• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين: تأريخ التعايش وتوثيق الوطنية

تتجاوز هذه القصيدة حدود الشعر؛ لتُلامِس قضايا اجتماعية وسياسية ودينية، تعكس من خلالها صفاء العلاقة والصداقة التي كانت تربط المسلمين بمَلِكهم الهندوسي «السامري»؛ ذلك المَلِك الذي كان مثالًا للتعايش والتفاهم بين مختلف الأديان


قصيدة «الفتح المبين» التي نظمها القاضي محمد بن عبد العزيز الكالكوتي، ليست مجرد أبيات شعرية، بل هي لوحة نُسِجَت بخيوط الحكمة والتاريخ، تُحاكي بعمق العلاقات الإنسانية الراقية التي جمعت بين المسلمين والهندوس في حقبةٍ حرجةٍ من تاريخ مليبار.

تتجاوز هذه القصيدة حدود الشعر؛ لتُلامِس قضايا اجتماعية وسياسية ودينية، تعكس من خلالها صفاء العلاقة والصداقة التي كانت تربط المسلمين بمَلِكهم الهندوسي «السامري»؛ ذلك المَلِك الذي كان مثالًا للتعايش والتفاهم بين مختلف الأديان.

نبذة عن المؤلف

محمد بن عبد العزيز الكالكوتي، المُلقَّب بالقاضي، وُلِدَ في عام 1577م بمدينة كالكوت الهندية، وسط عائلة عريقة في العِلم والدِّين تُعرَف باسم «أسرة القضاة».

كانت منطقة مليبار في تلك الأيام تئن تحت وطأة الاستعمار البرتغالي، ووسط هذه الظروف القاسية، نشأ محمد في كنف أسرةٍ مشهورة بالعلم والتقوى، يقال: إن نسبها يعود إلى صحابيين جليلين. اكتسبت هذه الأسرة مكانة عظيمة في المجتمع؛ حيث كانت تدير شؤونه بحكمة ورفق، وكان الناس يُصْغون لأمرها ويُنفّذونه بلا تردُّد.

عاشت أسرة القضاة في ظل احترام كبير مِن قِبَل الملك الهندوسي السامري الذي كان يحكم كالكوت. هذا الملك الذي عُرِفَ بحُسْن الخُلق والعدل، كان يُجِلّ العلماء المسلمين ويحترمهم، ولم يكن يتخذ قرارًا يمسّ شؤون المسلمين إلا بعد استشارتهم.

وكان القاضي محمد بن عبد العزيز أبرز أفراد هذه الأسرة؛ بعِلْمه الواسع وفهمه العميق للأمور الدينية، فبرز كأحد أعلام الفقهاء والقضاة في عصره.

نشأ القاضي محمد في ظل بيئة مشحونة بالمظالم والأحداث المؤلمة التي خلَّفها الاستعمار البرتغالي؛ فقد عايش أحداث إحراق المساجد، وتدمير المراكب، وإغراق السفن، فضلاً عن نهب الأراضي وسلب حقوق الناس. هذه البيئة القاسية أسهمت في تشكيل شخصيته الوطنية؛ إذ ترعرع ليكون مُقاومًا للظلم، متصدّيًا لظلم المستعمرين بجرأة وشجاعة.

كان والده، القاضي عبد العزيز، مرشده ومُعلّمه الأول، وقد أخذ عنه كثيرًا من معالم العِلْم والدين وحبّ الوطن. كان القاضي عبد العزيز قائدًا بارزًا في جيوش المسلمين؛ حيث قاتَل جنبًا إلى جنب مع الملك السامري ضد البرتغاليين، وكان له دور كبير في تشكيل وعي ابنه محمد. تربَّى القاضي محمد في كنف والده مجاهدًا بارًّا، مُتشرّبًا حبّ الدين والوطن، ليصبح فيما بعد رمزًا للمقاومة والعدالة.

تميَّز القاضي محمد بإتقانه للغة العربية، وكان شاعرًا موهوبًا وخطيبًا مفوّهًا منذ صِغره، يُجيد التعبير عن أفكاره ومشاعره بأبيات الشعر البليغة وخطبه الرنانة. وبذلك، جمع بين العلم والبلاغة، وبين الدين والوطنية، ليبقى اسمه خالدًا في ذاكرة التاريخ كأحد أبرز أعلام مليبار. وكان صوفي المنهج ينتمي إلى الطريقة القادرية.

شخصيته

كان القاضي محمد بن عبد العزيز الكالكوتي عالمًا ربانيًّا حمل رسالة الدين في قلبه، وغرس حب الوطن في روحه، فجعل من قلمه سيفًا مسلولًا يواجه به كلّ مَن تُسوِّل له نفسه الاعتداء على حرية الوطن وأبنائه. وكان شعره كالشرارة التي تُلهب الحماس في قلوب الناس، يُذكي فيهم روح البسالة والشجاعة. فقد كان يعرف نَبْض الشعب وآلامه؛ حيث عايَشهم وعرف همومهم عن قرب.

وكان القاضي محمد يتربَّع على عرش قلوب العوام، عالمًا وقدوةً تدور حوله رحى حياتهم، يستمدون منه النور في أيامهم المظلمة، ويجدون فيه ملاذهم في أوقات المِحَن.

تولَّى القاضي محمد منصب القضاء بعد وفاة شقيقه القاضي علي الناشري، ليُكمِل المسيرة التي بدأتها أسرته في تحقيق العدل ونشر العلم. ومع أن مهمته كانت كبيرة، إلا أن روحه كانت أكبر؛ فقد حمل على عاتقه مسؤولية المجتمع بأَسْره، ليكون صوته الحارس الأمين على حقوق الناس وكرامتهم.

لم يكن القاضي محمد مجرد رجل عِلْم أو مجرَّد قاضٍ يقضي في أمور الناس فقط، بل كان مُؤلِّفًا بارعًا ترك وراءه تراثًا فكريًّا لا يُقدَّر بثمن. بلغت مؤلفاته نحو خمسة عشر كتابًا، تنوَّعت موضوعاتها بين علم الفلك، والنحو، والحساب، والتصوُّف. وتميزت هذه الكتب بالعمق والدقة العلمية، ما جعلها مرجعًا موثوقًا للباحثين والدارسين.

ومن أبرز مؤلفاته:

- قصيدة الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين.

- قصيدة إلى كم أيها الإنسان؟!

- مرثية للشيخ عثمان لبا القايلي.

- قصيدة مقاصد النكاح.

- نظم قطر الندى.

- منظومة في علم الحساب.

- منظومة في علم الأفلاك والنجوم.

- منظومة في الخطوط والرسائل.

ومع كل هذا العطاء العلمي، لم تكن الكتابة عنده مجرد هواية أو عبارة عن واجب علمي، بل كانت رسالة يتواصل من خلالها مع أبناء عصره وأجيال المستقبل.

ومن بين تلك الآثار العلمية النفيسة التي تركها القاضي محمد الكالكوتي، يتألق كتابه «الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين» كجوهرة أدبية فريدة في عالم المعرفة.

يتميز هذا الكتاب بأسلوبه الرائع الذي يأسر القلوب، ومحتواه الغني الذي يأخذ القارئ في رحلة عبر الزمن، ليشهد لحظات حاسمة من تاريخ كيرالا. إنه أكثر من مجرد قصيدة، إنه صوت ينادي أبناء هذا الجيل للاطلاع على تجربة تاريخية فريدة تدعو إلى التعايش السلمي والتلاحم القومي، وهي دعوة تنبثق من عمق الحكمة والتسامح التي تحتاجها البشرية اليوم، خاصةً في هذا العصر الذي تزدحم فيه الأخبار بالصراعات الطائفية والشعارات المشتعلة بين مختلف الأقوام.

وقصيدة الفتح المبين ليست مجرد قصيدة تمجيد وثناء، بل وثيقة تاريخية تسرد صفحات من تاريخ كيرالا؛ حيث خاض أهلها المسلمون إلى جانب الهندوس من قبيلة «ناير» معركة بطولية ضد البرتغاليين في معركة «تشاليم». في هذه المعركة، اتَّحد الشعب بمختلف أطيافه ليدافع عن حريته وكرامته، ليُخيّب آمال المستعمرين بفتح قلعة مهمة كانت تُمثّل لهم نقطة إستراتيجية لمراقبة طرق التجارة في البحر العربي وكالكوت.

كانت تلك القلعة بموقعها الجغرافي الحساس، بمثابة عين ساهرة على السفن التجارية العربية التي كانت تمر عبر تلك المياه. وكان هدف البرتغاليين واضحًا، فقد أرادوا السيطرة على تلك الطرق ومهاجمة السفن، لكنّ الفتح الذي تحقق كان ضربة موجعة لهم، وصفعة كبرى لخططهم الاستعمارية. كانت تلك اللحظة التاريخية تجسيدًا للوحدة والقوة التي يمكن أن تتحقق عندما تتَّحد الشعوب ضد الظلم.

عبَّرت هذه القصيدة عن تلك اللحظات المضيئة؛ حيث لم يتردد الملك السامري، الهندوسي الحكيم، في حماية المسلمين والدفاع عنهم، لتصبح هذه القصيدة رمزًا للتعايش الديني والتضامن الإنساني، وتُجسِّد معنى وقوف الإنسان موقف المدافع عن الحق والحرية؛ بغضّ النظر عن دينه أو عرقه.

يوم المعركة الحاسمة

لمَّا زادت التوترات بين السامري والبرتغاليين؛ حيث تمركزت قوات الاحتلال في القلعة، واتخذوها بؤرة شرّ؛ حيث شنُّوا هجمات ضارية ضد أهالي كيرالا، وعُقدت جلسة طارئة حاسمة في المسجد الجامع بكوتشيرا، شارك فيها أعيان الدين والسياسة؛ أهل الحل والعقد، واتخذوا هنالك قرارًا تاريخيًّا؛ حيث أقسموا أنه لا راحة لنا إلا بفتح القلعة وتسويتها بالأرض؛ فأصدر المَلِك قرارًا بفتح القلعة، ليشهد ذلك اليوم العصيب، وتمركز جنود ناير في البر، كما تمركز جيوش كنجالي ماراكار في البحر، ليبدأ الحصار الخانق الذي استغرق أربعة أشهر.

وعلى الرغم من محاولة البرتغاليين صدّ هذه الهجمات؛ إلا أنهم فشلوا؛ حيث كان الهجوم من الجهتين البر والبحر هجومًا عارمًا يخيّب آمال الاحتلال، ولم تستطع سفن الإمداد البرتغالية أن تصل إلى تشاليم؛ حيث تعرَّضت لهجوم صاعق من كنوجال ماراكر وجماعته.

وأخيرًا انتهى أمل الاحتلال، واستسلم البرتغاليون، وتراجعوا عن القلعة، فجاء السامري، وأمر أتباعه بتدميرها، واستخدام أحجار القلعة في توسعة جامع كوتيشيرا. وهكذا كانت نهاية مطاف الاحتلال في ديار مليبار.

رسالة القصيدة

القصيدة بروعة أسلوبها وجمال تركيبها تُعبِّر عن معاني كثيرة؛ من أهمها: التعايش السلمي الذي حافَظ عليه المسلمون والهندوس، والعدل الذي عمَّمه السامري بين أتباعه بلا تميز عنصري أو طائفي.

 

 


أعلى