عندما يحتسب العامي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة من
شعائر الإسلام العظيمة، وهو من واجبات الشرع المؤكدة، فعن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكراً فاستطاع أن يغيره
بيده، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان».
وفي رواية: «من رأى منكراً فغيره بيده فقد
برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره
بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان»[1].
ولا شك في أن التقصير فيه وإهماله سبب
لتغيّر المجتمعات، وضعف الإيمان، وذلة الأمة، وتسلط أعدائها عليها، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والأخذ
على يد السَّفيه، حصنٌ حصين من المحن والشُّرور والفتن، وأمانٌ تحفظ به حرمات
المسلمين، وبه تظهر شعائر الدين وتعلو أحكامه، ويعز أهل الإيمان ويذل أهل النفاق
والطغيان.
ولذا قال سفيان الثوري: (إذا أمرت بالمعروف
شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق).
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يَأْمُرُونَ
بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
ووصف أهل النفاق بأنهم: {يَأْمُرُونَ
بِالْـمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
وقد مضت سنة الله كوناً فيما شاهده من مضى،
ومضى وعد الله للخلق فيما يستقبل أن من قام بالمعروف والنهي عن المنكر مكَّنه الله
ونصره، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41].
وإن من سنن الله الماضية أن يسلط عقوبته على
المجتمعات التي تهمل هذه الشعيرة، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ 78 كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن
مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].
وذلك لأن عدم إنكار المنكرات يقويها، ما
يكثر الخبث في المجتمع، وعند ذلك يحلُّ بالأمة العذاب والهلاك، فقد سألت زينب رضي
الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: «نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث»[2].
بينما السعي في الإصلاح يحفظها من الهلاك،
ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخُذوا
على يديه أوشكَ أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»[3].
(وإذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تميَّزت السنة من البدعة، وعُرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون،
والمباح والمكروه، ونشأت النَّاشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر
واشمأزَّت منه)[4].
وفي هذه الورقات نقف مع جانب من جوانب هذه
الشعيرة بما نرجو أن يرشدها ويوجهها لما هو أكمل بها، ويمنع عنها أن تسير إلى ما
يعاكس القصد منها، وذلك من خلال الوقفات التالية:
أولاً: الاحتساب يكون من جميع
أفراد الأمة؛ عالمهم وعاميهم، وذكرهم وأنثاهم، في الأمور الظاهرة الجلية من مسائل
الدين، بأيسر طريق، فكل مسلم مخاطب بهذه الشعيرة فيما هو ظاهر فقط.
فوجوب الصلاة والصيام، وحرمة الخمر والزنى
والربا، وجريمة الشرك بالله وسب الأنبياء والصحابة؛ كلها أمور ظاهرة معلومة من
الإسلام لا يعتريها حال تباح به؛ ولذا كان الاحتساب فيها موجهاً للأمة كلها بما
يحقق المقصود من كره المنكر وعدم الرضى به، ومنعه إن أمكن.
قال النووي رحمه الله: (إنما يأمر وينهى من
كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات
الظاهرة والمحرمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها؛ فكل المسلمين
علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن
للعوام مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء)[5].
والحكمة في هذا ظاهرة؛ فإن طلب الفقيه عند
كل حصول أي منكر ليتولى إنكاره، يقتضي فشو المنكرات وكثرتها، إذ جرت سنة الله
الكونية أن الفقهاء قلة، وإذا امتنع الناس من الإنكار فيما لا إشكال فيه أوشك أن
يشك الناس في قطعيات الدين وثوابته، وعلى ذلك كان الصحابة ومن بعدهم لا ينكرون على
من اشتغل بإنكار المنكرات الظاهرة المعلومة ولو لم تكن له ولاية ولا كان من فقهاء
البلد.
قال في نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة
الشريفة: (الضابط في أمور الحسبة هو الشرع المطهر، فكل ما نهت الشريعة عنه يكون
محظوراً، ووجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله، وما أباحته الشريعة أقره على ما
هو عليه، ولهذا ذكرنا في أول الكتاب أنه يجب أن يكون المحتسب فقيهاً عالماً بأحكام
الشريعة، ومتى كان المحتسب جاهلاً اختلفت عليه الأمور، ووقع في المحظور والمحذور)[6].
ثانياً: مسائل الدين غير الظاهرة
لا يتعلق الاحتساب فيها بغير الفقيه العالم بأحكام الشرع، وكل من لم يكن من أهل
الفتيا والتمكن من العلم فهو في هذا الباب عاميٌّ، لا يسعه إلا السؤال وطلب
التوجيه، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: ٧].
وقد اتفق أهل العلم على أن غير المتأهل
للفتيا هو عامي وظيفته السؤال، قال في الشرح الكبير: (فرض العامي سؤال العالم
وتقليده)[7].
وقال الرازي: (فلا شك أن قول العامي حكم في
الدين بغير دلالة ولا أمارة فيكون خطأ)[8].
وقال الشاطبي: الاجتهاد في الشريعة ضربان:
أحدهما المعتبر شرعاً. والثاني غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر
الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية، واتباع
للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي
أنزل الله، كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49][9].
وسبب هذا أن غير الفقيه لا يعرف وجوه الجمع
والفرق بين المسائل، ولا كون ملحظ الحكم متفقاً أو مختلفاً، ولا وجود الوصف المؤثر
في الحكم من عدمه، فيظن الأحوال واحدة وهي مختلفة، فلا جرم أن قرر الفقهاء أنه ليس
من شأنه الاحتساب فيها.
وملحظ آخر لهذا وهو: أن الاحتساب فيها نوعُ
إفتاء، فالمحتسب كأنه يفتي المحتسب عليه بحرمة ما يفعل، أو بإيجاب ما يترك،
والفتوى منحصرة في الفقهاء فقط.
قال في معالم القربة في طلب الحسبة في شروط
المحتسب: (عارفاً بأحكام الشريعة ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإن الحسن ما حسنه
الشرع، والقبح ما قبحه الشرع..ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلا بكتاب
الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورب جاهل يستحسن بعقله ما قبحه
الشرع، ويرتكب المحذور، وهو غير ملم بالعلم به)[10].
ثالثاً: لا ينكر مختلف فيه: مسائل
الدين على قسمين، الأول ما هو قطعي محكم؛ فهذا ثابت الحكم لا يتغيّر بتغير الزمان
والمكان. والآخر مسائل الاجتهاد وموارد الخلاف التي لم يحسمها نص قاطع ولم يثبتها
دليل ظاهر، فليس فيها نص شرعي ولا إجماع قطعي؛ فهذه يحكمها اجتهاد المجتهدين
المؤهلين، فيختار المجتهد منها أظهرها عنده.
فأما القسم الأول: فإن الناس ملزمون بالسير
على وفقه التزاماً للشرع، واتباعاً له، ولا يسوغ مخالفته.
وأما الثاني: فهي منوطة باجتهاد المتكلم متى
كان أهلاً، فيتكلم فيها بالبيّنات والحجج العلمية، لكنها ليست مورداً للإنكار ولا
محلاً للمفاصلة.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى عمن قلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؛ هل ينكر عليه أو يهجر؟ فأجاب:
(مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل
بأحد القولين لم يُنكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به،
وإلا قَلّد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين)[11].
وقال النووي مبيّناً سبب اختصاص الإنكار
بأهل العلم في المسائل غير الظاهرة: (الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا
أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ؛ لِأَنَّ
عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار
عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ. وَعَلَى الْمَذْهَب
الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد وَالْمُخْطِئ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا، وَالْإِثْم
مَرْفُوع عَنْهُ، لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج
مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف إِذَا
لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر)[12].
لكن قد يغير المحتسب المختلف فيه، بل المباح
أيضاً، في أحوال يعرفها الفقيه ويقدرها؛ فمن ذلك أن بعض ولاة السلف رأى الناس في
جامعي البصرة والكوفة إذا صلوا في صحنه فرفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب،
فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد الجامع، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظن
الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة[13].
رابعاً: لا ينحصر الاحتساب في
وسيلة واحدة ولا أسلوب واحد، ولا تتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا
بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ليصل من خلالها لما يريد، ولو كانت حادثة لم
ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف، ما دامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه[14].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
(لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يُراد إعلانه وإشاعته والإخبار به.. يُسلك فيه طريق
يحصل به هذا المقصود.. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور
بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر.. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها
أسرعوا إليها. وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع، ووردت أدلة وأصول في
الشريعة تدل عليه، فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في
أمور دينهم ودنياهم؛ فإن الشرع يقره ويقبله، ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً،
بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل
كثيرة، ويمكنك إذا فهمته أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي
لا تزال تقع، ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ، وربما ظننت كثيراً من الأشياء
بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع، فتخالف بذلك
الشرع والعقل وما فطر عليه الناس...)[15].
وإذا تبيّن أن هذه الوسائل اجتهاديّة؛
فللمسلم أن يسلك ما شاء منها، لكن هذه الخيرة ليست إليه تشهياً، ولا بحسب ما يحقق
هواه، وإنما هي خيرة مبناها اختيار الأصلح والأصوب - مما سنعرض له في الوقفة
التالية -، وهذا باب من الاجتهاد يستلزم فقيهاً يحقق مناطه، وينقح أخلاطه.
خامساً: وسيلة الاحتساب المناسبة
تحتاج إلى فقه وتقدير للمصالح والمفاسد، حتى في المسائل الظاهرة، وليس كون المنكر
ظاهراً يكفي للاحتساب بأي طريق ولو أدى إلى مفاسد كبيرة.
إذ في بعض الأحوال قد ينجر عن إنكار المنكر
من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة وإقامة الدين ونشره ومنع
الفساد، ويحدث ذلك بسبب عدم التبصّر بمآلات التصرّفات والآراء والأقوال، أو بسبب
الباعث السيئ عند ممارس الاحتساب. وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً، فإن مجرد
مفسدة المآل، والنتيجة السلبيّة الحاصلة أو المتوقعة؛ يجعل الاحتساب بهذا الطريق
ممنوعاً واجب الكتمان.
والمعيار الذي توزن به الآراء والاجتهادات
هو مدى كون آثارها محقِّقة لمقاصد الشرع أو مناقضة لها.
قال الشاطبي: (لما ثبت أن الأحكام شُرعت
لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها، فإذا كان الأمر
في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة
مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها،
وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرعت لأجلها، فالذي عمل من
ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات)[16].
وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل
المنافقين دفعاً لمفسدة تحدُّث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه؛ فرد من أمثلة هذه
القاعدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (على المفتي أن
يمتنع عن الفتوى فيما يضر بالمسلمين ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفتوى إن
كان قصد المستفتي كائناً من كان نصرة هواه بالفتوى وليس قصده معرفة الحق واتباعه)[17].
وقال ابن القيم: (إن النبي شرع لأمته إيجاب
المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر
يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله
يبغضه ويمقت أهله)[18].
سادساً: من سنة الله تعالى
الكونية الثابتة أن من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يبتلى
ويصيبه الأذى لا محالة، وفي وصية لقمان لابنه: {وَأْمُرْ
بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].
وفي سورة العصر وصف الله المؤمنين بأنهم: {وَتَوَاصَوْا
بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ٣].
فناسب أن يعقب أمرهم بالحق تذكيرهم بالصبر
على ما يحصل نتيجة الاحتساب.
قال الطاهر بن عاشور: (وقع التنبيه على أن
من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل
تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك
المنكر.
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق؛ لأن
الصبر تحمّل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق..
ومن الصبر: الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمَرَ بالمعروف من امتعاض بعض
المأمورين به أو مِن أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هَلاّ نظرت في أمر نفسك، أو نحو
ذلك)[19].
ولا شك في أن الناس تتفاوت في مدى احتمالها
وصبرها؛ ولذا تتفاوت أجور الناس كما تتفاوت التكليفات المتعلقة بكل واحد بحسب هذه
الفروقات بين البشر، فمن الناس من يصعب عليه اليسير، ومنهم من يستصغر العظيم، ومن
هنا كان كل إنسان طبيب نفسه في مدى احتماله.
قال ابن تيمية: (أكثر الخلق يكون المستحب
لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً، إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل ولا يصبرون عليه إذا
قدروا عليه، بل قد يتضررون إذا طلبوه)[20].
وقد كتب عبد الله بن عبد العزيز العمري
العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم،
فكتب إليه مالك: (إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في
الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر
فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر،
وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو
أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام)[21].
فمن لم يعلم من نفسه القدرة على احتمال ما
يصيبه فليس يجب عليه التصدي للاحتساب.
قال في فتح الباري: (قَالَ الطَّبَرِيُّ:
اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ، فَقَالَتْ طَائِفَة يَجِب
مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: أَفْضَل الْجِهَاد كَلِمَة حَقّ عِنْدَ
سُلْطَان جَائِر، وَبِعُمُومِ قَوْله: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ.
وَقَالَ بَعْضهمْ: يَجِب إِنْكَار
الْمُنْكَر، لَكِنَّ شَرْطه أَنْ لَا يَلْحَق الْمُنْكِر بَلَاء لَا قِبَلَ لَهُ
بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوه. وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِر بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمّ
سَلَمَة مَرْفُوعًا: يُسْتَعْمَل عَلَيْكُمْ أُمَرَاء بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ
فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ،
قَالَ: وَالصَّوَاب اِعْتِبَار الشَّرْط الْمَذْكُور وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث:
«لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسه»، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ
يَتَعَرَّض مِنْ الْبَلَاء لِمَا لَا يُطِيق. وَقَالَ غَيْره: يَجِب الْأَمْر
بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسه مِنْهُ
ضَرَرًا)[22].
وشاهد أن العبرة بحال المكلف ما رواه
حُذَيْفَةَ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ
مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُهُ)[23].
بل يدل الحديث على منع المكلف ونهيه عن
الإقدام على الاحتساب فيما يعلم أنه يعرضه لأذى لا يحتمله، ولذا نقل سكوت بعض
الصحابة رضي الله عنهم على شيء مما رأوه من ظلم الحجاج وغيره من ولاة السوء.
الصبر سلاح ينبغي ألا ينفك من الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر، فلا بد من أن يناله من أذى الناس وسخريتهم وحسدهم ما
يحتاج معه إلى صبر يوطنه على مواصلة الطريق، لكن كل إنسان أدرى بقدرته ومقدار ما
يمكنه احتماله، وهذا باب من الاجتهاد يحتاج إلى فقه نفس ونية حسنة.
سابعاً: قيادة المجتمعات للفقهاء
فقط: والواقع الآن أنه قد أثرت وسائل التواصل باستدعاء الناس للاحتساب وحثهم عليه،
وتولى كبر ذلك أصحاب التأثير من العوام بفهمهم القاصر لفتاوى علماء قد لا يفهمونها
على وجهها، أو لا يضعونها في نصابها المناسب، وقد تكون آراء وقتية، وربما شاذة
أيضاً، إذ كل عالم له هفوة.
ولما كان العوام لا يقدرون المصالح والمفاسد
والمفاوضة بينهما، ولا ما يسوغ فيه الخلاف، ولا إمكان تغير الفتوى، كما يسيطر عليهم
العقل الجمعي وتؤثر فيهم العواطف فتغلبهم، وربما يحصل من جراء احتسابهم الذي
يريدون به الخير: شر كبير.
قال في نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة
الشريفة: (لما كانت الحسبة أمراً بمعروف، ونهياً عن منكر، وإصلاحاً بين الناس؛ وجب
أن يكون المحتسب فقيهاً، عارفاً بأحكام الشريعة، ليعلم ما يأمر به، وينهى عنه، فإن
الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف
والمنكر إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورب جاهل يستحسن
بعقله ما قبحه الشرع، فيرتكب المحظور، وهو غير عالم به، ولهذا المعنى كان طلب
العلم فريضة على كل مسلم)[24].
إن على العامي مهما رأى من تتابع الناس له
وتلقفهم لكلامه، ومهما آنس من نفسه من فطنة وذكاء، ومهما حصل من مقروء ومفهوم؛ أن
يعلم أنه رغم ذلك كله لا يزال عامياً، ليس من أهل الفقه الشرعي، وليس له بأي عذر
أن يتولى توجيه المجتمع وزمام قيادته، وأنه فيما يحسب أنه يحسن فهو قد يسيء ويفسد،
وإن مهمة قيادة الأمة لفقهائها وعلمائها فقط، فاربع على نفسك، واحسب لخطوك موضعه
قبل أن تزل قدمك.
وإنني إذ أقرر ذلك لا أنكر أن الواقع يشهد
إعراض بعض العلماء عن القيام بدورهم[25]،
لكن افتقاد النسور لا يبيح للبغاث أن يستنسر، فرحم الله من عرف قدره، ووزن عمله
بالشرع.
(وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَاب،
أَعْنِي بَاب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، قَدْ ضُيِّعَ
أَكْثَره مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَة، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي هَذِهِ
الْأَزْمَان إِلَّا رُسُوم قَلِيلَة جِدّاً. وَهُوَ بَاب عَظِيم بِهِ قِوَام
الْأَمْر وَمِلَاكُهُ. وَإِذَا كَثُرَ أَوَّلًا عَمّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ
وَالطَّالِحَ. وَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَد الظَّالِم أَوْشَكَ أَنْ
يَعُمَّهُمْ اللَّه تَعَالَى بِعِقَابِهِ {فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].. فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْآخِرَة،
وَالسَّاعِي فِي تَحْصِيل رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَذَا
الْبَاب، فَإِنَّ نَفْعَهُ عَظِيم، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَهَبَ مُعْظَمُهُ،
وَيُخْلِص نِيَّته، وَلَا يُهَادِن مَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ مَرْتَبَته؛
فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ
هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: ١٠١]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3].. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْر عَلَى قَدْر
النَّصَب، وَلَا يُتَارِكهُ أَيْضاً لِصَدَاقَتِهِ وَمَوَدَّته وَمُدَاهَنَته
وَطَلَب الْوَجَاهَة عِنْده وَدَوَام الْمَنْزِلَة لَدَيْهِ؛ فَإِنَّ صَدَاقَته
وَمَوَدَّته تُوجِب لَهُ حُرْمَة وَحَقّاً، وَمَنْ حَقّه أَنْ يَنْصَحهُ
وَيَهْدِيه إِلَى مَصَالِح آخِرَته، وَيُنْقِذهُ مِنْ مَضَارِّهَا. وَصَدِيق
الْإِنْسَان وَمُحِبُّهُ هُوَ مَنْ سَعَى فِي عِمَارَة آخِرَتِهِ، وَإِنْ أَدَّى
ذَلِكَ إِلَى نَقْصٍ فِي دُنْيَاهُ. وَعَدُوُّهُ مَنْ يَسْعَى فِي ذَهَاب أَوْ
نَقْص آخِرَته، وَإِنْ حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ صُورَة نَفْعٍ فِي دُنْيَاهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ إِبْلِيس عَدُواً لَنَا لِهَذَا، وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء
صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَوْلِيَاء لِلْمُؤْمِنِينَ
لِسَعْيِهِمْ فِي مَصَالِح آخِرَتهمْ، وَهِدَايَتهمْ إِلَيْهَا. وَنَسْأَل اللَّه
الْكَرِيم تَوْفِيقنَا وَأَحْبَابنَا وَسَائِر الْمُسْلِمِينَ لِمَرْضَاتِهِ،
وَأَنْ يَعُمَّنَا بِجُودِهِ وَرَحْمَته)[26].
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.
[1] مسلم
في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49).
[2]
البخاري في كتاب الفتن (7059)، ومسلم في كتاب الفتن
وأشراط الساعة (2880).
[3]
أحمد في «مسنده» (1، 2، 5، 7)،
وأبو داود في كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي (4338)،
والترمذي في كتاب الفتن - باب ما جاء في نزول
العذاب إذا لم يغير المنكر (2168)،
وابن ماجه في «سننه»: كتاب
الفتن - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005)،
وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه».
[4]
توجيهات وذكرى 1/47.
[5]
شرح صحيح مسلم (1/131)، الحديث رقم 70.
[6]
(1
/ 118).
[7]
لابن قدامة (2 / 28).
[8]
المحصول (4 / 197).
[9]
الموافقات (4/167).
[10]
(1
/ 3).
[11]
مجموع الفتاوى (20/257).
[12]
شرح صحيح مسلم (1/131)، الحديث رقم 70.
[13]
الأحكام السلطانية للماوردي ص 490.
[14]
ممن ذهب إلى اعتبار أن وسائل الدعوة اجتهادية تراعى فيه مصلحة الدعوة مما لا يخالف
الشرع: فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، كما في لقاء
الباب المفتوح 15/49.
[15]
مختارات من الفتاوى السعديَّة، المسألة الثانية عشرة، ص 248.
[16]
الموافقات (2/385).
[17]
مجموع الفتاوى (28/198).
[18]
إعلام الموقعين (3/151).
[19]
التحرير والتنوير (16/ 384).
[20]
مجموع الفتاوى (19/119).
[21]
التمهيد لابن عبد البر (7/185).
[22]
فتح الباري لابن حجر (20/ 106).
[23]
أخرجه أحمد 5/405، وابن ماجه (4016)،
والترْمِذِيّ 2254.
[24]
(1/2).
[25]
لعل الله أن يطيل في الأجل وييسر أن أستعرض في مقال قادم شيئاً من دور الفقهاء
المعطل وكيفية استعادته.
[26]
تضمين من شرح صحيح مسلم للنووي (1/131)،
الحديث رقم 70.