مفكرون صهاينة: كياننا إلى زوال
لم يعد التعبير عن الخوف من زوال الكيان
الصهيوني يقتصر على بعض النخب التي تنتمي إلى هوامش اليسار غير الصهيوني، بل إن
الأمر تعدى هذه الفئة إلى نخب تمثل الأوساط الصهيونية. وتعاظم التعبير عن هذه
المخاوف بالتزامن مع انتهاء الحرب على غزة، بشكل عكس تهاوي الثقة في أوساط الكثير
من هذه النخب بمستقبل هذا الكيان. ومما يبعث على «الاستغراب» حقيقة أن المخاوف من
انتهاء المشروع الصهيوني وزواله تتعاظم في الوقت الذي تزداد فيه قوة هذا الكيان
العسكرية ومنعته الاقتصادية، وتراجع مستويات الخطر الوجودي عليه في أعقاب تفكك أو
ضعف دول الجوار العربي.
ساسة وشعراء وكتاب صهاينة باتوا يعبرون بشكل واضح عن شكوكهم في قدرة
الكيان الصهيوني على مواصلة البقاء؛ لذا لا يتورع الكثير منهم عن الدعوة لهجر هذا
الكيان. ومن المفارقة، أنه على الرغم من الدمار الهائل الذي ألحقته آلة الحرب
الصهيونية بغزة خلال الحرب الأخيرة، إلا أنه يتضح في الوقت ذاته حجم تأثر النخب
الصهيونية بالنتائج السلبية التي انعكست على المجتمع الصهيوني. ومع أن الضرر
المادي الذي لحق بالمجتمع الصهيوني يعتبر هامشياً جداً مقارنة بما حدث في غزة؛ فقد
زادت نتائج الحرب من حدة التعبير عن الشكوك في قدرة الكيان على البقاء. ولعل أبرز
ما يوضح هذه الظاهرة عدم تردد عدد من كبار الكتاب الصهاينة في الترويج لفكرة
مفادها أن الكيان الصهيوني لم يعد ملاذاً آمناً لليهود مما يوجب البحث عن حياة في
مكان آخر. فقد فاجأ الكاتب «يارون لندن» قراء صحيفة «يديعوت أحرنوت» عندما أجرت
معه الصحيفة مقابلة بتاريخ 10/9، أكد فيها أنه مثل كثير من «الإسرائيليين» يتخوف
من وطأة الخطر الدائم الذي يتهدد «إسرائيل». ويجاهر لندن، الذي يعتبر من أكثر
مقدمي البرامج شعبية في الكيان الصهيوني، بأنه بات يستعد للبحث عن «وطن آخر» غير
الكيان. ويضيف لندن، مقدم البرامج الحوارية البارز في قناة التلفزة العاشرة، أنه
متشائم إزاء مستقبل «إسرائيل»، مشيراً إلى أنه يبدو متفائلاً عندما يقول إنه يعطي
إسرائيل فرصة 50% للبقاء. ويشير لندن إلى تجذر الشعور لدى قطاعات واسعة من الصهاينة
باليأس من قدرة هذا الكيان على البقاء بسبب ما أسماه «العجرفة» التي يتسم به سلوك
القيادة الصهيونية.
ويشير لندن إلى أن المعضلة التي يواجهها الكيان الصهيوني تتمثل في أن
قيادته غير قادرة على إدارة الحرب بشكل ذكي، ولا تملك الرؤية المستقبلية. ويعتبر
لندن أن تعاطي الكيان الصهيوني الإشكالي مع قطاع غزة هو الذي أدى إلى اندلاع الحرب
الأخيرة التي مست بمعنويات الكثير من الصهاينة. وسيضمّن رؤيته هذه في كتاب ذكريات
سيصدر قريباً في لندن. ولا يختلف وزير التعليم الأسبق «يوسي ساريد» في نظرته
التشاؤمية عن لندن؛ ففي مقال نشرته صحيفة «هارتس» بتاريخ 8/9، يلفت ساريد الأنظار
إلى حقيقة أنه عندما تحل الذكرى السنوية لقيام «الدولة» يتفجر السؤال التقليدي:
«هل ثمة مستقبل لنا هنا؟». ويضيف قائلاً: «هل بإمكاننا مواصلة التواجد في هذه
المنطقة من العالم». ويقتبس ساريد من قصيدة الشاعر الصهيوني «يعكوف جلعاد» التي
تصور عمق انعدام الثقة في مستقبل هذا الكيان. ويقول جلعاد في مطلع قصيدته: «إنك لا
تريد أن تكون هناك مطلقاً، إذن ما العمل؟ لم يسألك أحد ما الذي جاء بك إلى هنا،
لكن عندما تكبر ويكون لك ولد، ويسألك هذا الولد: ماذا أفعل عندما أصبح شاباً؟ ستقول
له: غادر هذه البلاد ولا تسأل أحداً».
ويوضح ساريد أن كثيراً من العائلات اليهودية التي ثكلت أبناءها في
الحروب باتت تتساءل حول جدوى «تضحياتها». وينقل ساريد عن «نوريت»، شقيقة الطيار
«يغآل ستاف» الذي قتل خلال حرب 73، شكوكها حول جدوى «تضحية» شقيقها بروحه من أجل
الكيان. وتساءلت نوريت قائلة: «هل راحت تضحيات يغآل سدى». ونوّه ساريد إلى أن نخب
الدولة الحاكمة حرصت على منع تفجر أسئلة حول مستقبل الكيان الصهيوني ومدى ضرورة
التضحية من أجله. وأشار ساريد إلى أن القيادات التي توالت على إدارة شؤون «الدولة»
بذلت كل الجهود الممكنة من أجل «جعل الأكاذيب مسلمات. ويشدد ساريد على أن هذا
الواقع هو الذي جعل الكيان الصهيوني يقف عارياً بعد عقود على إقامته، حيث ليس
أمامه إلا الحروب». ويردف ساريد قائلاً: «لقد وصلت الأمور إلى درجة أن شعار كل
إسرائيلي: أنا وأنت والحرب القادمة». وفي أتون هذا الجدل، يحذر المفكر الصهيوني
«روجل ألفر» من أن الضياع الذي ينتظر الكيان يتمثل في تحوله إلى «دولة غير
ديمقراطية تتحكم فيها أقلية يهودية، دولة تمارس الطغيان على شعب آخر.
وأشار إلى أن هذا الكيان بات يعتمد على «نظام قمع قاسٍ، تنخر فيه
العنصرية والعنف»، وفي مقال نشرته «هارتس» يسخر ألفر من قادة الكيان الصهيوني الذي
يعتقد حكامه أن المسيح سينزل وسيجلب معه كل يهود العالم إلى هنا، دولة تتوهم أن
الفلسطينيين يمكن أن يعيشوا تحت نظام الفصل العنصري أو أنهم ببساطة يقبلون الطرد
إلى مكان آخر. وتساءل ألفر عن مستقبل «دولة يكاد اقتصادها ينهار بفعل عبء نفقاتها
الأمنية، دولة تتهددها المقاطعة الدولية، دولة نخبها الحاكمة ينخرها الفساد».
وسخر ألفر من تمجيد الكيان الصهيوني «ديمقراطيته الزائفة»، مشيراً
إلى أنه في هذا الكيان بات يُتهم من «يتبنى رأياً مخالفاً بالخائن، دولة يتمنى
أغلب قاطنيها أن تتدخل قوة خارجية لإنقاذها من نفسها وتفرض حلاً للصراع يجعل من
الحياة طبيعية هنا». ويروي «ناحوم برنيع»، كبير المعلقين في صحيفة «يديعوت أحرنوت»
حادثة تبدو كطرفة، ولكنها حقيقة، وتدلل على انعدام الثقة بإمكانية تواصل الكيان
الصهيوني حتى لدى أصدقائه الأمريكيين. ويشير برنيع إلى أن الكاتب اليهودي الأمريكي
«وليام غوردس» ذهب إلى طبيب قبل ساعات من إقلاعه من نيويورك إلى لوس أنجلوس،
للحصول على وصفة دواء طلب أخذها قبل السفر بالجو. وأضاف برنيع أن الطبيب سأل
غوردس: بماذا تعمل؟ فرد غوردس: أنا كاتب. فسأله الطبيب: ماذا تكتب؟ قال: قصصاً حول
إسرائيل. فضحك الطبيب، وقال: آه.. أفهم الآن، أنت تكتب قصصاً قصيرة!! ويضيف برنيع:
«إجابة الطبيب العفوية تعكس المزاج العام في إسرائيل، وهو مزاج الشعور بنهاية
الزمان، مع أنه لا يتحدث عنه أحد لكن الجميع يشعرون به. إنه نوع من اليأس، لا ينبع
من الحرب التي كانت أو من الحرب التي قد تأتي، بل من مصادر أعمق»، على حد تعبيره.
:: مجلة البيان العدد 330 صفر
1436هـ، نوفمبر 2014م.