• - الموافق2025/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من ألطاف الله تعالى في الابتلاء

البلاء من ألطاف الله العظيمة، فهو يقوّي الإيمان ويجعل العبد يتواضع لله، ويكشف ضعفه، ويفتح أبواب الطاعة (خاصة الدعاء) ويحث على المحاسبة الذاتية، كل ذلك من خلال الصبر والرضا به، مع اعتقاد بأن بعد العسر يسرا.


الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان؛ امتن على عباده بالعافية والرخاء، ولطف بهم في الشدة والبلاء، وأنزل عليهم المعونة والصبر، وألهمهم الرضا والشكر، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقضي قضاء لمؤمن إلا كان خيرا له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعطي فشكر، وابتلي فرضي وصبر، وكانت حياته كلها رضا عن الله تعالى ورضا به، وسعيا في مرضاته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، وأكثروا من الدعاء في العافية يستجب في البلاء، واعلموا أن الله تعالى أعلم بكم من أنفسكم، وأرحم بكم ممن هم أقرب إليكم، فاصبروا على ما أصابكم، وارضوا بما قسم الله تعالى لكم ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].

أيها الناس: جعل الله تعالى الدنيا دار أكدار وأوصاب وابتلاءات، فلا يكاد الإنسان يفرح إلا ويحزن، ولا يكاد يأمن إلا ويخاف، ولا يزول همه إلا عاد بهمٍ جديد. ومع صعوبة الحياة وتعقيداتها، وكثرة الأخطار المحدقة بالناس؛ كثر القلق والخوف والغم فيهم. والمؤمن له رب يركن إليه، ودين يهتدي به، وشريعة يأخذ بها؛ فيعلم أن في المحن منحا، وأن بعد العسر يسرا، وأن الشدائد لا تدوم، وأن الله تعالى يمنح العبد قوة توطنه عليها، وتكيفه معها، فيألفها ويتعايش معها، ناهيكم عن احتساب المؤمن فيها، وما ينتظره من الأجر عليها؛ إذا لم يجزع فيها، ويزيد أجره بالصبر والحمد والرضا.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: «انكسار العبد لله عز وجل وذله له، وذلك أَحَبّ إِلَى الله تعالى من كثير من طاعات الطائعين». «وإليه الإِشارة بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، اعترفوا بأنهم مِلكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره. وقضاؤه وتقديره لا مَفَرَّ لهم منه، ولا محيد لهم عنه». وكثيرا ما تنصرف قلوب العباد عن ربهم عز وجل فيعيد الله تعالى قلوبهم إليه بالبلاء؛ فيكون البلاء سبب توبتهم وأوبتهم، وزوال سكرتهم وغفلتهم؛ لعلمهم أن رفع هذا البلاء لا يقدر عليه سوى الله تعالى ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [يونس: 107].

 ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: أنه يكشف للعباد ضعفهم أمام قدرة الله تعالى؛ ففي حال العافية والقوة والسعة يبطر العبد، ويظن أن دنياه ما اكتملت له إلا بجهده وكده وكدحه، وتغره معرفته وخبرته وتدبيره وعقله، فيركن إلى الدنيا كأنه يخلد فيها أبدا، فإذا ابتلي علم ضعفه وعجزه وقلة حيلته، وأدرك حقيقة الدنيا وحقارتها وضعتها، ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]. وكذلك دنيا العبد قد تقبل عليه، وتزهر له، وتعظم في عينه؛ فيصغرها الله تعالى ببلاء يصيبه؛ رحمة منه سبحانه بعبده.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: أنه يوجب للعبد الرجوع بقلبه إِلَى الله عز وجل، والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة، وذلك من أعظم فوائد البلاء، وقد ذم الله تعالى من لا يستكين له عند الشدائد، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42]». فيرجونه كشف ضرهم، ويدعونه متذللين خاضعين؛ فيكون البلاء سبب أوبتهم، ومذكرا لهم بربهم سبحانه، وهذا من أعظم النفع للعبد في الدنيا والآخرة؛ إذ رجوعه إلى ربه يملأ في الدنيا قلبه بالسكينة والأمن والطمأنينة، ويقوده إلى الأعمال الصالحة التي يدخل بها الجنة.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: أنه يفتح للمبتلى أبوابا من الطاعات كان قلبه موصدا عنها بسبب علوه واستكباره وإعراضه، فإذا ذاق حرّ البلاء، سعى في تبريد حرارته بالطاعات، والخلوة بالله تعالى، والتضرع بالدعاء، والمناجاة في السجود؛ حيث يكون قربه من الله تعالى. ولولا رحمة الله تعالى بالعبد، وإصابته بهذا البلاء ما فتح له في تلك الطاعات، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: «مَرَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مَغْمُومًا؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: ذَاكَ لِدَيْنٍ قَدْ فَدَحَهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: أفُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ:‌‌ لَقَدْ بُورِكَ لِعَبْدٍ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرَ فِيهَا دُعَاءَ رَبِّهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ».

وكم من بلاء أعاد المبتلى للمسجد والصلاة وكان من قبل كسلان متثاقلا عن المسجد! وكم من بلاء أصاب عبدا فنشر مصحفه وكان مغبرا من الهجران! وكم من بلاء حرّك لسانا بالذكر آناء الليل وآناء النهار وكان صاحبه قبل البلاء من الغافلين! وكم من بلاء أطلق يد صاحبه بالإنفاق في وجوه الخير وكان قبل البلاء من الممسكين! وأبواب الطاعات التي يفتحها البلاء للعبد كثيرة، أكثرها في الناس باب الدعاء، وهو أعظمها وأجلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]» رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: أنه يجعل العبد يحاسب نفسه على مظالم الناس؛ فطبع الإنسان أنه ظلوم جهول، بسبب ما فيه من الأثرة وحب الذات، والاستبداد بالرأي، والسعي في السيطرة على الغير، ولا يمنع الإنسان من الجهل على الآخرين وظلمهم إلا عجزه عن ذلك، أو شريعة يأخذ بها فتهذبه وتربيه على العدل؛ خوفا من عاقبة الظلم الوخيمة. قال الله تعالى ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، وفي الغالب أن الظلوم الجهول يعتقد أن الحق معه دائما، وأن من ظلمهم مستحقون لظلمه وبطشه وشدته. فإذا أصابه البلاء كسر سورة نفسه، وأرغم عزته وأنفته، فحاسب نفسه في حال ضعفه؛ ليجد أنه ظلم غيره من زوجة وولد وقرابة وجيران وزملاء عمل وغيرهم، فأمكنه التحلل منهم وإرضاؤهم قبل فوات ذلك بموته، فكان البلاء -بقدر الله تعالى- منجيا له من إفلاسه من الحسنات، واكتساب سيئات من ظلمهم، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].

أيها المسلمون: ألطاف الرب سبحانه على عباده كثيرة، في سرائهم وضرائهم، وفي رخائهم وشدتهم، وفي عافيتهم وبلائهم، ولا يفطن لهذه الألطاف الربانية إلا من نور الله تعالى بصائرهم من عباده المؤمنين.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: «أن البلاء يوصل إِلَى قلب المؤمن المبتلى لذة الصبر عليه، والرضا به، وذلك مقام عظيم جدًّا»؛ فإن الصبر جزاؤه عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى؛ كما في قوله سبحانه ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96]، وقال تعالى ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: ‌«ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفا». والرضا عن الله تعالى حال البلاء من أقوى الدلائل على الرضا بالله تعالى ربًا؛ لأن العبد قد يرضى عن ربه سبحانه في حال العافية والرخاء والسراء، لكن قد يسخط في حال البلاء والشدة والضراء، فيسخط الله تعالى عليه، ومن رضي عن الله تعالى في حال بلائه فقد اكتمل رضاه بالله تعالى ربا، فذاق طعم الإيمان، وتلذذ بحلاوته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال حِينَ يُمْسي: رَضِيتُ باللهِ رَبًّا، وبالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحمدٍ نَبِيًّا، كانَ حَقًّا على اللهِ أنْ يُرْضِيَهُ» رواه أهل السنن إلا النسائي وقال الترمذي: حسن غريب.

ومن ألطاف الله تعالى في البلاء: «أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إِلَى مخلوق، ويوجب له الإقبال عَلَى الخالق وحده». فكم من شخص كان معتزا بجمعه وعشيرته، أو محتميا بذي نفوذ وقوة، أصابه البلاء فما نفعه جمعه ولا عشيرته، ولا حماه ذوو النفوذ والقوة، فضاقت حيلته، وانقطعت عنه أسباب الخلق؛ ليتعلق بالخالق وحده، ويستقر في قلبه قول الله تعالى ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى