دور المتن الفقهي في الرد على المتكلمين والصوفية
يقوم المتن الفقهي على ساق النظر
والاستدلال، ويلوي على النصوص في صياغة الأحكام ولا يخرج عن ولايتها؛ فالنص مناط
الحكم تأصيلاً وتخريجاً، حيث يستنبط الفقيه منه الحكم، ثم يجعله أصلاً في قياس
الفرع عليه بجامع العلة، ليأخذ الفرع حكم الأصل بعد ذلك، فمداره على النظر في
النص، ويبقى تسليط النظر الآخر عليه من قبل المحدثين صحة وضعفاً حتى لا تبنى
الأحكام على ضعيف الحديث.
فيحصل لنا هنا مقامان، أحدهما من يشتغل بحفظ
الحديث كما ورد ويُعنى بتمييز صحيحه من سقيمه، وهي وظيفة المحدثين؛ والثاني من
يستنبط من الفقه كما في الحديث؛ أما الصنف الثالث فلا مرحباً به ولا أهلاً، وهو
الذي يرضى التقليد في معارضة النص، فهذا مزلة أقدام ومضلة أفهام قد نزه الله سبيلَ
السلف عنها، وعُرف بها بعض متعصّبة المذاهب، وهم نزر يسير ينزعون لتأويل ما يخالف مذهبهم
ولا يخالفون النص صراحة.
وتعظيم النص واستنباط الأحكام منه سبيل
الفقهاء، فلا غرو أن يشرق المتصوفة والمتكلمون بطريق الفقهاء، فإن المتصوفة قد
أسّسوا بنيانهم على الكشف والذوق، ومناط طريقهم تسليم المريد لشيخه؛ وأما
المتكلمون فقد عارضوا النصوص بالعقل وخرجوا عن سلطانها. وإذا كانت كتب العقائد قد
عُنيت بالرد على هاتين الطائفتين، فإن للمتن الفقهي دوراً في الغاية نفسها ربما
يكون أشد وقعاً في نفوس المتفقهين وسلاحه أمضى تأثيراً.
ونريد أن نطوف في بيان هذا الاستهلال من
خلال مثالين يوضحان دور المتن الفقهي في هذا المضمار.
أولاً: مسمى
الإيمان بين الفقهاء والمتكلمين
عُنيت المتون الفقهية في كتاب الردة بتقرير
أنواع الردة والأسباب الموقعة فيها، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك، وبُني هذا
التقرير على منهج السلف في مسمى الإيمان وأنه قول وعمل؛ قول القلب واللسان، وعمل
القلب والجوارح، فأما قول اللسان فالنطق، وأما قول القلب فالتصديق، وأما العمل
قسمان: عمل القلب نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فالإيمان يتضمن أركاناً وواجبات
ومستحبات كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه،
ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو
الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من
الأعيان والصفات).
وقد حاد عن هذه الجادة طوائف تنكبوا الطريق،
منهم الأشاعرة، وجمهورهم أن الإيمان تصديق فقط، وينشأ عن التصديق القول والعمل، واختلفوا
في النطق؛ فذهب الأخلاف إلى أنه يدل على الإيمان ويعبر عن التصديق باللسان، كما
قال صاحب الجوهرة:
وفسر
الإيمان بالتصديق
والنطق فيه الخلف بالتحقيق
وأطبقوا على إخراج العمل عن مسماه وجعلوه
يدل عليه بحكم الحال، كما أن النطق والإقرار دلالة بحكم المقال، فهم مرجئة جهمية
أجمعت كتبهم قاطبة على أن الإيمان هو التصديق القلبي.
والفقهاء قد قرروا في المتون الفقهية طريقة
السلف دون طريقة المتكلمين، وذكروا في كتب الردة ما يدل على انتحال طريق السلف في
الإيمان حين ذكروا الأعمال التي يكفر فاعلها، ومن عباراتهم في ذلك قولهم إن السجود
لغير الله ورمي المصحف بِقَاذورةٍ وسب الله ورسوله كفر، ونقل بعضهم الإجماع على
ذلك من غير التفات إلى شرط الأشاعرة في الاستحلال، وقد أحدث هذا اضطراباً عند
المتأثرين بطريقة المتكلمين، الذين يرون عدم ذلك ليس داخلاً في الإيمان، ولنأخذ
مثالين يدلان على ما وراءهما من اضطراب المتكلمين:
1 - قال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين «وعلى
القول بأن مسمى الإيمان التصديق بالقلب كما هو قول الأشعري والماتريدي، أو بالقلب
واللسان كما هو مذهب الحنفية؛ فقد ضم إليه في تحقق الإيمان أموراً الإخلال بها
إخلال بالإيمان اتفاقاً؛ كترك سجود الصنم وقتل نبي أو استخفاف به وبالمصحف»[1].
ونقل عن الإسفارييني قوله: «فإذا
وجد من هذه الإخلالات السابق ذكرها دلنا على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من
قلبه لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان لأنه جمع بين الضدين». لكن
أحسن ابن الهمام في نقض هذا الغزل فقال: «ولا يخفى أن بعض هذه
الأمور التي تعمدها كفر قد توجد وصاحبها مصدق القلب، وإنما يصدر عنه لغلبة الهوى،
فتعريف الإيمان بتصديق القلب فقط غير مانع لصدق التعريف مع انتفاء الإيمان، وبالله
التوفيق».
ولذلك قال الزبيدي: «فيمكن
اعتبار هذه الأمور: التصديق والإقرار وعدم الإخلال بما ذكر،
أجزاء لمفهوم الإيمان، وغاية ما فيه نقل عن مفهومه اللغوي الذي هو مجرد التصديق
إلى مجموع أمور اعتبرت جملتها ووضع بإزائها لفظ الإيمان التصديق جزء منها»[2].
فتأمّل سلامة تقرير الفقهاء في المتون
الفقهية واضطراب المتأثرين بطريقة المتكلمين الذين راموا الجمع بين القولين فجعلوا
الإيمان التصديق والإقرار وعدم الإخلال بما ذكره الفقهاء، وذلك حين رأوا أن تعريف
المتكلمين غير جامع ولا مانع.
2 - ذكر ابن حجر الهيتمي الشافعي في التحفة ما
وقَع في متن المواقف وشرحه من أن نَحو السجود لنحو الشمس من مصَدق بِما جاء به
النبِي صلى الله عليه وسلم كفر إجماعاً، وذكر بأن
وَجه كَونَه كفراً بِأَنه يدل عَلى عدمِ التصدِيقِ ظَاهِراً، وذلك على طريقة
الأشاعرة، ثم قال ما نصه في التفريق بين منهج الفقهاء والمتكلمين: «والحاصل
أَن الإِيمانَ عَلى هَذه الطريقَة التي هِيَ طريقَة المتكَلمين، له حيثيتان: النجاة
في الآخرة وشرطها التصديق فَقَط، وإِجراء أحكَام الدنيا ومناطها النطق
بِالشهادتَين مع عدَم السجود لغير الله ورميِ المصحف بِقَاذورةٍ، وغير ذَلِكَ مِن
الصوَر التِي حكَم الفقَهاءُ بِأَنها كفر، فَالنطق غَير داخل فِي حَقِيقَةِ
الإِيمَانِ».
فتأمل هذا الاضطراب الذي أحدثه تقرير المتن
الفقهي والجمع بينه وبين قول الأشاعرة، فزعم أن النطق غير داخل في حقيقة الإيمان،
وكذلك ترك الصور التي ذكر الفقهاء بأنها كفر، وقال إن ذلك شَرط لإِجراء الأَحكَامِ
الدنيوِيةِ، أو يدل على عدم الإيمان، وذكر الإجماع على اعتبار النطق وأنه اختيار
النووي، ثم قال: «لكن أَشار بعضهم إلى أَن هذَا مَذهب
الفقَهاء والأَول مذهب المتكلمين».
وهكذا يتبيّن لنا الاضطراب بين تقرير
الفقهاء السليم وطريقة المتكلمين السقيمة، حتى قال ابن حزم: «أما
الأشاعرة فقالوا إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله لأفحش ما يكون من الشتم
وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء
من ذلك كفراً، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في
قلبه كفراً» الفصل في الملل 5/ 75. وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم رأوا أن الأمة قد
كفّرت الساب فقالوا لإنما كفر لأن سبه دليل أنه لم يعتقد أنه حرام، واعتقاد حله
تكذيب للرسول، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل التكذيب» الصارم
المسلول/ 491.
فالحق الذي لا يجد الاضطراب إليه مدخلاً هو
ما عليه المتن الفقهي القائم على منهج أهل السنة في تقريرهم بأن الإيمان قول وعمل،
وهو قول القلب واللسان، وعمل القلب والأركان، فما أسلمه وأحكمه وأعدله.
ألا
أيها الركب اليمانون عرجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
ثانياً: زيارة
القبور بين الفقهاء والصوفية
اهتمت المتون الفقهية في كتاب الجنائز
بتقرير أحكام الزيارة الشرعية للقبور وتحرير آدابها استناداً إلى النصوص الواردة
في ذلك، ومن ذلك النهي عن البناء على القبر وتجصيصه والقعود عليه والكتابة عليه،
لحديث جابر: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن
يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه» أخرجه مسلم، وزاد أبو
داود: «وأن يزاد عليه وأن يكتب عليه».
وخاض الفقهاء في الخلاف بين تسنيم القبر
وتسطيحه؛ فذهب إلى الأول طائفة لحديث سفيان التمار قال: «رأيت
قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنماً» أخرجه
البخاري. وذهب إلى اختيار الثاني طائفة لحديث القاسم
قال:
«دخلت على عائشة فقلت: يا
أمه اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه
رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة
الحمراء» أخرجه أبو داود. وقد
جمع ابن القيم بين الحديثين فقال في زاد المعاد: «وقبره
مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه».
وذكر النووي في المجموع شرح المهذب 5/ 311 عن
أبي موسى عن بعض الفقهاء، أن الزائر لا يمسح القبر ولا يقبّله ولا يمسّه، فإن ذلك
عادة النصارى، قال النووي: «وما ذكروه صحيح لأنه قد
صح النهي عن تعظيم القبور».
فمن أين إذاً جاءت القباب واتخاذها عيداً
ومساجد وتعظيم أربابها؟ والجواب عن ذلك يكشفه الوقوف على مكر الرافضة في تعظيم
المشاهد وأصحابها، قال شيخ الإسلام: «ولم يكن في العصور
المفضلة مشاهد على القبور، وإنما كثر ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض
المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام» 27/ 167،
وقال أيضاً: «فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك،
ثم لما تمكنت الزنادقة أمر ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، ورووا في إنارة المشاهد
وتعظيمها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى
صنَّف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل
بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا
جامعين بين الشرك والكذب» 27/ 161.
وقد تلقّفت الصوفية هذه السنة الرافضية
وأفرطت في بناء القباب وإقامة الزيارات الحولية الشركية والاستغاثة بالمقبورين،
مشاقة للنصوص وصداً عن التوحيد. وفي حضرموت اشتهرت زيارة
قبر النبي هود عليه السلام المزعوم شرقي مدينة تريم في منتصف شعبان من كل سنة،
وتجسّد فيها الفرقان بين الزيارتين؛ الشرعية القائمة على المتن الفقهي، والبدعية
القائمة على التسليم لأقطاب الصوفية؛ فقبر نبي الله هود عليه السلام المزعوم
بحضرموت تم تعيينه عن طريق الكشف الصوفي الذي ادّعاه بعض أقطاب الطريقة، ثم انتقال
الزيارة إلى طريقة المتصوفة كان على يد أحد أقطاب الطريقة الذي زعم أنه مكث 13 سنة
منتظراً الإذن، فحصل له الإذن (بعد أن تحوّلت الزيارة من
الزيارة الشرعية على طريقة الفقهاء إلى الطريقة الصوفية، طريقة المدد والتبرك
بالمزار، وأصبح لهذه الزيارة عوائد وطقوس منذ القرن التاسع).
كما أن نشر الفضائل المترتبة على الزيارة
قام عن طريق سماع الهواتف حين زعم أحد أقطاب الطريقة أن نهر هود من أنهار الجنة! وكذا
قول القائل من بشرنا بسلامة الزوار، وأن الضحكة في هود بتسبيحة... وغير
ذلك ممّا مبناه على أصول الصوفية من الرؤى والمنامات.
وهكذا استطاع المتصوفة تبرير أفعالهم
من خلال الاستدلال بأصولهم، فإذا ما دخلوا دائرة الفقه وقرروا المتن الفقهي ظهر
التناقض والاضطراب وأتوا في التأويل بالعجب العجاب وأضحوا كالغراب الذي رام تقليد
القطاة في مشيها فلا ذا تأتّى ولا ذا حصل.. وبالله التوفيق.
:: مجلة البيان العدد 324 شعبان 1435هـ، يونيو 2014م.
[1] إتحاف السادة المتقين/ كتاب
الإيمان.
[2] المرجع السابق.