إن النصر السياسي الذي حقَّقته المقاومة بالاستجابة لمطالبها مِن قِبَل الدولة العبرية يمكن حشد العديد من الأسباب لتحقُّقه
خلف الكواليس تجري هذه الأيام معركة تقرير مصير سياسي بالنسبة للدولة العبرية
وحكومة بنيامين نتنياهو مع الائتلاف اليميني المحيط به، بزعامة بتسالئيل سموتريتش؛
في محاولة بائسة لحرمان المقاومة الفلسطينية من تحقيق أيّ مكاسب سياسية تنتج عن
اكتمال المراحل الثلاثة لصفقة التبادل التي يجري تنفيذها هذه الأيام برعاية أمريكية
وقطرية ومصرية.
في آخر خطابات المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، قال:
«إن
واشنطن تريد إكمال مراحل صفقة التبادل، وتسوية الأمر في غزة، لكن الدولة العبرية
تريد حماية نفسها من خلال منع مشاركة حماس في حكم القطاع».
وهذا المطلب مقارنةً بالسقف المرتفع الذي استظلت به حزمة المتطرفين اليهود مع بداية
الحرب على غزة يُعدّ مُبشِّرًا بالمزيد من التنازلات مِن قِبَلهم مع استمرار صمود
المقاومة وإصرارها على تنفيذ مطالبها.
يرفض بنيامين نتنياهو الذهاب إلى المرحلة الثانية من الصفقة؛ لأنها تشمل البدء
بتنفيذ الالتزامات السياسية، وأهمها: انسحاب الجيش الصهيوني من قطاع غزة بصورة
كلية، بما في ذلك محور فيلادلفيا بين غزة ومصر، لكنّ الاستجابة لهذه المرحلة مِن
قِبَل نتنياهو يُعرِّضه لأمرين كلاهما مُرّ؛ الأول تسريع إجراءات محاكمته في ملفات
الفساد التي تنتظره في المحكمة، وكذلك تفكك الائتلاف وانسحاب أحزاب اليمين المتطرف
التي كان طموحها منذ بداية الحرب الاستيطان في غزة.
وقد قال بتسالئيل سموتريتش من الحزب الصهيوني الديني علنًا:
«إنه
صوَّت لصالح وقف إطلاق النار فقط؛ لأن نتنياهو تعهَّد بأنه
«مؤقت»،
ولن يتم تنفيذ المراحل اللاحقة».
المعضلة التي يعاني منها نتنياهو هي أنه عمليًّا يمتلك القدرة على إطلاق حملة
عسكرية جديدة، لكن يعترض ذلك العديد من العقبات، ليس أقلها أهميةً رَفْض ذلك مِن
قِبَل القيادات الأمنية والعسكرية التي استنزفتها أطول حروب الدولة العبرية منذ
نشأتها وأكثرها خسارة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وكذلك
الضغط المتواصل الذي يمارسه أهالي الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.
أما بالنسبة لملف التهجير الذي أعلنه وتبنَّاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛
فبالنسبة للكثير من النُّخَب هو رفع سقف الضغوط الأمريكية على حماس؛ بهدف التوصل
إلى صفقة بأقل الخسائر بالنسبة للدولة العبرية؛ فالرئيس الأمريكي لا يريد استمرارية
الحرب بوصفها تُشتِّت انتباهه عن أهدافه الاقتصادية في المنطقة، وكذلك فإنه من خلال
قبوله برؤية عربية مُوحَّدة ترفض ملف التهجير، وتضع ملف إعمار قطاع غزة على الطاولة
السياسية الدولية؛ يسمح للموقف الرسمي العربي بلعب دور أكبر قد يكون مُقدِّمة لضغوط
سياسية قد تُمارَس على المقاومة، ستكون مصر فيها رأس الحربة.
يقول هيثم أميرة فرنانديز، المحلل المتخصّص في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط:
إن
«حماس
لا يمكن القضاء عليها بالكامل».
ويضيف قائلًا:
«فشلت
الحكومة الإسرائيلية في خلق واقع عسكري يُقدِّم بديلاً عن حماس في غزة، فبحسب
التقارير الاستخبارية الأمريكية والصهيونية: نجحت حماس في ملء الفراغ الداخلي ضمن
أجهزتها العسكرية والأمنية في غزة. وأصبحت تفرض سيطرتها الكاملة على القطاع،
بالإضافة إلى قيادتها السياسية المنخرطة في المفاوضات باستمرار».
لكن ما يجري تجاهله حاليًّا باستمرار هو الصراع الداخلي في الدولة العبرية، وصراع
ينتقل من طبقات النخبة السياسية إلى المجتمع الصهيوني؛ لأن ما حدث منذ السابع من
أكتوبر 2023م عبَّر بصورة واضحة عن التناقضات التي يعيشها المشروع الصهيوني بأكمله،
وهناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تعكس تأثير الانهيار الاجتماعي والأخلاقي
داخل المجتمعات على حسم نتائج أيّ انتصار عسكري، ففي الحرب العالمية الأولى انتصر
الحلفاء عسكريًّا، لكنّ معاملتهم المهينة لألمانيا في معاهدة فرساي (1919م)، مهَّدت
الطريق لصعود النازية، ونشوب الحرب العالمية الثانية.
وكذلك سيطر الاتحاد السوفييتي على أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، لكنّ
التكلفة المادية والبشرية الهائلة كانت سببًا في انهياره داخليًّا، وبعد عقود من
الزمان، حقَّقت الولايات المتحدة نصرًا عسكريًّا في أفغانستان، لكنها أرست الأساس
لهزيمة نكراء على يد طالبان بعد 20 عامًا من الحرب، وفي جنوب إفريقيا حتى عام 1993م
كان يُطلَق على قادة حزب مؤتمر الوطني الإفريقي، ومن بينهم نيلسون مانديلا، بأنهم
«إرهابيون»،
لكنّهم أصبحوا رمزًا للتضحية والنضال في معركة الفصل العنصري التي خاضوها لعقود.
وفي الصراع الأخير في غزة، حقَّق الجيش الصهيوني -بحسابات الكمّ- الكثير من الأرقام
على المستوى العسكري، لكن على المستوى السياسي حصلت المقاومة الفلسطينية على رصيد
كبير من الاعتراف الشعبي العالمي بهويتها الفلسطينية، ويقابل ذلك تآكل شرعية
الاحتلال الصهيوني والزّجّ بقادته لأول مرة في محكمة الجنايات الدولية.
كما منحت هذه الحرب حماس شرعية سياسية دولية؛ من خلال الجلوس معها على طاولة
المفاوضات مِن قِبَل وسطاء إقليميين وعرب، ونجحت بتوسيع دائرة شرعيتها السياسية من
خلال إدارة رأس مالها السياسي بمهارة، وحظيت بانتصار سياسي وشرعي كبير، لكنّ ثمنه
الباهظ سيجعلها مضطرة لتحمُّل المزيد من الضغوط من أجل تغيير نتائج المفاوضات
لصالحها.
إن النصر السياسي الذي حقَّقته المقاومة بالاستجابة لمطالبها مِن قِبَل الدولة
العبرية يمكن حشد العديد من الأسباب لتحقُّقه؛ وأولها وجود قيادة يمينية متطرّفة في
قمة الهرم السياسي الصهيوني تُعزِّز داخل المجتمع
«أوتقراطية»
فاسدة كان مثلث صمودها تحالف سموتريتش وبن غفير ونتنياهو، وسقوط هذا الهرم يُقلِّص
بشكل كبير قوة نظام الحكم في الدولة العبرية، وبقاؤه يُعزّز من الانقسامات داخل
المجتمع الصهيوني. وبعد انسحاب بن غفير كان يجب على نتنياهو الزيادة في تطرُّفه
بالاستجابة لمطالب سموتريتش، وتعويضه عن استمرار الحرب على غزة بالضغط على الضفة
المحتلة عسكريًّا، وحرمان السلطة الفلسطينية -التي تُعدّ أوثق الحلفاء الأمنيين في
المنطقة للدولة العبرية- من مكاسبها على الأرض، وكل ذلك يَصُبّ في مصلحة المقاومة،
ويزيد من شرعيتها وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
الأمر الآخر -وهو الأخطر- هو أن الدولة العبرية تفتح جبهات جديدة من خلال احتلال
مساحات واسعة من الأراضي السورية، وفقدان مسار التطبيع مع المزيد من الدول العربية؛
خاصةً في ظل تهديدات نتنياهو المتواصلة بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن،
وأخيرًا تصريحه بشأن استضافة المملكة العربية السعودية للفلسطينيين.