• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
"يا ليت قومي يعلمون"

"يا ليت قومي يعلمون"

 

موقف من أعجب المواقف القرآنية، ذلك الذي كان بطله الرجل المؤمن الذي ذُكرت قصته في سورة يس، والذي هو صاحب تلك الكلمة المعنون بها هذا المقال.

ولعل أشد ما يثير الدهشة والعجب في تلك القصة وذاك الموقف القرآني الباهر، هو الموطن الذي قيلت فيه تلك الكلمة.

فلقد قال الرجل: “يا ليت قومي يعلمونفي دار غير الدار وحال غير الحال.

لقد قالها وهو يكاد يدلف إلى الجنة!

خرجت منه تلك العبارة بعد أن قتله قومه ونال الشهادة على أيديهم، ورغم ذلك كان همه أن يعلموا!

كانت رغبته وما يشغل ذهنه أن يدرك الناس ما عند الله من المغفرة والإكرام.

إنه مشهد يجسّد حرصاً غير عادي وتفانياً منقطع النظير ورغبة عارمة في هداية الخلق وتعريفهم بالحق.

على أن الأمر لم يبدأ بهذا المشهد العجيب وتلك اللحظة الأخروية الباهرة، بل إنه كان قد بدأ قبل ذلك.

بدأ في وقت لم تكن فيه الحاجة إلى ذلك الرجل ماسَّة، ولم يكن التكليف عليه متعيناً، ذلك أنه كان في مدينته أنبياء.

ليس نبياً واحداً ولا اثنين، بل كان هنالك ثلاثة أنبياء.

وهو رجل عادي من عوام الناس، فماذا عساه أن يزيد عليهم أو يضيف؟

ما الفارق الذي يمكن أن يصنعه في وجود كل هذا العدد من أفاضل الخلق وأحسنهم بياناً وأبلغهم حجة ومنطقاً؟

وهل بعد تكذيب مدينته لأولئك المعصومين يُنتظر له استجابة أو يُظن به قدرة على التأثير؟!

ربما دارت كل تلك الأسئلة والخواطر في ذهن حبيب النجاركما ورد اسمه في بعض التفاسير - بينما هو في طريقه من أقصى المدينة ساعياً مُجِدّاً في سيره ليبلغ مكان اجتماع الناس ومنتداهم.

ولربما استرجع في تلك اللحظات ما لقيه المرسلون من عنت وصدود وتكذيب، ولعله قد دارت بخلده مشاهد الإهانة والتوبيخ التي قوبل بها أولئك الأخيار، والتي تجعل غالب الظن بعد كل ذلك أن يلقى ما لقيه أئمة الحق أو أشد، لكنه مع ذلك ما انفك عن السعي وما تباطأ به المسير أو قعد عن البذل!

إنه رجل يعرف هدفه جيداً ويدرك أبعاد قضيته بشكل واضح، ويعلم أن مناط تلك القضية ليس مطلق ترتب الثمرة ولا حصول الاستجابة، فتلك أمور بيد مولاه، لكن الصدع بالحق كان هو مبتغاه والبلاغ عن الله كان هو غاية مسعاه.

لذلك جاء..

ومن أقصى المدينة سعى..

ومن أعمق أعماق نفسه صدع: “يا قوم اتبعوا المرسلين”..

لم تكن دعوته لنفسه، ولم يكن مطلبه لذاته، ولم يجعل مسعاه لمصلحته، بل أعلن تجرده في أول جملة قائلاً: «اتبعوا المرسلين»..

لقد كانت دعوة متجردة نقية، وكان صدعاً بحق خالص لا تشوبه من شوائب حظ النفس شائبة، فهؤلاء المرسلون الذين لا يسألونكم أجراً والذين هم كذلك لا يطلبون شيئاً لأنفسهم؛ هم الأولى بالاتباع.

لقد كان تجردهم قدوة لتجرده، وإخلاصهم أسوة لتفانيه، وكل ذلك في منظومة صدق متكاملة هدفها الأوحد إعلاء كلمة الله وتوحيده بالعبادة والقصد وبذل الوسع لإبلاغ رسالته.

كان هذا لسان حال حبيب النجار وما لخصه لسان مقاله في كلماته البديعة التي خلد ذكرها المولى في كتابه قائلاً: {اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ 21 وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ 22 أَأَتَّخِذُ مِـن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ 23 إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ 24 إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: ٢١ - ٢٥].

كلمات نورانية رقراقة تخاطب العقل والروح معاً في آنٍ واحد، نطق بها الرجل في هذه الظروف العصيبة، ورغم كل ذلك التكذيب وتلك العوائق والعقبات التي واجهت من هم أعلى منه منزلة وأجل قدراً.

ولئن كان من متعذر عن قول الحق والنطق به والصدع بكلماته بدعوى مظنة التكذيب وتوقّع عدم الاستجابة، لكان رجل يعيش في قوم كذبوا ثلاثة أنبياء ولم يقبلوا منهم حقاً ولم يصدقوا منهم حرفاً وما استجابوا لهم؛ هو أولى الناس بذلك..

هو أولى الناس بأن يقطع الطمع في هداية الخلق أو يفقد الأمل في هدايتهم إلى الحق!

لكنه لم يفعل..

ولم يتعذر، ولم يتلكأ..

لم يحقر نفسه، ولم يتعذر بعدم أهمية قوله، أو يحتج بقلة قيمة صدعه..

بل جاء من أقصى مدينته وسعى وتكلم وصدع ونصح ووعظ..

ولقد أعذر..

فأي همة تلك؟!

وأي إصرار هذا الذي استقر في نفس رجل كان من الممكن أن يتعذر بحجة وجود الأنبياء وقيامهم بواجب الصدع والبلاغ.

حتى بعد موته ظلت رغبته في هداية الناس يقظة وحرصه على نصحهم وإرشادهم متأججاً، فقال حين عاين النعيم وأبصر الجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْـجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 26 بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْـمُكْرَمِينَ} [يس: ٢٦، ٢٧].

وفي ذلك المقام الذي كان من الممكن أن ينشغل فيه عن كل ذلك بالطيبات التي أكرم بها وينسى واجب البلاغ..

لكنه أيضاً لم يفعل، فلم ينقطع أمله في قومه، ولم يتكاسل عن نصحهم وبذل الوسع في الأخذ بأيديهم طالما كان فيه عرق ينبض، واستمر على شأنه هذا حتى بعد أن لم يعد ذاك العرق ينبض وانتقل إلى دار القرار!

نموذج عجيب ونمط فريد..

لكنه ليس نموذجاً وحيداً..

فلطالما كان هناك فتيان لم يحقروا أنفسهم، بل قاموا وقالوا الحق كما قاله أصحاب الكهف: ”إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لم ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً”.

ولطالما وُجد الرجال الذين لم يخافوا في الله لوم اللائمين ولا قمع الطاغين أو بطش المفسدين.

ولكم تكرر هذا المعنى في كتاب رب العالمين، ولكم ترسخ هذا المفهوم في كلام سيد المرسلين، ولتستقر تلك العقيدة ولتضرب تلك القيمة بجذورها في قلوب المؤمنين.

قيمة البلاغ والصدع بالحق والرغبة في هداية الخلق، بغض النظر عن الظروف والمعاملات والمؤثرات المحيطة، ودون تعليق الأمر على مظان الاستجابة من عدمها.

إنها قيمة غرس الفسيلة حتى لو كان ذلك بين يدي الساعة وتيقن استحالة إدراك الثمرة.

بتلك القيمة {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: ٢٣].

رغم وجود نبيين أثناء تلك اللحظات الحاسمة التي أمر الله فيها بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ومواجهة القوم الجبارين وقعود بني إسرائيل عن ذلك، ورغم أن كثيراً من الناس سيعلقون هنا مسؤولية النصح والبلاغ على النبيين موسى وهارون - عليهما السلام -؛ إلا أن رجلين من عوام الناسعلى قول جمهور المفسرين- لم يفعلا.

إنهما رجلان أنعم الله عليهما بالتقوى والإيمان والفهم الصحيح والعقل الراجح، قد استشعرا المسؤولية، وعلما أن عليهما واجباً تجاه أمتهما، فلم يحقرا نفسيهما كحال كثير من الناس، بل تكلما ونصحا وصدعا وأعذرا.

صحيح أن بني إسرائيل لم يستجيبوا لهما، لكن يكفيهما أن ربهما قد ذكرهما وأنعم عليهما وخلّد سيرتهما بتلك القيمة التي تُبرز أرقى معاني الإيجابية والرغبة في تغيير الناس للأفضل مهما قست طبيعتهم ووعرت نفوسهم وصعبت استجابتهم.

وبتلك القيمة أيضاً خلّد ذكر أولئك الناهين عن السوء في قصة أصحاب السبت..

أولئك الذين حاول المثبطون تخذيلهم وإبطاء حركتهم الدعوية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، متحججين بهلاك الناس لا محالة، ومدعين أنه لا سبيل لهدايتهم ولا قيمة لوعظهم ودعوتهم، فقالوا: “لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً”.

ولو أن أصحاب الرسالة قد التفتوا يوماً لتثبيط المثبطين وتخذيل المعوِّقين، لما صنعوا شيئاً، ولكان مآل حالهم القعود، ومنتهى سعيهم التثاؤب والكسل، ولما صُدع بحق أو أُبطل باطل.

لكن صاحب الرسالة يمضي في طريقه ولا يلتفت ولا يُسلم أذنيه لأهل التخذيل والتثبيط، وهو حين يمضي يضع نصب عينيه أمرين أعلنهما أولئك الناهون عن السوء..

أولهما: الإعذار إلى ربه والسعي لإرضائه.

وثانيهما: الأمل في التغيير الذي لا ينقطع وإن انقطعت الأسباب.

يظهر ذلك جلياً في ردهم على أولئك الذين بذلوا وسعهم ليعوِّقوهم وليكسروا عزائمهم، زعماً منهم أنه لا فائدة ترجى من صنيعهم، فكان الرد حاسماً ساطعاً براقاً: {قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: ١٦٤].

وعلى الدرب نفسه سار من قبلهم مؤمن آل فرعون.

ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه خوفاً من بطش الطاغية مدعي الألوهية.

لكن تلك اللحظة التي برزت فيها قيمة الصدع والحرص على الأخذ بيد الخلق إلى الحق، كانت قد آنت وحان موعدها، ومن ثم تكلم الرجل وفاض ما في قلبه إلى لسانه وجوارحه التي ظهر عليها مدى خوفه على قومه ورغبته في هدايتهم، خصوصاً في نداءاته التي كان يتلوها خوفه عليهم، وتتبدى من خلال حروفها تلك القيمة التي نتحدث عنها:

{يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: ٣٠ ].

{وَيَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: ٣٢].

{يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: ٣٨].

{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ} [غافر: ٤١].

إنها دعوة الفطرة، والحق، والخير العظيم، والنصيحة، والحرص الأمين على استنقاذ الخلق من العذاب المهين.

دعوة نصوح نافعة بهيجة، يجللها الحرص على الإفادة، وتفوح منها الرغبة في الخير للمدعو.

ألا هكذا فلتكن الدعوة، وعلى ذلك فليكن الداعية.

ويا لها من قلوب قاسية تلك التي لا تستجيب لمثل هذا الحرص، ولا تتجاوب مع كل هذا اللين والحكمة والموعظة الحسنة.

لقد كانت كلماته نصيحة نموذجية شاملة جامعة جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير وضرب الأمثال، وحوت المنطق العقلي والمعالجة الإيمانية والبعد التاريخي، وزينها تواضع الداعية وأدبه واحترامه للمخاطب.

ثم ختم الرجل المؤمن بلاغه، وأتم دعوته، وقال بتسليم مطلق وتفويض تام لملك الأنام: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: ٤٤]، فلم يشترط إجابة، ولم يربط دعوته بامتثال أو قبول من مدعويه، بل فوض أمره إلى من إليه يرجع الأمر كله.

وهكذا كان رجال من عموم الناس صدعوا بالحق في كل زمان ومكان ليسوا بأنبياء ولا مرسلين، بل هم بشر عاديون غير معصومين، جمع بينهم قول الحق والصدع بالأمر وعدم كتمان الإيمان الذي خالطت بشاشته قلوبهم، وامتزج ضياؤه بقناعة عقولهم.. لم يشترطوا على ربهم أن تنجح دعوتهم، ولا أن تثمر مسيرتهم، فكان حالهم ومآلهم نموذجاً عملياً وتطبيقاً واقعياً لتلك القاعدة الربانية: {وَقُلِ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩].

وإن من الناس من يظن أن صدعه بما يراه حقاً وجهره بما يعتقده صواباً وصدقاً، إنما هو مرتهن بمظنة استجابة الناس له وطلبهم سماعه وقبولهم قوله، فإن غلب على ذلك الظن أنهم سيستجيبون نطق، وإن آنس منهم رغبة في سماعه صدع، وإن كانت الأخرى سكت وكتم وأعرض.

قد طابت نفسه وارتاح ضميره بمسكّناتلا فائدة، ومهدئاتهلك الناس، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن المرء إنما يصدع لينجو، وإنما ينصح ليُرضي رباً لم يتعبده بالنتائج ولم يكلفه بالثمار، وأنه أحوج إلى النطق بالحق والجهر به ممن يسمعونه، سواء استجابوا له أم لم يستجيبوا، متمثلاً نهجاً قويماً لطالما سلكه الدعاة وأقره كتاب الله، فحواه: {مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: ١٦٤].

وما يدريه ألا يكونوا من أهل قوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: ١٦٤]؟

فما بال أقوام يتعذرون ويتلكؤون، وعن قول الحق والصدع بالنصح هم معرضون، ورغم الحاجة إليهم هم مبتعدون، وعن قومهم هم محتجبون، ولقضايا أمتهم هم مهملون. فمتى يظهرون، وإلى ربهم يعذرون، ولأمتهم ينصحون، وللواء قضيتهم يرفعون؟

متى عساهم يشعرون ويحيون بقيمة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}؟

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.


أعلى