• - الموافق2025/04/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
شعراء الدعوة في الأدب المغربي المعاصر

الأديب المسلم يشعر ويحسّ بأن الكتابة قبل كل شيء أمانة سوف يُحاسَب عليها يوم يَلْقى الله تعالى، وإلى هذا يشير الناقد المغربي محمد إقبال في كتابه القيّم «جمالية الأدب الإسلامي»؛ فيقول: «إن من دواعي التأليف والكتابة أن يكون النتاج جواز سفر يحمله الكاتب مع غر


عندما يصبح الشعر قنطرة عبور وجواز سفر يصل أطراف الأمة الممزقة، ويحمل صبوة آلامها المبرحة؛ يواسي المستضعفين، ويحول دون تيار الانحلال وموج التتار البيض؛ حينها لن يبقى هذا الفن ترفًا فكريًّا وتسكعًا وجدانيًّا، والدارس للشعر الإسلامي، وللأدب الإسلامي عمومًا، يشعر للوهلة الأولى بهذه الحرارة المتوهّجة؛ فلا يلبث أن يندمج مع المبدع في هموم الوطن والإنسانية جمعاء.

وكان لا بد لقطار الصحوة المباركة أن يمر بالمغرب، هذا البلد الطيب الذي وقف سدًّا منيعًا -سنين عديدة- في وجه الغزو الصليبي، وحال بينه وبين أبناء القارة السمراء، وكانت صحوة في كل شيء استطاعت أن تُعيد -بحمد الله- الوجه الناصع للإنسان المغربي؛ فكثر الحديث عن الإسلام وسط التجمعات الطلابية وعلى المنابر الفكرية وفي الشارع، مما دفع ببعض المناوئين أن يخطبوا وُدّ الإسلام لمَّا شعروا بسحب البساط من تحت أرجلهم، ومن بين البنيات الثقافية التي طالها هذا التصحيح -إن صح التعبير- الأدبُ، ولنقل: الشعر ما دام الفن الروائي الإسلامي لم يعرف طريقه إلى النضوج.

شعراء الشباب والإبداع

لقد استطاعت ثُلَّة من الشعراء الشباب أن تُسطِّر الملامح الأولى لأدبٍ إسلاميّ، بل وأن تتجاوز مرحلة التنظير إلى مرحلة الإبداع الجاد، ومنذ البداية أحسَّ المبدع المسلم بثقل المسؤولية -مسؤولية الكلمة الملتزمة-، وكذا بالتحدي الذي يَطال مقدرته الفنية؛ لأن المسألة ليست مجرد كتابة فحسب، بل إعادة تشكيل وصياغة لفن طالما ظل تغريبيًّا وأداة هدم في يد بعض مرتزقة الفكر والفن.

فالأديب المسلم يشعر ويحسّ بأن الكتابة قبل كل شيء أمانة سوف يُحاسَب عليها يوم يَلْقى الله تعالى، وإلى هذا يشير الناقد المغربي محمد إقبال في كتابه القيّم «جمالية الأدب الإسلامي»؛ فيقول: «إن من دواعي التأليف والكتابة أن يكون النتاج جواز سفر يحمله الكاتب مع غربته في الدنيا، ومصرعه عند الموت، ووحشته في قبره، ووقوفه بين يدي الله».

مجالات الإبداع في الشعر الإسلامي بالمغرب

لقد أظهر الشعراء المسلمون مقدرتهم الفنية في هذا الميدان الحيوي، واستطاعوا أن يتفاعلوا مع كل أشكال القصيدة؛ فكتبوا في الشعر العمودي، وفي الشعر الحديث، مع الحفاظ على الإيقاع العربي والتفعيلة الخليلية، وبرهنوا على أنهم مستعدّون للتعامل مع أحدث المعطيات الشعرية على أساس أن يبقى الشعر شعرًا، ولا يتحول إلى إسفاف لغوي «وإلى أن يُنجَز نمط شعري يتجاوز التفعيلة دون أن يخلّ بجوهر الشعر الموسيقي، أو يتنازل عنه ويستجيب في الوقت ذاته لروح العربية سنظل حريصين على التمسك بإيقاع الخليل»[1].

وفي هذه العجالة سنقصر حديثنا على أسماء أربعة شعراء استطاعوا أن يدفعوا بعجلة الشعر نحو آفاق متقدمة، ليس على الصعيد المغربي فحسب؛ بل على صعيد العالم العربي والإسلامي ككل، وهذه الأسماء هي: (الدكتور حسن الأمراني - والأستاذ محمد بنعمارة - وصديقهما محمد علي الريادي، بالإضافة إلى أم سلمى، وهي صوت نسوي مؤمن).

الدكتور حسن الأمراني

ولتكن البداية مع رائد العمل الإسلامي في المغرب المعاصر الدكتور حسن الأمراني؛ فعند الأمراني تختلط أزمة الأمة بالتراث بالجمالية بالأسلوب القرآني لتُشكِّل هذه العناصر مجتمعةً لوحات تشكيلية رائعة من حيث الشكل والمحتوى، يقول في ديوانه القصائد السبع:

«هبَّت الريح علينا ذات يوم وانتهينا، ضاع منا الظل في الصحراء، ضاعت قسمات الوجه منا، وتضاريس الجسد، ما الذي يحدث لنهرٍ إذا جفّ وغاض النبع ماذا يبقي؟ غثاء وزبد.

وتشردنا قرونًا في المجاهل وتعلقنا بباطل، فإذا الكون دخان ورماد، وإذا الأمر جميعًا قد تلاشى من يدينا، لم نجد غير البكاء، وبكينا وبكينا، لم يعد شيء إلينا في سراديب الهزيمة، أُمَّة نحن تداعت أمم الأرض عليها كتداعي الأكلة»[2].

أليست القصيدة هنا تدوينًا تاريخيًّا لحياة أُمَّة انفصلت عن نبعها؛ فهبَّت عليها ريح عاتية محمَّلة بكل أنواع الأوبئة، فكان تكالب الأمم عليها نتيجة طبيعية لابتعادها عن المنهج القرآني؟ وكذا فالقصيدة تصوير فني لحديث رسول الله؛ «يوشِكُ الأُمَمُ أن تَداعى عليكم كما تَداعى الأَكَلةُ إلى قَصْعتِها، فقالَ قائِلٌ: ومِن قِلَّةٍ نحن يَوْمَئذٍ؟ قالَ: بل أنتم يَوْمَئذٍ كَثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، ولَيَنزِعَنَّ اللهُ مِن صُدورِ عَدُوِّكم المَهابةَ مِنكم، ولَيَقذِفَنَّ في قُلوبِكم الوَهْنَ. فقالَ قائِلٌ: يا رَسولَ اللهِ، وما الوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيا، وكَراهيَةُ المَوْتِ»؛ إذ نحن اليوم كثير، ولكننا كغثاء السيل.

الشاعر الدباوي

وتتخذ المأساة بُعدًا آخر مع الشاعر محمد علي الدباوي؛ فالأزمة عنده ذات وجهين؛ وجه يُشكّل الصراع من أجل إثبات الذات والهوية الإسلامية، وكذا في البحث عن مخرج من هذه الأزمة، لذا نجده يبحث ويتساءل في أول قصيدة من مجموعته (البيعة المشتعلة)، عن المرأة الأمل التي تستطيع أن تحمل في أحشائها طفلًا أسمر القسمات، لم تتغير ملامحه بمساحيق الغرب، يضع حدًّا للطغيان المستشري في جسد الأمة كسرطان خبيث، فيحمل هذا الطفل الخلاص عقيدته (المئذنة)، بيدٍ، ويدافع عنها بالأخرى.

«نتصارع وسط البحر مع الموج الصاخب؛ عبثًا نبحث عن رمل أو نجم ثاقب، وشجيرات الريح على المركب والراكب، جعلتنا نرسم بالملح القمر الشاحب، مصباح المرسى يحمل في يده الأحزان، ينقش فينا صفصافًا مقطوع الأغصان، ونظل على جدران الدمع بلا أسنان، نمضغ الآهات ننسج للمطر الأكفان من يأتينا؟ من يحمل قنديلًا أخضر؟ مَن يعطينا قلمًا أو يعطينا دفترًا؟ مَن يعطينا امرأة تحمل طفلًا أسمر بيدٍ يحمل مئذنة، وبأخرى خنجرًا؟[3].

وهكذا تصبح المرأة في عُرف الدباوي -وبالتالي في عُرف الشاعر المسلم- أداةً فعالةً، وليست أداة لدغدغة رومانسية الجنس في نفوسنا المريضة، فهي صانعة الرجال صانعي النهار، ومع ميلاد كل طفل من رحمها المتدفق يتجدّد أملنا في غد أفضل وحياة أفضل.

مع الشاعر بنعمارة

ونجد هذه الغربة تتكرر عند محمد بنعمارة؛ الوجه الثالث في هذه المسيرة المباركة، غير أن هذه الغربة عنده تتوحد بنفحة صوفية عبقة فيبثّ شكواه وحبّه لله، ثم لسيدنا رسول الله؛ فيقول:

«يا سيدي ونبيي، بلادي ممزقة كقميص المحارب حين يضمد جرحًا، وأهلي -وأخجل يا سيدي أن أقول- يحاربك الحاكمون، وأهلي طوائف يقتسمون غنائم هذا الزمان الرماد»[4].

وتستمر الغربة في قصائده وتتوهج، ويستمر معها ذلك العشق الصوفي: «سيدي، إن كتابي رقة قد أوقدت عشقًا قديمًا، كنت قبل اليوم ملَّاحًا، وكان البحر أُنثى فتزوَّجنا وأنجبنا الهياج»[5].

وحتى وهو يتكلم عن الجهاد الأفغاني تطلّ من بين أحرفه تلك النفحات الصوفية وذلك الفيض الإيماني، فيصبح الجهاد لحظة إشراق روحي بعيدًا عن السكونية؛ ففي قصيدة «أناشيد عائشة الأفغانية»، يأتي المجاهدون على متن خيولهم فتخضرّ الممالك لتصبح خطوات نحو الله، وينطلق جواد الأرقم من بيت الأرقم ليهدم أصنام الليل:

«يأتون على متن الخيل، ممالكهم تخضرّ، إلى أن تصبح خطوات نحو الله، يا الله! عرفناك أخيرًا، والمركب يقلع باسمك، وسيوف الفتح إذن ترسم ما بين الصبح ووجه الليل الحد، فواصل وفواصل، وفواصل، من الفاصلة الأولى ينطلق جواد الأرقم، من بيت الأرقم يهدم أصنام الليل»[6].

وهنا تبرز دلالة الرمز ودلالة المعنى أيضًا؛ حيث يكون الجهاد نتيجة طبيعية لمعرفة الله حق المعرفة، «يا الله! عرفناك أخيرًا».

وينطلق الأرقم بجواده من بيت الأرقم لهدم أصنام الليل، من هنا يبرز الرهان القوي الذي خاضه الشاعر، وهو القوي يُوظّف الرمز التاريخي ومواقف تاريخية من تاريخنا الإسلامي؛ ليرسم آفاق المستقبل الذي سوف يبزغ فجره من قمم الهندوكش الأبية؛ فيرتبط في ذهننا المكلول الماضي المتوهج بالمستقبل الواعد.

وهذا ما دفَع ببعض النُّقاد ذوي النظر المحدود إلى اتهام المبدعين الإسلاميين بالإغراق في الماضوية والسكونية؛ لمجرد توظيفهم لتراثهم الإسلامي ولرموز تاريخية. وهم ينسون أو يتناسون أن الكثير من الأدباء سواء (الماركسيون أو الليبراليون) وظَّفوا التاريخ، بل وحتى الأسطورة في نتاجهم الفني، وبالتالي يتأكد لنا أن الاتهام مشروط بالرؤية الإسلامية، وليس بتوظيف التاريخ، وإلى هذا يشير الأستاذ محمد إقبال عروي: «نتذكر مناقصة أيوب مع بدر شاكر السياب، و(مريم العذراء) مع أدونيس».

مع الشاعرة أم سلمى

وإلى جانب الشعراء الثلاثة، يبرز صوت نسوي عميق الدلالة، مخترقًا حصار الكلمة ليخطّ بإصرار طريقه النبيل؛ إنها الشاعرة (أم سلمى)، فهي في أول مجموعة لها يُلاحظ أن الشاعرة تمارس فعلًا جديدًا مع الكلمة وإنه فعل (النذر): «إني نذرت للرحمن حروفي المشتعلة».

والمتأمل لقصائد أم سلمى تصبح لديه قناعة تامة أن الأمل، أي الحلم، سوف يتحول إلى الحقيقة، وهي بذلك تطلب من طفلتها سلمى أن تكفّ عن البكاء «وهو بكاء كل أطفال العالم».

«لا تَبكِ سلمى! أرى الشعاع الحائر ينفض الأدران. لا تبكِ سلمى! حتمًا سينضج الورد المقفح، وينتفض دُلَج الصمت الموغل في الأعماق، ويصهل الوجه في أفئدة الغافلين. لا تَبكِ سلمى! أرى في جدائل الفقراء كل الفقراء سنابل تنبت وتزدهر»[7].

فالشاعرة هنا تريد أن تصنع من الضعف والخور أسباب قوتنا؛ فتتحول الهزيمة بشقيها الحضاري والعسكري إلى نصر مبين، فمن خلال الشعاع الخائر تنتفض الأدران، ويصهل الوهيج في أفئدة الغافلين، ومن جدائل الفقراء العجاف ينبت الزهر وتخضرّ حقول الأمل.

والشاعرة، قبل كل شيء، إنسانة تحسّ وتشعر، تفرح وتتألم لمصير هذا الإنسان؛ إنسان هذا الزمان الذي ضلَّ الطريق إلى الواحة (الإسلام)، ليجد نفسه فجأةً بلا هدف وبلا غاية وبلا معنى: «إنسان هذ الزمان، إنسان الكهوف، خالي الوفاض، يعيش السأم، يعيش للرغيف والسأم».

وهي لا تكتفي بوصف الحالة المزرية لهذا الإنسان، بل تضع يدها على مكمن الداء وسر المأساة: «لا يريد شق ضمير السأم ليفصح عن يتيمٍ أمَّ القرى يرتاد به طريق الأمل، ليُفْصِح عن هادي البشر»؛ فهو لا يريد أن يتخذ مع الرسول يتيم أُمّ القرى سبيلًا، وبذلك يقفل طريق الأمل، وهي تدرك أن قوة المسلم في عقيدته، وأنه إذا تطلع إلى السماء سوف تخرّ عروش الأقزام في الصباح قبل المساء.

من خلال هذه العجالة؛ يتبين لنا أن الشعر الإسلامي في المغرب قد خطا خطوات جديرة بالتأمل -وإن كنا متيقنين أنه لم يقل بعد كلمته الأخيرة-، متجاوزًا بذلك كل القيود المفروضة وكل حراس الكلمة ليعانق صبوة المعذبين في كل أرض ومن كل جنس.

 فهنيئًا للشعر الإسلامي في عصره الجديد، وهنيئًا للدعوة الإسلامية بأدبائها المبدعين.

 


 


[1] جمالية الأدب الإسلامي: محمد إقبال عروي، الدار البيضاء 1968م.

[2] ديوان القصائد السبع: حسن الأمراني، منشورات المشكاة، جدة 1984م.

[3] ديوان الأعشاب البرية: محمد علي الدوباي، جدة.

[4] مجلة الفرقان المغربية: العدد السابع، السنة الثانية 1406ه.

[5] جمالية الأدب: مرجع سابق.

[6] مجلة الفرقان: مرجع سابق.

[7] ديوان لعبة اللانهاية: أم سلمى.


أعلى