"طوفان الأقصى" مثّل نقطة تحول مفصلية، أعادت المقاومة الفلسطينية إلى الواجهة وفرضت حضورا عالميا للقضية، رغم الثمن الإنساني الباهظ، مؤكدةً صمود الشعب ورفضه للاستئصال.
منذ السابع من أكتوبر 2023م، حين نفَّذت كتائب القسام وفصائل المقاومة عملية
«طوفان
الأقصى»،
لم تهدأ النقاشات السياسية والفكرية؛ فبين مَن اعتبرها مغامرةً جَلَبَت الدمار
لغزة، ومن رآها صرخة كرامة أعادت تعريف الصراع وأربكت
«إسرائيل»؛
تَبْرز جدلية أساسية: هل كان القرار خطأً إستراتيجيًّا أم ضرورة وجودية لا مفر
منها؟
السياق الذي سبق الطوفان
لفَهْم دلالة السابع من أكتوبر، لا بد من إدراك المشهد العام الذي سبق العملية. فقد
كانت غزة تعيش حصارًا خانقًا امتدَّ لأكثر من 17 عامًا، بينما شهدت الضفة الغربية
توسعًا استيطانيًّا متسارعًا، يقضم ما تبقَّى من أراضيها.
وعلى الصعيد السياسي، كانت مسارات
«التطبيع
العربي»
تتسارع بشكلٍ يُهدِّد بتحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد
«هامش
تاريخي».
وفي الداخل الإسرائيلي، كان المجتمع يعيش انقسامات غير مسبوقة حول هوية الدولة
وصلاحيات القضاء، ما أضعَف الجبهة الداخلية، وأغرى المقاومة بالتحرُّك.
طوفان الأقصى في الميزان: إنجازات تَفرض حضورها
أول ما أفرزته العملية هو انهيار صورة الجيش الذي لا يُقْهَر. لعقودٍ طويلةٍ بنت
«إسرائيل»
سُمْعَة عسكرية ترتكز على تفوُّق تقني واستخباراتي، وقدّمت نفسها للعالم باعتبارها
قوة لا يمكن المساس بها. غير أن المشاهد التي نقلتها الكاميرات في السابع من أكتوبر
-لجنود يفرّون وقواعد عسكرية تُقتحم ومستوطنات تُخترق-؛ زلزلت هذه الصورة في العمق،
وأصابت المجتمع
«الإسرائيلي»
بجرح نفسي لم يكن في حسبانه. لقد بدا الاحتلال عاريًا أمام أعين مواطنيه والعالم،
وهو ما جعَل الثقة بمؤسساته الأمنية تهتزّ من أساسها.
في الوقت ذاته، أعاد الطوفان الاعتبار إلى المقاومة الفلسطينية بعد سنوات من
محاولات تهميشها. في زمنٍ كانت فيه بعض الأنظمة العربية تسعى إلى دَفْع ملف التطبيع
خطوات متقدمة على حساب القضية الفلسطينية.
ومن بين إنجازات العملية أيضًا: أنها نجحت في كسر جدار الصمت الدولي. صحيح أن
العواصم الغربية الكبرى سارعت إلى الانحياز التام لـ«إسرائيل»،
لكنَّ المشهد الشعبي والحقوقي في مختلف أنحاء العالم أخذ منحًى آخر. بدأت أصوات
أكاديمية وبرلمانية، وحتى بعض الدوائر الإعلامية، في إعادة النظر في السردية
«الإسرائيلية»
التي طالما احتكرت رواية الصراع. وخرجت تظاهرات ضخمة في العواصم العالمية تهتف باسم
غزة، وتكشف عن انحياز أخلاقي جديد أخذ يَفْرض نفسه على الرأي العام الدولي، حتى وإن
لم يُتَرْجَم بعدُ إلى مواقف رسمية حاسمة.
كما فجّرت العملية مشاعر تضامُن غير مسبوقة على مستوى الشعوب العربية والإسلامية،
وحتى على مستوى الحركات التضامنية العالمية. لقد بدا وكأن السابع من أكتوبر قد
وحَّد الساحات الفلسطينية والعربية، ولو رمزيًّا، في مواجهة الغطرسة
«الإسرائيلية».
بهذا المعنى، فإن طوفان الأقصى لم يكن مجرد عملية عسكرية محدودة الأثر، بل كان
حدثًا سياسيًّا ومجتمعيًّا وأخلاقيًّا قلَب كثيرًا من المعادلات. فحتى مع الكلفة
الإنسانية الباهظة التي دفَعها الفلسطينيون لاحقًا تحت القصف والدمار، بقيت
إيجابيات العملية راسخة في الوعي الجمعي، وأثبتت أن المقاومة قادرة على فَرْض
حضورها، وعلى إعادة تعريف الصراع في لحظةٍ بَدَت فيها القضية على وشك أن تُخْتَزَل
في ملف إنساني أو هامش تفاوضي.
سلبيات طوفان الأقصى: الكلفة التي أثقلت الكاهل
إذا كان السابع من أكتوبر قد أعاد الاعتبار للمقاومة وخلخل صورة الاحتلال، فإن
الوجه الآخر كان كارثيًّا إنسانيًّا وسياسيًّا. فغزة تحوَّلت سريعًا إلى ساحة دمار
شامل تحت القصف، وسقط عشرات الآلاف بين قتيل ومفقود، ما أثار تساؤلات حول قدرة
المكاسب المعنوية على موازنة النزيف البشري الفادح.
إقليميًّا ودوليًّا، استثمرت
«إسرائيل»
العملية لتبرير حربها المفتوحة، مقدمةً نفسها كضحية في مواجهة
«هجوم
إرهابي»،
وحصلت على دعم سياسي وعسكري غير مسبوق منَحَها غطاء لجرائمها. وهكذا تحوَّل إنجاز
المقاومة إلى فرصة للاحتلال لتعزيز صورته، وإغلاق ما تبقَّى من أُفق التسوية،
متمسكًا بحجة
«غياب
الشريك الفلسطيني».
داخليًّا، كانت النتائج مُدمّرة اقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ فغزة التي تعاني بِنْيَة
هشَّة، وجدت مصانعها ومدارسها ومستشفياتها وشبكاتها الأساسية ركامًا، ما يُنْذِر
بعقود من المعاناة، ويُخَلِّف أزمات اجتماعية عميقة من فقدان وتشريد وفقر. والأسوأ
أن الحرب استهدفت المجتمع الفلسطيني بأَسْره: نساءً وأطفالًا وشيوخًا ولاجئين،
ليصبح النسيج الاجتماعي كله هدفًا مباشرًا.
إن سلبيات طوفان الأقصى، رغم أنها متوقَّعة من وحشية الاحتلال، تطرح أسئلة صعبة حول
جدوى الخيارات الإستراتيجية، وحدود قدرتها على حماية المدنيين؛ بين واجب الدفاع عن
الوجود وكلفة الدم الثقيلة.
هل أخطأت حماس؟
يتساءل كثيرون: هل أخطأت حماس في قرارها؟
الحقيقة أن المقاومة لم تكن غافلة عن وحشية الرد
«الإسرائيلي»،
بل كانت تُدرك أن الاحتلال يتبنَّى سياسة إبادة، وأن الحرب قادمة لا محالة، سواء
بادرت المقاومة أم لا. لذلك لم يكن الطوفان نزوة عاطفية بل امتدادًا لبناء تراكمي
واستعداد للمواجهة.
قد يُؤخَذ على حماس توقيت العملية أو حساب ردود الفعل الدولية، لكنْ من منظور
المقاومة فإن الانتظار يعني موتًا بطيئًا تحت الحصار، بينما كانت العملية صرخة
تُعيد للقضية حضورها. فلا يُلام المُقاوِم على قلة سلاحه، بل مَن يتنصل من
المسؤولية، ولا معنى لمطالبة الفلسطينيين بالتخلّي عن سلاحهم أمام كيان لا يعترف
حتى بحقهم في الحياة. من هنا، كان طوفان الأقصى فِعْل وجود قبل أن يكون مجرد رد
فعل.
الصوت الذي يرفض الاستئصال
في الميزان النهائي، لا يمكن إنكار أن طوفان الأقصى كان نقطة تحوُّل في مسار الصراع
الفلسطيني-
«الإسرائيلي».
إيجابياته الإستراتيجية والسياسية والمعنوية واضحة، كما أن سلبياته الميدانية
والإنسانية مُروّعة. لكنّه في جوهره كان صرخة وجودية من شعب يقول:
«لن
نُمْحَى».
قد يختلف المراقبون حول كُلْفة القرار، لكنَّ المؤكد أن 7 أكتوبر سيظل علامة فارقة،
ليس لأنه
«أشعل
حربًا»،
بل لأنه ذكَّر العالم أن فلسطين لا تزال تنبض، وأن المقاومة -بكل ما لها وما عليها-
تبقى الصوت الذي يرفض الاستئصال.