أئمة ومجددون

أئمة ومجددون

 مما لا شك فيه أن الأمم والشعوب والحضارات إنما قامت واعتمدت – بعد توفيق الله تبارك وتعالى - على سواعد رجال مخلصين، فَقِهوا معنى الحياة، وعاشوا لأهداف عظيمة، واتخذوا من أعمارهم مطيَّة للإصلاح الشامل القائم على سنن الشرع المعظم، فما ثَم إصلاح إلا من هذا الطريق؛ فكان هؤلاء هم حائط الصد الأول والأخير في حماية دين الأمة، والذبِّ عن كتاب الله وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن نشرهما وتعليمهما للناس.
 
كانوا قادة في العلم والعمل، والتربية والتزكية، والبناء والعمران. حملوا مشاعل الهداية، وصاروا منائر للرشاد، اقتدت بهم الأجيال، وتعلقت بهم الآمال، وانطلقوا بالأمة يقطعون الفيافي والقفار، ويجففون منابع البدع، ويقمعون البهتان، يحاولون الوصول بالأمة إلى الطريق القويم، الذي يضمن لسالكه – بإذن ربه - سعادة في الدنيا، وسكينة النفس، ومحبة في قلوب الخلق، وهداية ورشاداً، وراحة يوم العرض، ولما لا؟ وقد قال الله الملك الجليل: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٧٩].
المجددون... مكانتهم وفضلهم:
اعتاد الناس أيّاً كانت اتجاهاتهم ومذاهبهم وطرقهم أن يُثنوا على أولئك الذين ينجحون وينجزون ويبدعون، ولا يزال الناس يتحدثون كثيراً عن عوامل نجاح فلان، وعن سر إبداع فلان؛ فترى الأدباء يعتنون كثيراً بالحديث عن سيرة فلان وفلان من الأدباء الذين ماتوا وتحولوا إلى رفات، ويتحدث المؤرخون والساسة أيضاً عن أولئك الناجحين ويقرؤون سِيَرهم لينهلوا منها معالم يقتفونها، ويسيرون في إثرها، ولا يزال المصلحون والمجددون والدعاة يحظون بعناية أهل العلم، وأهل الفكر والتوجيه؛ دراسةً لأسباب النجاح، وتحليلاً لعوامل النبوغ والارتقاء، وهم يستحقون ذلك بلا شك؛ إذ إن قمة النجاح وغاية الإبداع هو ما حققه أنبياء الله، صلوات الله وسلامه عليهم. والمجددون تَبَع لهم في منهجهم ودعوتهم وحمل راية البلاغ والإصلاح من بعدهم.
إن السائرين إلى الله اليوم أحوج إلى دراسة سِيَر المجددين، وطريقة دعوتهم، وكيف حققوا مقاصدهم ونجحوا فيما يسعون إليه؟ إنهم أَوْلى بأن يُعتنى بسِيَرهم؛ لأنهم في قمة البشرية – بعد الأنبياء والرسل - من حيث النجاحُ والإبداعُ والإنجازُ.
أولاً: معنى التجديد لغةً: 
 التجديد في أصله اللُّغوي: مأخوذ من جدَّد الشيءَ، وتجدَّد الشيءُ، إذا صيَّره جديداً أو صار جديداً.
والتجديدُ فيه طلبٌ واستدعاءٌ؛ إذ التاء للطلب، فيكون تجديد الشيءِ يعني طلب جِدَّتِه بالسعي والتوسل إلى ما يجعله جديداً. والجديد نقيض الخَلَق والبِلى، وضد القديم بمعنييه (القديم زماناً، والقديم بقاءً، وهو التقادم)، فيُقال: بَلِي بيت فلان ثم أجَدَّ بيتاً مِنْ شَعْر... ويُقال لليل والنهار: الجديدان؛ لأنهما لا يبليان أبداً[1].
ومن معاني التجديد في أصل اللُّغة: التعظيم والإجلال، ومنه قوله - تعالى -: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: ٣]؛ أي: عظمته وجلاله وغناه. ومن معانيه كذلك الوسطية، ويقولون: جادَّة الطريق؛ أي: سواء الطريق ووسطه. ومن هنا ندرك أنَّ التجديد لا يعني بحال الإتيان بجديد منقطع عما كان عليه الأمر أولاً، ولكن يعني:
- أنَّ الشيء المجدَّد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً، وللناس به عهدٌ.
- وأنَّ هذا الشيء أتت عليه الأيام، فأصابه البِلَى وصار قديماً خَلِقاً.
- وأنَّ ذلك الشيء قد أُعيد إلى مثل الحالة الأولى التي كان عليها قبل أنْ يبلى وَيَخْلَق[2].
فالتجديد إذاً لا يستلزم إقامة شيء جديد على أنقاض القديم، ولا يعني رفض القديم كله بحسبان نفود صلاحه، وأنه صار سلباً غير نافع يجب إلغاؤه والإتيان بجديد مغاير منقطع عنه أصلاً ووصفاً؛ فحقيقة التجديد: هي إعادة الأمر إلى ما كان عليه أولاً، وهو نوع من الإجلال لذلك الأمر والتعظيم له، على خلاف ما يعتقده كثير من سامعي هذا المصطلح ومُطْلِقيه.
ثانياً: معنى التجديد شرعاً، وممارسة العلماء للتجديد بمفهومه الشرعي:
اكتسب التجديد شرعيته من وروده في الحديث النبوي الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[3].
ولقد كانت ممارسة العلماء للتجديد عبر التاريخ على وَفْقِ هذا المفهوم، ولعلنا نستدعي هنا مقولة الإمام مالك: «لن يَصلُح آخر هذه الأمـة إلا بما صلـح بها أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً»[4]، وهذا هو المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف.
وإذا أردنا أن نستعرض أدوار المجددين في تاريخ الإسلام لطال بنا المقام، كدور التابعي الجليل الحسن البصري - رحمه الله - في تجديد الشعور الديني لدى عامة الناس، ودور الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في تجديد السياسية الشرعية في الإسلام، ودور الإمام الشافعي - رحمه الله - في تجديد المنهج العلمي في باب الاجتهاد والاستدلال، ودور الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في تجديد التصور السلفي الأصيل ونقد التصورات الفلسفية والكلامية المنحرفة، ودور الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في تجديد حقيقة التوحيد ومحاربة الشرك الخرافة، وهكذا في سلسلة
 


[1] لسان العرب: 3/111.
 
[2] انظر: بسطامي محمد سعيد: مفهوم تجديد الدِّين، دار الدعوة، الكويت، ط/1، 1405هـ، 1984م، ص 14 - 15.
 
[3] أبو داود (4293)، وصححه الألباني.
 
[4] الشفا للقاضي عياض: 2/98 - 99.

أعلى