صارع كي تستلم يا "جوفري لانغ"
كنت أقول لأصدقائي الذين يحدثونني عن عجزهم
عن ممارسة الدعوة في المجتمع الأمريكي، إن الله تعالى يحاسب الناس حساباً عسيراً
لأنه سهل لهم كل شيء.
ولذلك لا يجوز لنا أن نترك الأمريكيين
يعمهون في ضلالهم ونحن نحمل سراج النور.
ولا عذر لنا فيما يتعلل به بعضنا من أنّا لا
نتحدث لغتهم بطلاقتهم، أو أنّا لا نتمكن من شحذ أفكارنا بيسر، كما ينبغي، في لحظات
المناجزة والتحدي.
إن دوننا وسائل كثيرة من وسائل إيضاح
الإسلام للقوم، وهم في غالبهم مثقفون وقارئون، فهل من الصعب على أي منا أن يهدي نسخة
من ترجمة جيدة لمعاني القرآن الكريم، أو من أي كتاب إسلامي جيد، إلى مكتبة المدينة
العامة، أو مكتبة الجامعة، أو لمعارفه، وأصدقائه، من هؤلاء القوم، الأذكياء،
الودودين، وجلُّ الأمريكيين هم في حقيقتهم أذكياء وودودون؟!
تحدثت بمثل هذا في مجلس أُنس بمناسبة جرَّت
إلى هذا القول، فطرب له أحد من كانوا في النَّديِّ، وقال تعقيباً على ما قلت: حقاً
إن الله تعالى لا يعفينا من أداء واجب الدعوة إليه، طالما أنه واجب سهل، والناس
إليه محتاجون.
لقد قلت ذلك القول وكنت على إيمان شديد به،
وما زلت شديد الإيمان به، وعندما قرأت أخيراً - بعد
مماطلة طويلة دامت سبع سنين - كتاب (الصراع
من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام)،
من تأليف إمام الكفر السابق الدكتور جوفري لانغ، زاد إيماني بأن الفرد المسلم
العادي يمكن أن يكون داعية ممتازاً للإسلام.
فها هو بروفيسور الرياضيات، والفيلسوف الملحد،
ورئيس جماعة الملحدين في جامعة سان فرانسسكو، يقول إنه قد تلقى الدعوة إلى الإسلام
من أناس عاديين من طلاب الجامعة، وعن طريق تلك الدعوة اعتنق الإسلام وأصبح من
دعاته الكبار!
أمير سان
فرانسسكو
ولأدع البروفيسور لانغ ببيانه الرشيق (مع
تعديلات من جانبي بالتقديم والتأخير وكثير من الحذف وقليل من الإضافة) يشرح
ذلك، فيقول:
كنت على وشك البدء بمحاضرتي عندما دخل من
الباب الخلفي للصف شاب وسيم جداً بدا وكأنه أمير عربي.
لقد لفت انتباه الصف جميعه، وفي طريقه إلى
مقعده كان يومئ لبعض معارفه بالابتسامة، ولبعضهم الآخر بإشارات لطيفة مؤدبة. وكان
الجميع بدورهم يضحكون له لدرجة أن مزاج المجموعة تبدل وتحسن.
كنت أتقدم على محمود قنديل (وهذا
اسمه) في السن، لكنه كان أكثر ضلاعة مني في معرفة
العالم، فلقد أخذ على نفسه العهد لكي يعرفني على مدينة سان فرانسسكو التي أقطنها!
كان الجميع يعرفه، أو بالأحرى مفتوناً به،
من المحافظ، إلى قائد الشرطة، إلى نجوم الروك، إلى تجار المخدرات، إلى أناس الشارع
العاديين.
لقد كان سخياً لدرجة كبيرة، وكان بمقدوره أن
يجعل من الإنسان الوضيع شخصاً مهماً. لقد كان انفتاحياً، لكنه
في الوقت نفسه متواضع، ويقبل الناس على سجيتهم.
ولم تؤثر مدينة سان فرانسسكو في صفاته إلا
قليلاً، وكانت له آلامه، فلو لم تكن لمحمود آلامه لما أراح الكثيرين من آلامهم.
قدمني محمود لأفراد أسرته: لأخيه
عمر طالب الفيزياء اللامع، وأخته راجية الطالبة بالجامعة، وخطيبته هوازن الجميلة،
الذكية، النابهة، الفطنة، التي تحب الضحك.
كانت الأوقات التي قضيناها معاً، سواء في
النزهات، أو الرحلات إلى منطقة الشاطئ، أو في شقتهم؛ سعيدة جداً في حياتي، لم أعش
مثلها منذ زمن بعيد.
لم نتناقش في الدين كثيراً، وعندما كنا نفعل
ذلك إنما كان استجابة لتساؤلاتي في معظم الأحيان.
لم أحب أن أكون لحوحاً في أسئلتي؛ لأني لم
أرد أن يؤثر ذلك في صداقتنا، وكنت أدرك أنهم يبادلونني الشعور نفسه، لكنني دهشت
عندما أهدوني نسخة من القرآن، مع بعض الكتب عن الإسلام.
فقد عرفت حينئذ أنهم كانوا متمسكين بدينهم،
لكن طريقة عيشهم لم تكن دينية كثيراً، رغم أني لم أجدهم يهتمون بشخص آخر قط.
خذ الكتاب
بقوة
واتخذت القرآن بجدية، فإنه لا يمكن قراءته
ببساطة، فإما أن تكون لتوّك قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه.
فهو يحمل عليك وكأن له حقوقاً عليك، بشكل
مباشر، وشخصي.
فهو يجادلك، وينتقدك، ويخجلك، ويتحداك، ومن
حيث الظاهر يرسم خطوط المعركة.
ولقد كنت على الطرف الآخر في المواجهة، ولم
أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحاً أن القرآن كان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي.
لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري،
ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي.
وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي،
لكنني كنت أكتشف الإجابة في اليوم التالي.
لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه، في صفحات
القرآن، وكنت خائفاً مما رأيت.
كنت أشعر بالانقياد، بحيث أشق طريقي إلى
الزاوية التي لم تحوِ سوى خيار واحد.
دخول المسجد
تلك الزاوية هي زاوية الاستسلام لأمر الله سبحانه،
ولإرادته العليا التي فاء إليها جوفر لانغ أخيراً. لكن
ليس قبل أن يلتقي دعاة مسلمين عاديين من أمثال محمود قنديل.
لقد دفعته قراءة القرآن لكي يبحث عن مسجد
الطلاب بالجامعة.
وهناك وجد طالبين، أحدهما من ماليزيا،
والآخر من فلسطين.
ومرة ثانية فلأدع الدكتور جوفري لانغ يحكي
قصته فيقول:
وضعت يدي على قبضة باب المسجد فانفتح. كان
في الداخل شابان يتحدثان.
لقد قطعت بدخولي محادثتهما، فقال أحدهما: هل
تبحث عن شيء هنا؟!
وهنا نسيت الأسطر الأولى التي كنت أنوي
قولها، فأجبت على عجالة: هل عمر أو محمود هنا؟! بدأت
أشعر بالعصبية والتوتر. حاولت أن أقول (قنديل) لكن
دون جدوى، فقال أحدهما: لا أحد هنا سوانا. فقلت
لهما: أنا آسف، لا بد من أني وصلت إلى المكان
الخطأ.
ثم استدرت وكأني أستعد للذهاب، فقال أحدهما: هل
تريد أن تعرف شيئاً عن الإسلام؟
فأجبت وأنا أخطو نحوهما: نعم،
نعم أريد أن أعرف عن الإسلام.
سألت بعض الأسئلة السطحية. وعندما
كنت على وشك المغادرة دخل رجل، ومن خلفه يتدفق النور، لحيته كثة، يرتدي ثوباً
طويلاً إلى كاحله، وصندلاً في رجله، ويضع عمامة على رأسه، ويحمل عكازاً في يديه.
لقد بدا لي وكأنه موسى عائداً من جبل الطور. بدا
وكأنه توراتي آسرٌ. لقد كان علي أن أبقى هناك.
وجاء القادم وانضم إلينا. لقد
كان في شكله أشبه بغاندي، وكانت بشرته بيضاء، وكانت عيناه ووجهه مسالمين وبائسين
في الوقت نفسه، كما لو أنه استسلم لمأساة ما شخصية عظيمة.
كانت نبرة صوته ضعيفة، لكنها واضحة، وكان في
صوته رنين أضفى عليه هالة من الإلهام.
ومن خلال لهجته عرفت أنه من الجزيرة
العربية، وكان خجولاً بعض الشيء، فقد حاول ألا ينظر مباشرة في عينيَّ.
- سألني: ما
الاسم الكريم؟
- قلت له: جوفري
لانغ.
- هل أنت طالب في الجامعة؟.. إذ
كنت أبدو أصغر من سني، ففي بداية الفصل طُلب مني مغادرة اجتماع المدرسين لأنهم
جميعاً اعتقدوا أني كنت أحد الطلاب.
- لا، إنني بروفيسور في قسم الرياضيات.
اتسعت عيناه، ونظر إلى الآخرين، تحدثنا لبضع
دقائق.
كان غسان (وهو
اسم هذا الشخص) مثل محمود قنديل، مرهف الإحساس تجاه آلامك
الداخلية، لكنه على خلاف محمود، لم يكن يدعك تتجاهلها، بل على العكس كان يعظمها
لك، ويجبرك على التركيز عليها، وهذه قدرة قلَّ من يملكها، بل إن على كل قائد ديني
عظيم أن يتمتع بها إلى جانب تحمله المسؤوليات والمخاطر الجسام.
دخول الإسلام
سألت غسان: هل
لك أن تخبرني كيف يشعر المرء إن كان مسلماً؟ أعني كيف ترى علاقتك مع الله؟
لم يجب في الحال، ربما ليفحص مصدر السؤال
والنية من ورائه، ثم أجاب إجابة روحية طويلة مؤثرة، وبقي صامتاً لعدة ثوان، سامحاً
لكلماته أن تعبر إلى مشاعري.
ولكم تمنيت حينها أن أكون مكانه، ولو لبضع
دقائق، كي أشعر فقط بهذا الشعور من الرغبة في القرب من الله. لقد
آن لروحي أن تبعث من مواتها.
عندما خاطبني غسان: هل
تريد أن تكون مسلماً؟ اخترقت كلماته الصمت لتنفجر في ضميري. تساءلت
في نفسي لماذا كان عليه أن يقول لي ذلك؟ فإني لم آت من أجل ذلك.
تخيلت أني أشرح ذلك لأسرتي، وزملائي،
وأصدقائي.. لقد كنت أعمل في جامعة يسوعية، فماذا عن
عملي؟!
قلت: لا،
ليس اليوم، إنما جئت في الحقيقة لأسأل بعض الأسئلة.
يبدو أن غسان قد مر بمثل هذه التجربة، فقد
عرف كيف لا يستسلم بسهولة في مثل هذه الحالة، فقال لي ثانية بلطف: لكنني
أعتقد أنك تؤمن بالإسلام، فلماذا لا تجربه؟! (هذا
السؤال نفسه وجه إلى محمد أسد قبل أن يعتنق الإسلام في أفغانستان قبل ثمانين
عاماً، الأمر الذي دفعه إلى أن يفكر جدياً في اعتناق الإسلام).
اختفت الوجوه والأصوات من مخيلتي، ولم يكن
هنالك حاجة لكي أنزعج، فليس هناك من أحد له علي أي شيء.
وتذكرت بشكل خاص أحد الدروس التي تلقيتها من
أسرتي، فقد اعتادت أمي أن تقول لي: اتبع مشاعرك.
وكانت أول مرة أطبق فيها هذه الفلسفة، عندما
قمت بتغيير دراسة مناهجي الجامعية.
وعندما تأملت مسترجعاً ما جرى لي، تذكرت أن
ذلك أمر يسير.
نظرت إلى الثلاثة، وأومأت برأسي قائلاً: نعم،
أعتقد أني أريد أن أكون مسلماً.
ارتسمت تعابير البهجة والسرور على وجوههم.
رددت الشهادتين خلف مصطفى: لا
إله...
(لقد كنت أؤمن بهذه العبارة طوال حياتي وكأنها حقيقة. أما
الآن فقد أدركت للمرة الأولى الحقيقة المرعبة لهذه العبارة وخلو معناها ونتائج
أخرى).
قال مصطفى: إلا...
رددت وراءه هذه اللفظة التي تعني الاستثناء،
وتدل على أني قد أغفلت وجهلت ما كنت أبحث عنه!
قال مصطفى: الله.
قلت: الله (المعبود).. كانت
هذه الكلمات كقطرات الماء الصافية تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من شدة
العطش. وكنت أستعيد القوة بكل كلمة منها، كنت أصحو
للحياة ثانية.
وبعد يومين تعلمت أول صلاة جماعية.
وعندما نظرت أمامي كان بمقدوري أن أرى غسان
عن يساري في الوسط، تحت النافذة التي كانت تملأ الغرفة بالنور.
كان وحده دون صف، باعتباره إماماً، وكان
يرتدي عباءة بيضاء طويلة، وكان مُعتمَّاً بلفحة بيضاء ذات رسم آخر.
حلم سنوات
الإلحاد
جاء ذلك الخاطر القديم سراعاً إلى ذهني.
فخلال السنوات العشر التي قضيتها ملحداً،
كنت قد رأيت حلماً قصيراً عدة مرات.
كنت أراني وكأني في بلد آخر، مع جمع قليل من
الناس، في غرفة صغيرة، ليس فيها أثاث ما عدا سجادة تغطي أرض الغرفة، ألوانها الأساسية
الأحمر والأبيض.
وكنا ننحني على نحو منتظم، ووجوهنا تقابل
الأرض، وكان الجو هادئاً وساكناً، وكأن الأصوات جميعاً قد توقفت، وسرعان ما نعود
للجلوس على أقدامنا.
وعندما أنظر إلى الأمام أرى شخصاً ما يؤمنا،
وكان بعيداً عني من جهة الشمال، وفي الوسط تحت النافذة تماماً، وكنت ألمح على نحو
بسيط ظهره، وكان يرتدي عباءة بيضاء طويلة عليها رسم آخر.
وفي تلك الأثناء كنت أستيقظ من نومي!
والآن فقد كدت أثناء تأديتي صلاتي الجماعية
الأولى بالمسجد، أن أصرخ في داخلي: إنه الحلم ذاته!
كنت قد نسيته تماماً، أما الآن فقد صعقت،
وذعرت، وتساءلت في نفسي: أأنا في حلم حقاً، وهل
سأستيقظ من النوم؟!
حاولت التركيز على ما يجري لأرى إن كنت حقاً
نائماً.
سرَت موجة من البرد في جسدي، فجعلتني أرتجف.
يا إلهي! إنني
في الواقع لا في حلم.
ثم تلاشى البرد فيَّ، وتبعه دفء رقيق يشع من
الداخل، ففاضت عيناي بالدموع.
أدركت أن الله تعالى جَدُّه حقٌّ حقيقٌ،
وأنه تعالى جدُّ قريب من حياتي. وأدركت زيف عنادي السابق،
وفرط اعتدادي وغروري بدعاوى العلم، وزعمي الأخرق بأن الاعتقاد بوجود إله إنما هو
اعتقاد ساذج مصدره الخوف والجهل، وقولي المنكر إن من الممكن للإنسان أن يعيش حراً
من كل قيد، ويتحمّل مسؤولية وجوده بنفسه، وأن يكون إله نفسه، ويقرر مصيره دون
توجيه إله أو سيطرته.
الآن أدركت يقيناً أن الله تعالى
موجود، وأنه متعال جداً، وقريب جداً، وأنه ليس من السهل على الإنسان أن يصير إلهاً
أبداً.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.