد واسعًا وفضفاضًا وعلى مزاج
«المجتمع
الدولي»،
ويصبح احترام قواعد اللعبة أمرًا رمزيًا أو حسب مقتضيات الظروف، وهذا هو السر في
«عتب»
أميركا التي احتلت العراق وتدخلت في كل بلاد العالم تقريبًا على روسيا وهي تحاول
التدخل في أوكرانيا وقضم أجزاء منها غنية بالغاز.
والخلاصة هنا أن للعبة قواعد، لكنها قواعد لا تحترمها سوى الدول الأضعف التي هي في
الغالب عربية وإسلامية متشاركة في ذلك مع دول أخرى من ذلك العالم الثالث المبتلى
بالصراعات والفقر والمرض والفساد وجور الحكام.
ويمكننا للتدليل على المفهوم الفضفاض للأمن القومي أن نورد تعريف الرئيس الأمريكي
باراك أوباما له حيث يقول في تعريفه إنه
«أمان
الولايات المتحدة وشعبها وحلفاؤها وشركاؤها وتطوير الاقتصاد الأمريكي في ظل نظام
دولي غني بالفرص والرفاه واحترام قيم أمريكا الإنسانية العالمية، واحترام النظام
العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تروج للسلام والأمن والفرص من خلال
التعاون لمواجهة التحديات الكونية»[13]!
::
مجلة البيان العدد 332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.
[1] حسب كتاب
«المفاهيم
الأساسية في العلاقات الدولية»
لمارتن غريفيثس وتيري أوكلاهان، الذي ترجمه مركز الخليج للأبحاث في
2008م،
فإن كلمة
«تدخل»
تصف ممارسة سلطة عامة من جانب دولة على أراضي دولة أخرى من دون موافقة هذه الأخيرة.
[2] «مزرعة الحيوانات» رواية ساخرة للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، على طريقة قصص
الحيوان التقليدية، شرع يسخر فيها من روسيا الشيوعية وخاصة من تجربة الحكم
الستالينية.
[3] د. جاسم سلطان، الجغرافيا والحلم العربي القادم - جيوبوليتيك، حينما تتحدث
الجغرافيا، تمكين للأبحاث والنشر، 2013، ص59-60.
[4] موريس دوفرجيه، مدخل إلى علم السياسة، ترجمة د. كمال الأتاسي ود. سامي الدروبي،
دار دمشق، بدون تاريخ، انظر فصل: «وجها جانوس».
[5] بول ويلكنسون، «العلاقات الدولية.. مقدمة قصيرة جدًا»، ترجمة لبنى عماد تركي،
مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
[6] أوردها نعوم تشومسكي في كتابه: «قراصنة وأباطرة»، انظر ترجمة دار حوران للطباعة
والنشر، طبعة عام 1996، ص20.
[7] وزير الخارجية الباكستاني الأسبق جوهر أيوب خان في حوار مع صحيفة الحياة، مجلة
البيان العدد 208.
[8] يمكن الرجوع إلى فيلم وثائقي بعنوان: «خسارة العراق» عرض على القنوات الأمريكية
وترجم ليعرض على قناة «الحرة».
[9] هناك نظرية طريفة في العلوم الإنسانية تسمى بهذا الاسم «نظرية اللعبة»
Game theory،
ويمكن بهذا الصدد الرجوع إلى كتاب جون نومان وأوسكار مونجنستيرن:
Theory of Games and Economic Behavior.
[10] انظر لمزيد من التفصيل حول تعريفات مصطلح الدولة: «فلسفة السياسة»، د. فضل
الله محمد إسماعيل، دار الجامعة الجديدة، 2008 ص19 وما بعدها.
[11] يمكن أن نحيل القارئ هنا إلى دراسة نجدت صبري بعنوان: «الإطار القانوني للأمن
القومي.. دراسة تحليلية»، صادر عن دار دجلة بالأردن، 2011، حيث دارت الدراسة حول
غموض مفهوم الأمن القومي ومشكلة المصطلح القانوني.
[12] انظر: نجدت صبري، سبق ذكره، ص59 وما بعدها.
[13] انظر: د. جاسم سلطان، سبق ذكره، ص81.