• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مأزق نتنياهو الإستراتيجي

فالحرب التي يقوم بها نتنياهو الآن في غزة، ما هي إلا تعبير عن أن الرجل في مأزق بالفعل، وأنه في ورطة ضخمة؛ فإما أن يسير وفق أجندة تيار الصهيونية الدينية المتحالفة معه، ليستمر في السلطة دون تحقيقات أو محاكمات جدية، ومِن ثَم ينتقل إلى حرب الإبادة مرة أخرى؛ عل


يُنظَر إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، على أنه من أكثر الساسة في تاريخ دولة الاحتلال مكوثًا في منصبه؛ فقد نجح الرجل في عدة انتخابات، واستلم منصب رئاسة الوزراء خمس مرات، ليبلغ فترة رئاسته للوزارة ما يقرب من 16 عامًا، غير فترات تولّيه مناصب وزارية أخرى.

ولكنّ تقلبات نتنياهو الكثيرة، وسَيْره على الأحبال، وتلوُّنه أمام الأطراف المتعارضة، وتمسُّكه بالكذب كطبع تتَّسم به سياساته؛ كل هذه الأمور، جعلته يعاني حاليًّا من مأزق إستراتيجي كبير تجاه الوضع في غزة.

فالرجل يبدو أنه قد قَبِلَ مُرغمًا وكارهًا بصفقة مع حماس، أجبرته على وقف القتال نتيجة ضغوط من مستشاري الرئيس ترامب، والذي وقتها لم يكن قد استلم السلطة في البيت الأبيض بعد.

ولذلك كما كان متوقعًا، فمع استمرار المرحلة الأولى بدا أن نتنياهو ينتظر الفرصة المناسبة لنقض هذه الصفقة، وبالفعل لم يستكمل تلك المرحلة، ولم ينسحب بجنوده من محور فيلادلفيا مع انتهاء المرحلة؛ كما تنص بنود الصفقة، ومِن ثَمَّ رفَض الانتقال إلى المرحلة الثانية، وأصرَّ على إطلاق الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، وعاد من جديد لفرض حصار صارم على القطاع، ومنع دخول الغذاء والمساعدات، وقام بقطع إمدادات الكهرباء والمياه عن القطاع، وفي النهاية عاد للحرب والتوغل البري والقتل في غزة، ولكن بأسلوب مختلف.

وفي نفس الوقت، تحاول الدوائر الصهيونية داخل دولة الكيان، وفي الولايات المتحدة، ومن والاهم، وما يتبعهم من منصات ووسائل إعلامية، تسويق فكرة أن الخيارات تضيق أمام المقاومة الفلسطينية؛ فهي إما أن تُسلِّم الأسرى لديها، وتُخرج قياداتها وربما مقاتليها إلى خارج القطاع، أو تتلقَّى ضربات الإبادة، وما يصحبها من تجويع وتهجير حتى تَستسلم؛ فالمقاومة وفق هذه المفاهيم هي في مربع الهزيمة.

ولكن مَن يتأمل المشهد بنظرة إستراتيجية عميقة يُدرك أن الأمر مختلف.

فالحرب التي يقوم بها نتنياهو الآن في غزة، ما هي إلا تعبير عن أن الرجل في مأزق بالفعل، وأنه في ورطة ضخمة؛ فإما أن يسير وفق أجندة تيار الصهيونية الدينية المتحالفة معه، ليستمر في السلطة دون تحقيقات أو محاكمات جدية، ومِن ثَم ينتقل إلى حرب الإبادة مرة أخرى؛ على أمل القضاء النهائي على حماس، أو دَفْعها للاستسلام، وهي حرب لا نهاية لها، بلا أُفق إستراتيجي، خاصةً أنه جرَّبها طوال ١٥ شهرًا، وستؤدي إلى قتل بقية الأسرى لدى المقاومة التي ظلت موجودة وعوَّضت خسائرها، فلم يستطع تحقيق أيّ صورة للنصر إلا القتلى من النساء والأطفال وتدمير غزة.

أما المسار الآخر الذي أمامه، والذي ينصح بها العديد من مسؤولي الكيان وقادة الجيش السابقين، فهو غلق ملف الأسرى نهائيًّا بإطلاق سراحهم، وسحب جيش الكيان من كامل القطاع، ويلعب بورقة إعادة الإعمار للضغط على حماس، ولكنّ هذا الأمر سيؤدي إلى انهيار حكومته والدعوة لانتخابات تكون فيها فرص نجاحه محدودة.

فأيُّ الخيارات سوف يختار نتنياهو؟

هناك عدة عوامل تُحدّد المسلك الذي سيسير فيه رئيس وزراء دولة الكيان في الفترة القادمة، وسنختار منها العامليْن الأكثر تأثيرًا: المنطلقات الفكرية للرجل، ثم التأثير الأمريكي.

الفكر السياسي لنتنياهو

تأثرت دولة الكيان منذ الإعلان عن تأسيسها عام 1948م، بثلاثة تيارات فكرية مختلفة كانت هي الغالبة والمتحكمة في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ وهي: الصهيونية السياسية، والصهيونية الدينية، وأخيرًا اليهودية الأرثوذكسية.

فالصهيونية السياسية في مجملها تميل إلى العلمانية، وقد نشأت على يد الصحفي النمساوي تيودور هرتزل، وهي تستند إلى فكرة رئيسية تقول: إن ثمة مشكلة يهودية تتمثل في تشتُّت اليهود وتعرُّضهم للمطاردة والاضطهاد أينما وُجِدُوا، برغم أنهم يُشكِّلون أمةً واحدةً وشعبًا واحدًا، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو عودة هذا الشعب لأرضه المقدسة، وهي أرض الميعاد بغية إقامة دولة خاصة به.

وقد تأثَّر هذا التيار اليهودي بحركة «الهسكالاه»، وهي كلمة عبرية تعني التنوير، مقلدة التحرر الأوروبي من الدين، ومطالبة بفصل الدين عن حياة اليهود في المجتمعات الأوروبية. ولذلك فهذا البعد العلماني كان يَنْظُر باحتقار إلى سيطرة الحاخامات على الديانة اليهودية وتفسيراتهم للتوراة، مما أدَّى إلى مراجعة فكرة الخلاص وانتظار المسيح الخاص بهم كشرط للعودة، وظهور فكرة التخطيط والعمل على العودة لأرض الميعاد بصرف النظر عن نزول المسيح. 

وقد كان دعاة تيار الصهيونية السياسية معظمهم من الملاحدة الذين لا يُعيرون الدِّين أيّ اهتمام؛ فكان اهتمامهم منصبًّا على العودة إلى فلسطين لأسباب كثيرة؛ منها: المال، والثروة، والتحرُّر من الجيتو الأوروبي. يقول هرتزل في هذا السياق: «إن اليهود يؤمنون بفكرة المسيح المُخلِّص في الأوساط الدينية فقط، أما في دوائرنا الأكاديمية المستنيرة فليس لمثل هذه الفكرة من وجود، وسوف يلقى المتسلطون المتدينون إذا حاولوا التدخل في إدارة شؤون الدولة مقاومة عنيدة وشديدة من جانبنا».

ومع ذلك، لم يتجاهل هرتزل أهمية الدين في بناء دولته، وأنَّ الفكرة في الأساس هي فكرة دينية تقوم وتترعرع على أرض الميعاد والمسيح المنتظر، فاهتم بدعم الحاخامات ورجال الدين لدعوته؛ حيث اعتبر الدين أداةً من أدوات توحيد صفوف اليهود خلف فكرته.

ولم يكن هرتزل بمفرده صاحب هذا المنهج العلماني؛ فقد كان هناك «بن جوريون» أول زعيم لليهود على أرض فلسطين الذي قال: «لو تُركت حياة اليهود لحاخامات اليهود لظلوا حتى الآن كلابًا ضالة في كل مكان يضربهم الناس بالأقدام».

وتبلور هذا التيار في اتجاهين؛ الأول: الاتجاه الاشتراكي الذي كانت آخر صُوره حزب العمل، والاتجاه الثاني هو الاتجاه اليميني الذي يُمثّله حاليًّا تكتُّل الليكود.

أما اليهودية الأرثوذكسية، فهي امتداد لليهودية القديمة القائمة على التوراة المُحرَّفة والتراث الشفهي للحاخامات. ومع بداية القرن التاسع عشر، وظهور الأفكار التحررية وسط أجيال اليهود، هبَّ رُوّاد اليهودية الأرثوذكسية مدافعين عن فكر الانعزال والانغلاق، رافضين أيّ تغييرات تُجارِي مقتضيات العصر، وبلغت ذروتها في عام 1912م؛ حيث أسَّس هذا التيار حركة دينية أرثوذكسية مناوئة للأفكار الصهيونية التي بدأت تنتشر في أوساط اليهود تمييزًا لهم عن المتدينين الذين اعتنقوا الفكر الصهيوني، وأُطلق على هؤلاء الأرثوذكس المعارضين للصهيونية: (الحريديم)، ولفظة الحريديم تعني المتقين.

وفي الإجمال، ثمة رأيان اثنان داخل صفوف الحريديم تجاه دولة الكيان الصهيوني؛ الأول: يرى أن قيام الدولة عمل مناقض لفكرة المسيح، ومِن ثَم فهي دولة آثمة، ولا يتعاونون مع هذه الدولة. أما الرأي الآخر فيعترف أنصاره بالدولة حقيقة واقعة؛ وذلك دون مَنْحها الشرعية؛ كما أنهم يتعاونون مع الدولة ومؤسساتها وكأنهم في بلد أجنبي، ويُحدِّدون موقفهم منها بمقدار اقترابها من التوراة وتعاليمها.

ويُشكّل اليهود المتدينون الحريديم نحو 13.3% من عدد السكان؛ حيث يوجد داخل الكيان اليوم قوتان رئيسيتان تمثلان هذا التيار، هما: حزب شاس أو حراس التوراة الشرقيون، وحزب يهدوت هيتوراه أو يهود التوراة.

وأخيرًا الصهيونية الدينية، وقد انطلقت مفاهيم هذا التيار الأساسية من إنكاره فكرة انتظار المسيح المخلص لقيادة جموع اليهود، والدعوة إلى العودة لفلسطين لإقامة مملكة إسرائيل، والإيمان بالجهود البشرية لليهود أنفسهم عن طريق تهجيرهم من أوطانهم وتوطينهم في فلسطين، مُفسِّرًا نصوص التوراة بعيدًا عن التفسير التقليدي للحريديم.

ولقد ازداد شعور الصهيونية الدينية بقوتها في السنوات الأخيرة؛ حيث مارَس حاخاموها نفوذًا كبيرًا في الشارع الإسرائيلي، وتبوَّأت الأحزاب والحركات الدينية الصهيونية موقعًا مرموقًا في عملية صنع القرار السياسي؛ سواء من خلال مشاركتها في الائتلافات الحكومية، أو من خلال تأثيرها على سياسات الحكومة؛ إلى جانب سيطرة الصهيونية الدينية على دار الحاخامية الرئيسية، والحاخامية العسكرية، والمدارس الدينية الصهيونية، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية، وأهم أحزابهم: البيت اليهودي بزعامة نفتالي بينيت، والقوة اليهودية برئاسة بن غفير، والصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش.

ويتميز هؤلاء القوميون الدينيون عن الحريديم أو أتباع التيار اليهودي الأرثوذكسي بلبسهم القلنسوات على رؤوسهم، وتُقدَّر أعدادهم -بحسب مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي- بنحو 600 ألف شخص أي نحو 10% من الإسرائيليين.

ولكن ما هو موقع فِكْر نتنياهو في خضم هذه التيارات؟

يُعتبر «بن تسيون» والد بنيامين نتنياهو من كبار مؤيدي التيار اليميني العلماني المتشدّد، وأسَّس في سنة 1937م مجلة يمينية هاجَم فيها سلطات الانتداب وسياسات قادة الحركة الصهيونية التي اعتبرها متساهلة مع العرب، ودعا إلى استخدام القوة ضدهم. وفي سنة 1939م قرَّر الهجرة إلى الولايات المتحدة، وأصبح مقربًا جدًّا من زعيم الحركة التصحيحية زئيف جابوتنسكي، وعمل سكرتيرًا له حتى وفاته.

يقول دومينيك فيدال -صحفي ومؤرخ فرنسي-: «إن والد نتنياهو هو الذي لعب دورًا أساسيًّا في بلورة شخصية الابن وآرائه ومواقفه، فجاء فِكْره نتاجًا صافيًا للحركة التصحيحية المُطعّمة بالليبرالية الواقعية الأمريكية».

ويكرر نتنياهو في خطاباته ذكر زئيف جابوتنسكي، ويقدّمه على أنه مُلهمه ومُرشده الروحي، وأنه يحتفظ بسيفه ويقرأ أعماله بشكل دائم، ومنذ سيطرة حزب الليكود على الحكومة، تُخصِّص دولة الكيان يومًا في السنة لإحياء ذكراه، وأطلقت اسمه على عدد من المراكز والشوارع.

يذكر رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو في بحث نشره بعنوان «لمحة عن الأيديولوجية التي تُوجِّه نتنياهو»، أن الحرب الإسرائيلية المميتة الحالية التي تحوَّلت إلى كارثة إنسانية على الفلسطينيين في غزة، تعكس أيديولوجية تُعرف باسم الجدار الحديدي أطلقها جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي، وشكَّلت الملهم الأساسي لنتنياهو طيلة مسيرته في الحكم على مدى عقدين من الزمن.

عقيدة الجدار الحديدي تلك، تدور حول عدة أفكار كتبها جابوتنسكي، ومفادها هجرة يهودية وأكثرية استيطانية، وبناء دولة تتحالف مع دولة عظمى، ودفع العرب والفلسطينيين لفقدان الأمل بهزيمة «إسرائيل»، وإخضاعهم لقبول «إسرائيل». وبما أنه لا مجال لقبول الفلسطينيين بوجود الصهاينة على أرضهم، لذلك قال جابوتنسكي: «لن نسعى للوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين ما دام لديهم بصيص أمل للتخلُّص منّا. لذلك لا بد من استخدام كل وسائل القوة الذاتية العسكرية والمادية والدولية لإخضاع الفلسطينيين، حتى يفقدوا أيّ أمل بالقدرة على المواجهة».

ولكنّ الأخطر في عقيدة جابوتنسكي ما كتبه: «يجب أن تحظى الصهيونية بموافقة، ليس من عرب فلسطين؛ لأن ذلك مستحيل، بل من باقي العالم العربي، من سوريا وبلاد النهرين (العراق) والحجاز، وربما مصر، إذا كان هذا ممكنًا... كلّ هذا لا يكفي، لو استطعنا إقناع عرب مكة والعراق بأن فلسطين ليست أرضهم، وبأنها ليست مهمة بالنسبة إليهم».

والقوة العسكرية التي دائمًا يتحدث عنها جابوتنسكي هي ليست قوة يهودية فقط، بل «القوة العسكرية لدولة أجنبية مثل بريطانيا»، وهو طبعًا كتب أفكاره في العشرينيات من القرن الماضي؛ حيث كانت بريطانيا تتصدر العالم الغربي، ولم يظهر بعدُ التفرُّد الأمريكي بالزعامة.

محصّلة ما سبق تعني أن منطلق نتنياهو، يقوم على فكرة صهيونية علمانية يمينية متطرفة؛ تقوم إستراتيجيتها على استخدام القوة العسكرية ليس بهدف احتلال الأرض الفلسطينية فقط، بل لإجبار الفلسطينيين على الخضوع لتلك الفكرة، وبالتالي ترك المقاومة.

والمنطلقات الفكرية لنتنياهو في هذا المسار تتلاقى مع أفكار الصهيونية الدينية، والتي تتبع نفس المسار، وكلنا شاهدنا التحالف المتماسك بين نتنياهو، باعتباره ممثلاً للصهيونية السياسية، وبين كلٍّ مِن سيمورتش وبن غفير باعتبارهما ممثلين للصهيونية الدينية.

وبالإضافة إلى مسار القوة العسكرية لإخضاع الفلسطينيين؛ تقوم فكرة نتنياهو وفق عقيدة جابوتنسكي أيضًا على إقناع بقية العرب، وخاصةً في سوريا والعراق ومصر والجزيرة العربية، بتأييد الفكرة الصهيونية، فضلاً عن الحصول على تأييد ودعم القوة العظمى، وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

الدور الأمريكي

دائمًا يتردد تساؤل مُهِمّ: «مَن هو أكثر تأثيرًا على سياسات الآخر: الكيان الصهيوني أم الإدارة الأمريكية؟»

وعلى الرغم من الجدال الحادث حول هذا الأمر؛ إلا أنه من الثابت الذي لا شك فيه، أن عملية زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية، كانت جزءًا من الإستراتيجية الغربية لبقاء تلك المنطقة مرتبطة بالمصالح الغربية، وخاضعة لهيمنة الغرب ونفوذه.

وطبعًا ورثت الولايات المتحدة عند تصدُّرها لقيادة الغرب، ومِن ثَم العالم، تلك الإستراتيجية، ولكنها أضافت إليها البُعْد الديني في تلك العلاقة؛ حيث أثَّر التيار البروتستانتي وجماعاته اليمينية المتطرفة في الداخل على السياسة الأمريكية، وهيمنت السردية النابعة من كون اشتراط نزول المسيح المزعوم بإقامة دولة لليهود في أرض صهيون وإعادة بناء الهيكل كما ورد في نصوص إنجيلهم المُحرَّفة.

ولكنّ الأمر لا يسير في اتجاه واحد، ففي الاتجاه الآخر حشد اللوبي الصهيوني أدوات ضغط على السياسة الأمريكية، ودَفعها في اتجاه مصالح الكيان، حتى لو تعارضت في بعض الأحيان مع المصالح الأمريكية!  

فجماعات الضغط الصهيونية الغنية تُعدّ واحدةً من أقوى جماعات الضغط وأكثرها نفوذًا في السياسة الأمريكية. ويعود تاريخ تأسيس أقدمها إلى نهايات القرن التاسع عشر، وتعمل في كل مراكز السلطة الأمريكية، سواء في الكونجرس الأمريكي بغُرفتيه، أو في الإدارة الأمريكية، أو داخل حكومات الولايات. ويتصدّر هذه المنظمات حاليًّا لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية المعروفة باسم «إيباك» التي تأسَّست في عام 1951م، وأصبحت واحدةً من أكثر جماعات الضغط نفوذًا في أمريكا.

ويُعدّ النفوذ المالي والانتخابي والإعلامي من أبرز أدوات تأثير اللوبي اليهودي على القرار الإستراتيجي الأمريكي والتوجُّه العام للمجتمع الأمريكي.

ولنأخذ مثالًا واقعًا لتأثير هذا اللوبي، يتعلق بسياسات ترامب الحالية تجاه غزة، وملف الأسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية؛ حيث تبرز «ميريام أديلسون»، والتي تُصنَّف بأنها من أخطر سيدات الأعمال، وأكثرهن نفوذًا في العالم، بثروة تُقدَّر بنحو 33 مليار دولار، وتُعدّ من أهم المُموِّلين الصهاينة الذين أغدقوا ملايين الدولارات على ترامب، بهدف التحكم في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، فقد قدمت لوحدها مائة مليون دولار لدعم حملة ترامب الانتخابية الأخيرة.

وتُكرِّس الأرملة اليهودية (وُلِدَت في فلسطين، وخدمت في الجيش الصهيوني)، حياتها ومالها في سبيل خدمة المخطَّطات الصهيونية، وفي فترة رئاسة ترامب الأولى، ووفقًا لما جاء في الكتاب الصادر في عام 2022م بعنوان «رجل الثقة: صناعة دونالد ترامب وانهيار أمريكا» لمراسلة البيت الأبيض في صحيفة نيويورك تايمز ماغي هابرمان؛ فإن الصهيونية «ميريام» كانت وراء إعلان ترامب رسميًّا اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمةً للكيان في عام 2017م، وفي اليوم التالي نشرت تلك المليارديرة اليهودية إعلانًا احتل صفحة كاملة في صحيفة نيويورك تايمز تحت شعار «الرئيس ترامب: لقد وعدت، وأوفيت بوعودك. شكرًا لك على اعترافك الشجاع بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل»، إلى جانب صورة لترامب وهو يُصلِّي عند الحائط الغربي. كما قدّمت أيضًا تمويلًا لبناء مجمَّع ضخم للسفارة الأمريكية في القدس.

وبلغ مِن نفوذ تلك المرأة أنها كانت وراء سحب ترامب ترشيح آدم بولر لمنصب مبعوثه لشؤون الرهائن، وذلك عندما عقد بولر اجتماعًا مع قيادات حماس في الدوحة، وشكَّلت هذه المناقشات خرقًا لسياسة واشنطن المتَّبعة منذ عقود ضد التفاوض مع الجماعات التي تُصنّفها الولايات المتحدة «منظمات إرهابية»، وتم الاتفاق مع قيادات حماس على أن تطلق الجماعة سراح خمسة أسرى صهاينة من الجنسية الأمريكية (أحدهم على قيد الحياة والآخرين قتلى) في مقابل هدنة لمدة خمسين يومًا، يتم التفاوض فيها على تبادل بقية الأسرى وانسحاب الجيش الصهيوني من كامل القطاع، وهدنة لمدة من 5 إلى 10 سنوات تلتزم فيها حماس بعدم استخدام سلاحها ضد الكيان الصهيوني.

وأثارت هذه المحادثات غضب بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين وبعض القادة الإسرائيليين. ووفقًا لموقع أكسيوس، فقد عبَّر وزير الشؤون الإستراتيجية في دولة الكيان، رون ديرمر، عن استيائه لبولر في مكالمة هاتفية مشحونة بالتوتر.

وانتهى الأمر بتخلي أمريكا عن تلك الصفقة، وعودتها لشروط نتنياهو مرة أخرى.

ولا يمكن لأحد أن يتوقع أن يجلس مبعوث ترامب مع حماس ويتفق معها؛ إلا بترتيب من ترامب وأقرب مستشاريه ويتكوف، فالإدارة الأمريكية يبدو أنها لا تتبنَّى فَهْم نتنياهو للظرف الحالي، ولكنها تخلَّت عن اتفاقها مع حماس بضغوط اللوبي الصهيوني، وبالذات الأقرب لأُذن ترامب «ميريام أديلسون».

ولكن بعد الحرب الأخيرة التي رجع نتنياهو لشنّها على قطاع غزة، والتئام تحالفه من جديد مع أحزاب الصهيونية الدينية؛ ظهرت مؤشرات على توجُّه جديد للمليارديرة الصهيونية الموصوفة بأنها صانعة نجوم ومؤثرين؛ حيث يتردد في أروقة الإعلام الأمريكي أن أديلسون استقبلت مؤخرًا أحد قيادات اليمين الصهيوني والمناوئ لنتنياهو «نفتالي بينيت»، وأشرفت أديلسون على تنسيق جولته، وأقامت له حفل عشاء خاصًّا به. وقيل: إنها تدعم نيته تشكيل حزب جديد من ائتلاف عريض قد يصل إلى 80 عضوًا في الكنيست، وهو انقلاب واضح على نتنياهو.

ويبدو أن أديسلون تميل للرأي الذي يتبناه أكثر الخبراء والإستراتيجيين الصهاينة، أن خوض نتنياهو للحرب مرة أخرى ليس لمصلحة الكيان، ولكن لمصلحته الشخصية واستمراريته للحكم. كما أن تلك المليارديرة الصهيونية تتبنَّى علنًا قضية خروج الأسرى جميعهم، ومن أبرز الداعمين لقضيتهم، والاستمرار في الحرب تُقلّل من فرص بقائهم أحياء، فالحاجة باتت مُلِحَّة في نظر هؤلاء لإنقاذ إسرائيل ذاتها وإخراجها من مأزق الحكومة الحالية بقيادة نتنياهو ودون أيّ تفريط بمصالحها الأمنية.

تاريخيًّا، لا يدعم اللوبي الصهيوني حكومات الكيان مباشرة، ولكنّه يدعم مَن يخدم الأهداف الإستراتيجية للكيان، أما سياسات الحكومات فقد تأتي المُعارَضة الأشدّ لها مِن قِبَل الصهاينة أنفسهم داخل الكيان، وبالتالي فقد يختلف عليها داعمو الكيان من اللوبيات في الغرب والولايات المتحدة.

 


أعلى