• - الموافق2025/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ماذا يعني فوز ممداني بمنصب عمدة نيويورك

أن يصل مسلم إلى قمة بلدية نيويورك هو في ذاته حدث رمزي ضخم. لكنه يصبح أعمق حين نعلم أنه فعل ذلك وهو يرفض التطبيع، ويتحدث عن العدالة لا عن “التوازن”، ويهدد نتنياهو بأنه سيعتقله إذا وطأت قدامه نيويورك.


في تلك الليلة التي غصّت بومض الشاشات، لم يكن اسم زهران ممداني يلمع في سماء نيويورك فقط، بل في ذاكرة السياسة الأميركية بأكملها. شاب مسلم، من أصول أفريقية هندية، يعتلي منصة المدينة التي تُعدّ قلب أمريكا الإعلامي والمالي. بالنسبة لكثيرين، كان ذلك الحدث أكثر من انتخابات، كان إعلانًا عن تغيّرٍ عميق في نفوس أجيال أمريكية جديدة بدأت ترى الأمور بعيون جديدة غير عيون النخبة المتحكمة.

ممداني لم يأتِ من دهاليز السلطة، بل من الأزقة التي تعرف رائحة المترو وصوت العاملين العائدين في آخر الليل. لم يكن مرشّح البنوك ولا نجم الحملات الممولة، بل صوت الناس الذين يشعرون أن نيويورك لم تعد مدينتهم.

أن يفوز شخص بهذه المواصفات في مدينةٍ تشبه مختبر العالم، فذلك يعني أن المزاج الأمريكي بدأ يملّ من السياسي المصقول ويبحث عن الصادق الخشن القادر أن يقول ما لا يقال.

سقوط النخبة التقليدية

ما جعل فوزه مثيرًا ليس هويته وحدها، بل الجرأة التي واجه بها منظومة ترامب واللوبيات الداعمة لإسرائيل.

في بلدٍ تُرسم فيه حدود الكلام حين تقترب من فلسطين، قالها ممداني بوضوح: إسرائيل دولة فصل عنصري. كان يفترض حسب القواعد القديمة أن يُدفن سياسياً بعد تلك الجملة. لكنّ ما حدث قلب المعادلة رأساً على عقب.

لقد مضى زمن من يعادي إسرائيل يخسر السياسة. صار هناك جيل لا يخاف من قول الحقيقة، ولا يرى فلسطين تهمة، بل اختباراً للأخلاق.

سقوط أندرو كومو أمامه لم يكن مجرد تناوب على السلطة، بل سقوط نموذجٍ من السياسة التي تدور حول المال والنفوذ. ممداني ربح بلغة بسيطة وموقف ثابت، بلا رعاية شركات ولا وعود مبهمة.

كان فوزه امتداداً لصوت الشباب الجديد، الأكثر صدقاً وأقل تنظيراً. لم يُخفِ انحيازه للطبقة العاملة، ولم يُحاول تجميل كلماته لترضى عنه الصحف الكبرى.

رمزية التحول الشعبي تجاه فلسطين

أن يصل مسلم إلى قمة بلدية نيويورك هو في ذاته حدث رمزي ضخم. لكنه يصبح أعمق حين نعلم أنه فعل ذلك وهو يرفض التطبيع، ويتحدث عن العدالة لا عن التوازن، بل هدد نتنياهو بأنه سيعتقله إذا وطأت قدامه نيويورك تنفيذا للقانون الدولي فهو رجل مجرم ومطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية.

منذ سنوات، كان المسلم في السياسة الأميركية يُطلب منه أن يثبت ولاءه قبل أن يتكلم. اليوم، زهران ممداني يثبت أن الولاء الحقيقي هو للحق، وأن احترام الدستور لا يعني الصمت عن الظلم.

ربما لم يكن فوزه ليتحقق لولا تغيّرٍ هادئ في الضمير الأمركي تجاه فلسطين. جيل جديد من الأميركيين بدأ يرى الاحتلال كما هو: سلطة مسلحة تقهر شعبًا أعزل. ربما يمكن احتساب ذلك كإحدى ثمرات طوفان الأقصى التي أينعت، وأظن أن الكثير من التغيرات ستتداعى في الأيام القادمة.

المظاهرات الطلابية في الجامعات، والمطالبات بوقف تمويل الحرب، وصوت الإعلاميين الشباب الذين يجرؤون على قول غزة بلا تلعثم كلها كانت تمهيداً لهذا التحوّل.

صار التعاطف مع الفلسطينيين علامة وعي، لا انحرافاً سياسياً. صار كثيرون يرون في دعم فلسطين دفاعاً عن إنسانيتهم قبل أن يكون موقفاً خارجياً. وفوز ممداني هو الثمرة الأولى لهذا التحوّل الصامت.

 امتحان السلطة وحدود الحلم

الآن يبدأ الامتحان الحقيقي. نيويورك ليست مدينة يسهل حكمها، خصوصاً حين تتحدى مصالحها الكبرى.

سيجد ممداني أمامه لوبيات قوية، ومؤسسات مالية لا تريد أي حديث عن ضرائب الأثرياء أو النقل المجاني أو دعم الفقراء. لكنّ ما فعله حتى الآن يكفي: لقد كسر السقف الزجاجي، وأثبت أن التغيير ممكن إذا تكلّم الناس بصوتٍ واحد.

فوز زهران ممداني ليس حدثاً انتخابياً عابراً، بل علامة على أن أميركا تتغيّر من الداخل. ربما ببطء، وربما بتناقض، لكنها تتغيّر فعلاً.

ومن قلب نيويورك، حيث يُكتب التاريخ بيد رأس المال والإعلام، خرج شاب مسلم ليقول: إن الحقّ لا يُقصى إلى الأبد، وإنّ فلسطين يمكن أن تُذكر في الخطاب السياسي من دون أن تنهي المسيرة.  هكذا طوفان الأقصى أتي ليجعل من هذا الشاب الصغير فصلا جديدًا في السياسة الأمريكية: فصلًا بدأ الهامش وكسر تابوهات اللوبيات اليهودية وانتهى في المركز.

أعلى