كيف تبدأ صلاتك؟ ولماذا يُعدّ دعاء الاستفتاح مفتاح الخشوع وحضور القلب؟
تعرف على معاني أدعية عظيمة مهجورة، وكيف ينعكس فهمها على جودة صلاتك وأثرها في حياتك.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا
كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه
وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: تعظم قيمة العلوم والمعارف بقدر ما تحقق لصاحبها من منافع، وأعظم
العلوم منفعة للعبد ما يتعلق بدينه؛ لتعلق مصيره الأبدي به في الدار الآخرة.
والصلاة ركن الدين الأعظم بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، ولا حظ في الإسلام لمن
ترك الصلاة، وحري بكل مؤمن أن يتعلم أحكامها، ويعرف أركانها وواجباتها، ويحافظ على
سننها.
والصلاة يستفتح لها بأدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم تكون بعد تكبيرة
الإحرام وقبل قراءة الفاتحة، وهي من سنن الصلاة، وإذا فات محلها عمدا أو نسيانا فلا
يقولها، والمسبوق إن كبر وهم وقوف يقرؤون، أتى بالاستفتاح ثم بالفاتحة، وإلا فاته
إن ركعوا.
والأولى بالمؤمن أن يحافظ على دعاء الاستفتاح؛ لأنه من سنن الصلاة، والتبكير
للمسجد مما يعين على المحافظة عليه. كما ينبغي للمؤمن أن يحفظ كل أدعية الاستفتاح
الواردة في السنة، وينوعها في صلاته، فيأتي بهذا مرة وبهذا مرة؛ وذلك ليأتي بكل
المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولئلا يهجر شيئا من سنن الصلاة؛ وليكون أحضر
لقلبه. ولا يصح أن يجمع كل أدعية الاستفتاح في صلاة واحدة.
وأصح ما ورد في دعاء الاستفتاح: حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
«كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَبَيْنَ القِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً -قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً- فَقُلْتُ:
بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ
خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي
مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ
اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ»
رواه الشيخان.
ومناسبة افتتاح الصلاة بهذا الدعاء المبارك أن المصلي قد تطهر من ذنوبه بالوضوء،
فإذا بقي منها شيء كفره المشي إلى المسجد،
«فإذا
قام المصلي بَيْن يدي ربه فِي الصلاة وشرع فِي مناجاته، شرع لَهُ أول مَا يناجي ربه
أن يسأل ربه أن يباعد بينه وبين مَا يوجب لَهُ البعد من ربه، وَهُوَ الذنوب، وأن
يطهره مِنْهَا؛ ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة، فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها من
المعرفة والأنس والمحبة والخشية، فتصير صلاته ناهية لَهُ عَن الفحشاء والمنكر، وهي
الصلاة النافعة».
وأشهر أدعية الاستفتاح: ما جاء في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه:
«أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ
قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى
جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»
رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن خزيمة. وفي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه كان يجهر بهذا الاستفتاح، ولعله جهر به لأجل أن يسمعه الناس فيحفظوه. قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
«أَمَّا
أَنَا فَأَذْهَبُ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عمر، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ
بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الِاسْتِفْتَاحِ كَانَ حَسَنًا».
قال ابن القيم:
«وَإِنَّمَا
اخْتَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ وذكر منها: جَهْرُ عمر
بِهِ يُعَلِّمُهُ الصَّحَابَةَ. واشْتِمَالُهُ عَلَى أَفْضَلِ الْكَلَامِ بَعْدَ
الْقُرْآنِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَقَدْ
تَضَمَّنَهَا هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَمِنْهَا:
أَنَّهُ اسْتِفْتَاحٌ أَخْلَصُ لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تعالى، وَغَيْرُهُ
مُتَضَمِّنٌ لِلدُّعَاءِ، وَالثَّنَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ؛ وَلِهَذَا
كَانَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا أُخْلِصَتْ
لِوَصْفِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا:
أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْتَاحَ إِنْشَاءٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى
مُتَضَمِّنٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ».
ومعاني هذا الاستفتاح عظيمة لمن تدبرها وفهم معانيها،
«وإذا
قال: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك؛ شاهد بقلبه ربا
منزها عن كل عيب، سالما من كل نقص، محمودا بكل حمد؛ فحمده يتضمن وصفه بكل كمال؛
وذلك يستلزم براءته من كل نقص. تبارك اسمه: فلا يذكر على قليل إلا كثّره، ولا على
خير إلا أنماه وبارك فيه، ولا على آفة إلا أذهبها، ولا على شيطان إلا رده خاسئا
داحرا. وكمال الاسم من كمال مسماه، فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض
ولا في السماء؛ فشأن المسمى أعلى وأجل. وتعالى جده: أي: ارتفعت عظمته وجلت فوق كل
عظمة، وعلا شأنه على كل شأن، وقهر سلطانه على كل سلطان؛ فتعالى جده أن يكون معه
شريك في ملكه وربوبيته، أو في إلهيته، أو في أفعاله، أو في صفاته؛ كما قال مؤمن
الجن: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً﴾.
فكم في هذه الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها، غير المعطل
لحقائقها».
«ولا
إله غيرك: أي: لا معبود حق غير الله تعالى، والمعبودات من دونه باطلة. قال الله
تعالى: ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي
الكبير﴾ [الحج: 62]».
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[البقرة: 281].
أيها المسلمون: من أدعية الاستفتاح التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه:
«أَنَّ
رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ
بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ (أي: سكتوا مطرقين ولم يجيبوا) فَقَالَ:
أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ:
جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ
عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا»
رواه مسلم. والذكر في هذا الاستفتاح من أعظم الذكر،
«فقوله:
الحمد لله حمدًا كثيرًا، أي: يترادف مَدَدُه، ولا تنتهي مُدَدُه. وقوله: طيبًا، أي:
خالصًا لوجهه تعالى، لا للرياء والسمعة، مباركًا فيه: أي حمدًا جُعلت البركة فيه،
يعني: حمدًا كثيرًا غاية الكثرة».
ومن أدعية الاستفتاح التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء في حديث ابْنِ
عُمَرَ قَالَ:
«بَيْنَمَا
نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا،
وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مَنِ
الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا
أَبْوَابُ السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ»
رواه مسلم.
«وإنما
سأله النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم بيانًا لِعِظَم شأن الكلمة، وليتعلم السامعون
كلامه، فيقولوا مثل قوله»؛
ولذا واظب ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الاستفتاح. وهذا الذكر تضمن الإعلان بأن
الله تعالى أكبر من كل شيء، وتضمن حمده سبحانه حمدا لا ينقطع لكثرته، وتضمن تسبيحه
بكرة وأصيلا، أي صباحا ومساء، والمعنى: تنزيهه سبحانه والثناء عليه على الدوام، وفي
كل الأوقات. وإن المؤمن إذا فهم معنى ما يقول في صلاته تلذذ بها، وخشع فيها، واشتاق
إليها، فمن أراد إقامة صلاته كما أمر الله تعالى، فعليه بتعلم ألفاظها وأذكارها
وأدعيتها، وتدبر ما يقول حتى يألف الخشوع.
وصلوا وسلموا على نبيكم...