فالدعاء من أجلِّ العبادات وأحبّها إلى الله تعالى، وهو سمة العبودية، ومفتاح قبوله: استشعار الافتقار لله، والانكسار بين يدي الله والخضوع له
افتقار العبد إلى الله تعالى عبودية عظيمة، تستلزم إنزال الحاجات به، والعكوف على بابه، والشعور بأنَّه الواحد في مُلكه وحُكمه، واليقين بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا رادّ لأمره، ولا مُعطِّل لحُكمه، ولا مُعقّب لقضائه، لا يُقْضَى أمرٌ إلا بإذنه، ولا يُجْلَب خيرٌ إلا بعطائه، ولا يُصْرَف شَرّ إلا بلُطْفه.
هذا الافتقار هو أعظم الغِنَى؛ إذ يَسْكُن العبد تحت تصاريف القَدَر مُتلمِّحًا حكمة الله في المنع والعطاء، ويدفعه هذا الافتقار إلى أن يتسلَّح بالدعاء، وهو عبادة جليلة شرعها الله لعباده، ويسَّرها لهم، وجعلها وسيلة قُرْب ومناجاة، وسببًا لاستجلاب رحمته، ونزَّهَها عن الوسطاء، وفيها يشعر المسلم بقُرْبه من ربه؛ وقد بشَّر الله عباده السائلين والمناجين بقُرْبه منهم وسماعه لدعائهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]؛ وأكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على عِظَم مكانة الدعاء، فقال: «إنّ الدعاء هو العبادة»[1].
قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله-: «المَظهر الأعلى للتوحيد من العبادات هو الدعاءُ»[2]؛ وهذه الجملة المختصرة تُوضِّح فَهْم حقيقة الدعاء، وأن الدعاء والافتقار إلى الله تعالى وحده، وإنزال الحاجات به، والرغبة والرهبة إليه وحده، هي لُبّ العبودية، فأقرب منازل العبودية هي توجُّه القلب إلى الله تعالى، والإلحاج عليه باللسان، ورفع اليدين متوسلاً إلى ربه، هذه الحالة الإيمانية التي يستشعر العبد فيها أنه لا يكون شيء في مُلكه دون مشيئته -جلّ وعلا-؛ فينطرح العبد بين يدي ربه، مناجيًا له وحده، مستيقنًا بقدرته على إجابة دعائه، ومتوجهًا بكُلّيته إلى ربّه، مُعْرِضًا عن كلّ ما سواه، هذه الحالة أقرب ما يكون العبد فيه من تحقيق توحيد الله -تبارك وتعالى-.
في المقابل، ذمَّ الله تعالى مَن يستكبرون عن دعائه واللجوء إليه، والانطراح بين يديه، وإنزال حاجاتهم به وحده؛ فقال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
وقد تواترت النصوص الشرعية الدالة على أن الله تعالى يُحِبّ أن يُسْأل وحده لا شريك له، وأن يَرْغَب العبادُ إليه في كلِّ شيءٍ. وقد ذمَّ الله -سبحانه- مَن لم يسأله، ويسأل غيره؛ ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف: ٥].
ولهذا الدعاء آداب وشروط، نستعرض أهمها فيما يلي:
آداب الدعاء
لمَّا كان للدعاء منزلة عظيمة في دين الله تعالى؛ شُرِعَ له آدابٌ تُعين الداعي على تحقيق مطلوبه، وفيما يلي نذكر أهم آداب الدعاء:
1- التوحيد والإخلاص لله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29].
فمن أهم آداب الدعاء أن يكون الداعي مُوحِّدًا لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ممتلئًا قلبه بالتوحيد والثقة بالله والتوكل عليه، والعلم بأن ما شاء الله كان، وأن خزائن العطاء بيده وحده؛ لأن من شروط إجابة الله للدعاء: استجابة العبد لربه بطاعته وترك معصيته، ثم الإخلاص لله تعالى في الدعاء، ولما كان الدعاء هو العبادة فلا شك أن الإخلاص شرطٌ لقبوله.
2- أن يبدأ الداعي بحَمْد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يسأل اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى؛ قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
وقد سمِع رسولُ الله رجلًا يدعو في صلاتِه، فلم يحمد الله ولم يُصَلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «عَجِل هذا؛ إذا صلَّى أحدُكم -أي: دعَا- فليَبْدَأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليُصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ليَدْعُ بما شاء»[3]. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من آداب الدعاء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كلّ دعاء محجوب حتى تصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم »[4].
3- اليقين بالله تعالى وغلبة الظن بإجابة الدعاء، مع حضور القلب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ»[5]؛ فليس من الأدب بين يدي الله تعالى أن يدعو العبد ربه وهو مُتشكّك في الإجابة أو يسأله وهو شارد الذهن، غير مُستحضِر لجلال الموقف، وعظمة مَن هو واقف بين يديه.
4- الإلحاح والإكثار من المسألة، فيسأل العبد ربه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، والإلحاح في الدعاء، وعدم استعجال الاستجابة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»[6]. وينبغي للعبد أن يُلِحّ في الدعاء؛ قال التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي -رحمه الله-: «ما زال المؤمنون يقولون: ربنا، ربنا في السر والعلانية، حتى استجاب لهم»[7].
5- إخفاء الدُّعَاء والمناجاة؛ قال الله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55]، وقال الحسنُ البصري -رحمه الله-: «لَقَدْ كَانَ المسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاء وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ؛ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ»[8].
6- أن يعزم المسألة ولا يستثني: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفِرْ لي إن شئت، اللهم ارحَمْني إن شئت، ليعزِمِ الدعاء، فإن الله صانع ما شاء، لا مُكرِه له»[9]. فينبغي للسائل أن يسأل ربه بعزم وجِدٍّ وحزم، ولا يقل: إن شئت أعطني، أو: إن شئت فاغفر لي، ونحوه.
7- رفع اليدين: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[10]. ويُستحب أن يكون باطن الكفّ إلى السماء على صفة الطالب المتذلل الفقير المنتظر أن يُعْطَى، فعن مَالِكِ بْنَ يَسَارٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا»[11].
8- تكرار الدعاء ثلاثًا: فقد كان من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا...»[12].
وهناك آداب أخرى غير ذلك مذكورة في مظانّها من كتب الشريعة.
من شروط الدعاء
الدعاء له شروط كثيرة، من أهمها ما يلي:
1-استشعار الفاقة والفقر وشدة الحاجة:
فالدعاء من أجلِّ العبادات وأحبّها إلى الله تعالى، وهو سمة العبودية، ومفتاح قبوله: استشعار الافتقار لله، والانكسار بين يدي الله والخضوع له؛ قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: «الدعاء عبودية لله، وافتقار إليه، وتذلُل بين يديه، فكلَّما كَثَّرهُ العبدُ وطوَّلَهُ وأعاده وأبداه ونَوَّعَ جُمَلَه؛ كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره، وتذلُّله، وحاجته، وكان ذلك أقرب له من ربه، وأعظم لثوابه»[13].
والإعراض عن الدعاء قد يكون دليل حرمان وضعف إيمان واستغناء المرء بنفسه وإعجابه بما عنده، ولذا قال الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]؛ قال السعدي -رحمه الله-: «فأخبر تعالى أنه لا يُبالي ولا يَعْبَأ بغير هؤلاء، وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبّكم»[14].
وتأكيدًا على أهمية الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ»[15].
قال السندي -رحمه الله- «قوله: «مَن لم يسأل الله يغضب عليه»؛ ترك الدعاء وَصْف غير لائق بمنصب العبودية؛ ولذلك عُدّ الدعاء من وظائف العبودية، بل أعلاها، ومَن يعلم أن حقيقة العبادة إظهار التذلل والافتقار والاستكانة والدعاء في ذلك في الغاية القصوى يظهر له سر كون الدعاء هو العبادة[16].
2-استشعار ذلة العبودية وعزة الربوبية:
قال الإمام الرازي -رحمه الله-: «واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، وقال: بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية، ويفيد عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات. وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجًا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزًا عن تحصيله، وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته، وهو قادر على دفع تلك الحاجة، وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يُقْدِم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفًا بالحاجة، وبالعجز، وعرف كون الإله سبحانه موصوفًا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعًا لهذين المقامين لا جَرَم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات»[17].
قال الإمام القسطلاني -رحمه الله-: «لما كان من أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع؛ أمر الله تعالى به فضلًا وكرمًا وتكفَّل لهم بالإجابة»[18].
3-إظهار الافتقار إلى الله والاعتراف بقدرته على قضاء الحوائج:
إن الله يُحِبّ أن يُسأل ويَغْضب على مَن لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب المُلِحّين في الدعاء، بل وينادي في كل ليلة على أصحاب الحاجات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مَضى ثُلُثُ اللَّيلِ الأوَّلُ، هَبَطَ الربُّ -جَلَّ ثناؤُه- إلى سَماءِ الدُّنيا، فلم يَزلْ هنالك حتى يطلُعَ الفَجرُ، يقولُ قائِلٌ: ألَا سائِلٌ يُعطى، ألَا داعٍ يُستجابُ له، ألَا سَقيمٌ يَستَشْفي فيُشْفى، ألَا مُذنِبٌ يَستغفِرُ فيُغفَرُ له؟[19]؛ فأين المضطرون؟ وأين أصحاب الحاجات؟! وأين من وقعوا في الشدائد والكربات من الافتقار التام للواحد القهار ولزوم عبودية الدعاء؟!
والمتأمل في السُّنة النبوية يجد في حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المقترض الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذي خُلّفوا، وحادثة الإفك، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، أن هؤلاء الكرام فُرِّج عنهم بسؤالهم الله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله وأعلنوا الذل والخضوع لله، وهذا الذلّ لا يصلح إلا لله -جل في علاه-. فالعبودية لله عزٌّ ورفعة، ولغيره ذلّ ومهانة. وفي سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
4- أن يُحْسِن الداعي ظنّه بربّه:
فحُسْن الظن بالله سبحانه مُوجِبٌ للعطاء الرباني؛ فالداعي في معية الله؛ قال رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «يقول الله -عز وجل-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي»[20].
5- عدم الدعاء بإثمٍ أو قطيعة رحم:
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «يُستجاب للعبدِ ما لم يَدْعُ بإثمٍ، أو قطيعة رَحِمٍ، ما لم يستعجِلْ»، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أرَ يُستَجاب لي، فعند ذلك يستحسرُ ويدعُ الدعاء»([21]). والإثمُ: الذنبُ، كأن يدعو الله أن يُمكِّنه مما لا يحلّ له؛ كسرقةٍ، وزنًا، ونحوهما. وقطيعة الرحم: الدعاء على أقاربه وأرحامه.
6- عدم الاعتداء في الدعاء:
قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55]، وعن عبد الله بن مغَفَّل أنه سمع ابنَه يقول اللَّهُمَّ إني أسألُك القصرَ الأبيضَ عن يمين الجنة إذا دخلتُها. فقال: يا بُنَي سلِ اللهَ الجنةَ وتعوَّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّهُ سَيَكُونُ في هذهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الطّهورِ والدُّعَاءِ»([22]).
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «الاعتداءُ في الدُّعاء تارةً بأن يسألَ ما لا يجوزُ له سؤاله من الإعانة على المُحَرَّمات، وتارةً بأن يسألَ ما لا يفعلُه الله، مثلَ أن يسألَهُ تخليدَه إلى يوم القيامة، أو يسألَه أن يرفعَ عنه لوازم البشريَّة من الحاجة إلى الطعام والشَّراب، أو يسألَه أن يُطْلِعَهُ على غَيْبه، أو يسألَهُ أن يجعلَهُ من المعصومينَ، أو يسأله أن يَهَبَ له ولدًا من غير زوجةٍ ولا أَمةٍ، ونحو ذلك مما سؤالُه اعتداءٌ، فكلُّ سؤالٍ يُناقضُ حكمةَ الله أو يتضمَّنُ مناقضةَ شرعِهِ وأمرِهِ، أو يتضمَّنُ خلافَ ما أخبرَ به، فهو اعتداءٌ لا يحبُّه الله ولا يحبُّ سائِلَهُ، وفُسِّرَ الاعتداءُ برفع الصوت أيضًا في الدعاء، قال ابن جُرَيج: من الاعتداء رفعُ الصوت والنداء بالدُّعاء والصياح[23].
7- الإلحاحُ والصبر وعدم الاستعجال:
أكثر الناس يدعو أيامًا، ثم يأخذُه المللُ، فينقطِعُ عن الدعاءِ، وهذا حرمان وعدم توفيق؛ لأنَّ مَن ثبَت على الدعاءِ بعزيمة لا تعرف اليأس؛ فإن الله سيُجيب دعاءه، ولو بعد حين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزالُ يُستجابُ للعبدِ، ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ، ما لم يستعجِل». قيل: يا رسول الله، ما الاستعجالُ؟ قال: يقول: «قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلم أرَ يستجيبُ لي، فيستحسِرُ عند ذلك ويدَعُ الدعاءَ»[24]، وما دام العبدُ يُلِحُّ في الدعاءِ، ويطمَعُ في الإجابةِ من غير قطعِ الرجاءِ، فهو قريبٌ من الإجابة، ومَن أدمَن قرعَ البابِ، يُوشك أن يُفتَحَ له.
8- الصدق في الدعاء والإخلاص في الدعاء:
قال الله تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر: 14]. بل إن الكافرَ إذا دعا ربَّه وأخلصَ في دعائِه، وصدقَ في تذلُّلِه لله؛ استجابَ الله -سبحانه- دعاءَه، مع علمِه -جلَّ شأنُه- أنه سيعودُ لكفرِه مرةً أخرى؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ [لقمان: 32]، وقال جل شأنه: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﮕ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 22-23]؛ فعلى الداعي أن يصدق في دعائه.
9- طِيب المطعم والملبس:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»[25].
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «فأكل الحلال وشُربه ولُبْسه والتغذي به سببٌ مُوجِبٌ لإجابة الدعاء»[26].
وبعدُ: فعلى المسلم أن يُكثر من الدعاء بحضور قلب، ويتحرّى الأزمان الشريفة ويغتنم الأحوال الشريفة، ويسأل الله كل حاجة أرادها، فقد كان السلف الصالح يسألون الله كل شيء حتى شِسْع النّعل، ومِلْح الطعام، وكل شيء حتى لو كان هيّنًا.
إن الذين يُقبلون على الدعاء بهمّة عالية، ويتحرون أوقات إجابة الدعاء، ويلحّون على الله تعالى؛ هؤلاء قوم أراد الله بهم خيرًا عظيمًا؛ فما بعد التوفيق لطول الإلحاح في الأوقات التي تُرجَى فيها الإجابة إلا الجَبْر والعطاء العظيم في الوقت الذي يريده الله تبارك وتعالى. فادعُ ربّك، وألِحّ عليه، واسأله بقلب حاضر، وتوكّل عليه وحده، واعلم أنه على كل شيء قدير.
[1] أخرجه أبو داود (١٤٧٩)، والترمذي (٣٢٤٧)، وصححه الألباني.
[2] آثار محمد البشير الإبراهيمي: ١/ ٣٩٥.
[3] أخرجه أبو داود (١٤٨١)، والترمذي (٣٤٧٧)، وصححه الألباني.
[4] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/220)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4399).
[5] أخرجه الترمذي (3479)، وحسنه الألباني.
[6] أخرجه البخاري (6340) ومسلم (2735).
[7] حلية الأولياء: ٢/٣٣٥.
[8] تفسير الطبري جامع البيان: ١٠/٢٤٧.
[9] أخرجه مسلم (٢٦٧٩).
[10] أخرجه أبو داود (1488) وصححه الألباني.
[11] أخرجه أبو داود (1486) وصححه الألباني.
[12] أخرجه مسلم (1794).
[13] جلاء الأفهام: ١/٣٤٣.
[14] تفسير السعدي: ص٥٨٧.
[15] أخرجه الترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، وصححه الألباني.
[16] حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ٢/٤٢٨ بتصرف واختصار.
[17] تفسير الرازي: ١٤/٢٨٠.
[18] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٩/١٧٣.
[19] أخرجه أحمد (967) وقال علاء الدين مغلطاي، في شرح ابن ماجه (٢/٥١١): سنده صحيح.
[20] أخرجه مسلم (٢٦٧٥).
[21] أخرجه مسلم (٢٧٣٥).
[22] أخرجه أبو داود (٩٦)، وابن ماجه (٣٨٦٤)، وصححه الألباني.
[23] بدائع الفوائد: ٣/٨٥٤.
[24] أخرجه مسلم (٢٧٣٥).
[25] أخرجه مسلم (1015).
[26] جامع العلوم والحكم - ت الأرناؤوط ١/٢٧٥.