• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
موت الأخلاق

المقال يوضح أن التوحش الغربي والصهيوني في الحروب، وخاصة في غزة، ليس سلوكًا عابرًا بل امتداد لفلسفات مادية وعدمية غربية (مكيافيللي، هوبز، دارون، نيتشه، ماركس...) جعلت الأخلاق نسبية والمصلحة والقوة هي المعيار، فماتت القيم وحلّت محلها سياسات ال


«قوانين السلوك الإنساني لا تُؤخَذ من عالم الأخلاق، وكلّ وسيلة مهما كانت غير أخلاقية فهي مُبرَّرة من أجل تسويق المصالح السياسية، فمعيار الحكم على الوسائل ليس أخلاقيتها؛ بل مقدار ما تُحقِّق من احتمالات النجاح».

كانت هذه خلاصة النظرية السياسية للمفكر الإيطالي نيكولا مكيافيللي (1527م) في كتابه «الأمير»، الذي يرى فيه أن تتكيف أخلاق الناس مع مصالح الدولة، لا أن تخضع الدولة للقِيَم الأخلاقية.

وسار الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1679م) -الذي يُعدّ مُؤسِّس الفلسفة الأخلاقية والسياسية الإنجليزية-، في اتجاهٍ قريب من نظرية مكيافيللي، فالأخلاق عنده عديمة الجدوى، والمادة هي الأساس، والمجتمع ساحة صراع، والناس في رؤيته أنانيون وأشدّ ما يُحرِّكهم الرغبة في القوة والخوف من الآخرين، والإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان، ولن تتغيَّر طبيعته بسبب تربيته، فهو يطلب لذّته ولو على حساب الآخرين، بل لا يجد لذّته إلا في أن يَشْقَى غيره ويَسْعَد هو.

بعده بعقودٍ نشَر الباحث البريطاني تشارلز دارون (1882م) نظريته الشهيرة في «أصل الأنواع»، تحدَّث فيها عن ظاهرة (الانتخاب الطبيعي)، ويرى أنَّ صراع الأجناس ينجم عنه استبعاد الكائنات الأقل صلاحًا، فالبقاء للجنس الأقوى. ثم تطوَّرت هذه النظرية في الواقع الاجتماعي والفكري لتنشأ الداروينية الاجتماعية، فحياة الإنسان في المجتمع (الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...) هي في الحقيقة صراع من أجل البقاء، يَحْكُمها مبدأ البقاء للأصلح.

 ثم كتب المفكر الألماني فريدريك نيتشه (1900م) كتابه «هكذا تحدَّث زرادشت»، تحدَّث فيه عن موت الإله! وأسقَط جميع المقدّسات والمبادئ والقِيَم، وأصبح الإنسان الأعلى أو الخارق (السوبرمان) هو الإله البديل، الذي يصنع قِيَمه المعرفية والأخلاقية بنفسه.

 رسخَّت نظرية «نيتشه» الفكر العلماني في أوروبا، وأحدثت تحوُّلًا كبيرًا في القِيَم والمبادئ المُؤسِّسة للفكر الغربي، وصنعت عالمًا خاليًا من المقدسات والثوابت.

 تحرَّر الإنسان الغربي بهذه النظرية من جميع القِيَم الأخلاقية، فالأخلاق التقليدية مبنية على فكرة الخالق الإلهي، وبموت الإله تحوَّلت القِيَم الإنسانية إلى أوهام وأساطير، واتجه الفكر إلى العدم والعبثية، فالأخلاق ليست قِيَمًا مطلقة لا تقبل التغيير كما كان ذلك سائدًا؛ بل هي قِيَم نسبية مُتحرّكة مُتحرّرة من كل سلطان، فلا ثبات للقِيَم والمبادئ.

 ونسبية القِيَم أدَّت إلى غياب المعايير الحاكمة، فصارت الأخلاق الغربية صورة للرغبات وترجمة للمصالح!

 انتزع نيتشه معاني الإنسانية من الإنسان، وحوَّله إلى مادة، وأصبحت إرادة القوة هي القيمة العليا، فالقوي هو الذي يصنع الواقع الذي يخدم مصالحه، ويفرض ما يريد، والضعيف عليه أن يستسلم للأمر الواقع، ويتكيَّف معه من أجل البقاء، وأهل السيادة في فلسفة نيتشه عليهم أن ينقذوا مَن لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال!

وإذا كانت الأخلاق اختراع الضعفاء في الفكر النيتشوي، فإن كارل ماركس (1883م) يرى أن الدين والأخلاق كلها خُدَع برجوازية.

وترسَّخت هذه الفكرة المادية من خلال المدارس الفلسفية المتتابعة في الغرب؛ فالمدرسة النفعية حوَّلت الأخلاق إلى قِيَم تجارية تُقاس بمبدأ المنفعة كما هي أطروحات جيرمي بنثام (1831م)، ثم تطورت الرؤية النفعية عند وليم جيمس (1910م) وجون ديوي (1952م)، فالقِيَم نِسْبية، والمنفعة هي القيمة الكبرى، وقيمة العمل تُقاس بعد ظهور نتيجته، وكذلك القِيَم تتطور من خلال التجربة، والعقل والدين والأعراف ليست هي المعيار، فالقوة هي الأصل، والمنفعة مقياس الحق.

بدراسة هذه السياقات الفكرية، وباستصحاب جذورها اليونانية والرومانية، ومحرّكاتها التوراتية، نستطيع أن نُفسِّر التوحُّش التاريخي في حروب أوروبا الداخلية، وحروبها الصليبية والاستعمارية، وحروب الإبادات الجماعية في الأمريكيتين وأستراليا، وبقُنْبلتي هيروشيما وناجازاكي، فعقلية الصراع والوحشية لم تأتِ من فراغ، وبجُمْلَة مُوجَزة من الرئيس الأمريكي روزفلت (1945م) نستطيع أن نفهم طبيعة تلك الحروب القذرة، فهو يقول: «إذا لم نحتفظ بصفات البربرية، فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى». ولهذا ليس غريبًا أن تكون ردة فعل وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت سنة (1996م) على وفاة نصف مليون طفل أثناء الحصار الأمريكي على العراق، قولها: «نعتقد أن الهدف يستحق الثمن».

 ما تقدَّم كله ليس تاريخًا مضى وانتهى، بل هو توضيح للبِنْيَة الفلسفية التي أفرزت تلك الحروب، وهو تفسير ضروري لمعرفة جذور حروب الإبادة المتتابعة التي يمارسها الكيان الصهيوني من عام (1948م)، وإلى يومنا هذا؛ حيث التوحُّش الهائل الذي يحدث الآن في غزة، وهو تفسير لسلوك الحكومات الغربية الداعم لهذه الجرائم عسكريًّا وسياسيًّا وقانونيًّا؛ فعقلية الصراع والقوة أفكار راسخة في الوجدان الغربي، يستبطنها السياسي في قراءته للأحداث، فيرى الأمور ليس كما هي في الواقع، وإنما كما يجب أن تكون في خلفيته الفكرية وتكوينه الثقافي، ثم يُشكِّل الوعي الجمعي للمجتمع على ذلك الأساس، فبموت الإله النيتشوي، ماتت القِيَم والأخلاق... ومات الإنسان الغربي، وحلَّ محله التوحُّش بكل معانيه! وزمن الفضيلة قد استُبْدِلَ بزمن المصلحة؛ كما يرى المؤرخ السياسي الفرنسي توكفيل (1859م).

 القتل والدمار والتجويع والإبادة والتطهير العرقي والقوة القذرة هي قوانين الأقوياء، ولا يُحْكَم عليها بمعايير الأخلاق، فاستباحة غزة وسَحْق الأطفال والنساء يجري على الهواء مباشرة أمام العالم، دون شعور بالألم أو الإحساس بالخزي، وكما قالت رئيسة الوزراء الصهيونية جولدا مائير: «رصاصة واحدة أكثر فاعلية من كل قرارات مجلس الأمن». والقوي هو الذي يصنع القِيَم، وهو الذي يصوغ القوانين ويُفسِّرها، وهو الذي يفرض سياساته النفعية، ويبحث عن مصالحه، فلا تُوجَد قِيَم ثابتة ولا مقدّسات، ولا حلال وحرام، في عالم الغاب، وحتى معاهدات السلام تظل سارية المفعول ما دامت تُحقِّق المصلحة كما يقول سبينوزا (1677م)، وليذهب أطفال غزة إلى الجحيم؛ فالبقاء للأقوى!

 ينتقد أحد السياسيين الصهاينة القنوات الفضائية التي تبثّ مشاهد قتل الأطفال، لكن الذي قتل أكثر من عشرين ألف طفل حتى الآن مسكوت عنه، الذي يحرق النساء والمدنيين، ويُدمّر المستشفيات والمدارس والمنازل، ويفرض الحصار والتجويع الممنهج، مسكوت عنه وخارج نطاق المساءلة[1]!

إنه (خسوف العقل) كما يُعبِّر عنه الفيلسوف الألماني هوركهايمر (1973م)؛ حيث ينهار العقل وينقاد الإنسان وراء أكثر غرائزه ظُلمة!

 يزعم بعضهم أن أبرز ما يُميِّز النظام العالمي الجديد: حرياته ومواثيقه الإنسانية؛ حقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان... في سلسلة طويلة من المواثيق والحريات، لكن في غزة تبخَّرت كل تلك المواثيق، وأصبحت أشبه بالسراب، ولم يبقَ منها إلا حقّ واحد، وهو حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس!

 ويكشف إسحاق شامير (2002م) رئيس الوزراء السابع للكيان الصهيوني، بُعْدًا آخر في الروح العدوانية للصهاينة، فيقول مخاطبًا شعبه بقوله: «فلْنَلْتَفِت إلى معتقداتنا نحن؛ حيث لا الأخلاق ولا التقاليد اليهودية تنبذ الإرهاب بوصفه وسيلة قتالية في مجرى الصراع، وفي التوراة: (امحقوهم عن آخرهم، أبيدوا حرثهم ونساءهم)؛ إن إرهابنا يلعب دورًا كبيرًا في معركتنا هذه»!

 وتبرز هذه الروح التحريضية للتوحُّش في الخطاب الديني اليهودي بشكلٍ جليّ فاضح، ففي أحد البيانات تدعو حركة تلاميذ الحاخام إسحاق جيزنبرج الجنود إلى: عدم الاكتراث بحياة المدنيين في غزة، فهم مجرمون، ونحن ندعوكم إلى تجاهل كل القِيَم والأوامر التي من شأنها أن تُعرقل سَيْر القتال كما يجب أن يكون... دمِّروا العدو!

 ما يحدث في فلسطين ليس مجرد تصرُّفات عابرة ومعزولة عن سياقاتها الفكرية، بل هي تجليات للأزمة البنيوية في العقل السياسي الغربي، والفوقية الاستعمارية في التعامل مع العالم، ومشاهد الإبادة الجماعية تعبير فاضح لموت الأخلاق في السياسة الغربية، فجوهر الفكر الغربي يُصوِّره الروائي الروسي ديستويفسكي (1881م) في روايته الشهيرة (الإخوة كارامازوف): «إذا لم يكن هناك إله، فليس ثمة أخلاق»!

وقريب منه ما ذكره المفكّر الوجودي الفرنسي جان بول سارتر (1980م) في إحدى رواياته: «الله إذا لم يكن موجودًا فكل شيء مباح»!

 

 


 


[1]  تصف الروائية البريطانية ليندا غرانت قتل الأطفال في حرب سابقة بقولها: «الصبية الفلسطينيين في نظر الإسرائليين ليسوا مجرد صبية، وإنما هم وجود مكاني غير مرغوب فيه»!

 

 

أعلى