لقد خصَّص شارل روبير أجيرون الجزء الأكبر من كتابه للمرحلة الاستعمارية 168 صفحة من أصل 207 صفحات، حاول خلالها التطرُّق لمراحل الاحتلال، والسياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر
لا بد في البداية من الإشارة إلى أن ما كتبه المؤرخون الجزائريون عن تاريخ الجزائر المعاصر سواء بالعربية أو بالفرنسية يُعدّ أقلّ بكثير مما كتبه الفرنسيون أو الأوروبيون. ويبقى المرجع الأساسي لمن أراد التعمُّق في البحث هو الكتابات الأجنبية، التي مهما تحرَّت الموضوعية لا يمكنها تقديم الموضوع من وجهة نظر جزائرية.
ويمكن تقسيم ما كُتِبَ عن تاريخ الجزائر المعاصرة إلى:
- دراسات قام بها جزائريون في إطار كتابة التاريخ الوطني، مثل: عمار بوحوش «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية 1962م».
- دراسات قام بها غيرُ الجزائريين في إطار أبحاث ودراسات أكاديمية مثل: شارل روبير أجيرون «تاريخ الجزائر المعاصرة» بالفرنسية، ترجمة عيسى عصفور، ويتطرق للفترة الزمنية (1976 -1830م). ودراسة محمد الطوير «تاريخ حركات التحرُّر من الاستعمار في العالم خلال العصر الحديث».
وسنحاول في هذا المقال، التطرُّق لتاريخ الجزائر المعاصر انطلاقًا من كتاب «تاريخ الجزائر المعاصرة»، لمعرفة هذا التاريخ برؤية فرنسية.
كتاب «تاريخ الجزائر المعاصرة» لشارل روبير أجيرون -وهو مؤرخ فرنسي (2008 -1957م) من المعارضين للسياسة الكولونيالية الفرنسية-، صدرت طبعته الفرنسية سنة 1964م، وترجمه عيسى عصفور للعربية، وصدرت طبعته الأولى عن منشورات عويدات ببيروت، والثانية سنة 1982م عن ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، والتي سنعتمد عليها في هذا المقال.
عنوان الكتاب مُتَماهٍ مع مضمونه، الذي يتطرق فيه صاحبه لتاريخ الجزائر المعاصر، منطلقًا من العهد العثماني، ومركزًا على العهد الفرنسي وحرب التحرير، ليختم بعهد الاستقلال. يُغطّي الكتاب الفترة الزمنية (1976 -1830م)؛ أي ما يعادل 146 سنة من التاريخ الجزائري، وهي فترة طويلة مقارنةً بحجم الكتاب، فهو يتطرَّق للحظات مفصلية: إنها لحظات التحوُّل سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، وعنها يقول أبو القاسم سعد الله -مؤرخ جزائري- في كتابه «أبحاث من تاريخ الجزائر»: «وما أقساه من تحوُّل! لقد مسَّت خلال عملية التحول هذه ثوابتنا، وتحطَّم الكثير من رموزنا، وطُمِسَت معالم حضارتنا وقِيَمنا، وانطفأت عشرات الأرواح من قادتنا، وتشرذمت عشائر وقبائل وجماعات، بل كاد الزمان يعضّ على اسم الجزائر كما عضّ على اسم الأندلس»[1].
لقد خصَّص شارل روبير أجيرون الجزء الأكبر من كتابه للمرحلة الاستعمارية 168 صفحة من أصل 207 صفحات، حاول خلالها التطرُّق لمراحل الاحتلال، والسياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر، والمتمثلة في الإبادة الجماعية، والنفي الجماعي، ومصادرة الأراضي والمنازل، والحكم بالإعدام أو السجن بالمؤبد أو الأشغال الشاقة، وفرض الغرامات الثقيلة على المعارضين للسياسة الفرنسية، والاعتداء على حرمات الموتى، والتعذيب والتقتيل والخطف، وتخريب المنازل خلال الثورة الجزائرية.
هذا فيما يخص الجرائم في حق الأفراد والجماعات، أما الجرائم ضد المقدّسات والمقوّمات والأخلاق، فتتجلَّى في الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية التي كانت مصدرًا لنشر العِلْم والمعرفة وإعالة الفقراء وتوفير التكافل الاجتماعي، وفرض سياسة التجهيل المقصود التي دامت عشرات السنين، والمعاملة غير الإنسانية للسكان (قانون الأهالي الاستثنائي)، وإجبار الشباب على التجنيد في حروب دولية لا تخدم وطنهم في شيء، والاعتماد على سياسة (فَرِّق تَسُد) في الهيمنة والتسلط على السكان.
من خلال الأساليب الاستعمارية التي نهجتها فرنسا في الجزائر، والتي حاول «أجيرون» إبرازها في كتابه تصريحًا أو تلميحًا، يظهر أنه كان معاديًا لهذه السياسات الاستعمارية، لينضاف إلى آخرين أمثال: جاك بيرك وروبير مونطاني. لنخلص إلى أنه تجنَّب الذاتية في كتابة «تاريخ الجزائر المعاصرة» رغم كونه فرنسيًّا؛ لأن مهمة المؤرخ كتابة التاريخ وقول الحقيقة كما هي وليس كما نريد.
ويرى أبو القاسم سعد الله أن مُخلَّفات الحقبة الاستعمارية مازالت مستمرة إلى الآن، وفي ذلك يقول: «... العهد الفرنسي، وما أصابنا خلاله وبعده من التشرذم الثقافي. ويكفي أن هذا التشرذم أو التمزق ما يزال بيننا ضاربًا بقوته وحدتنا الفكرية». ويرى كذلك أن للحقبة الاستعمارية في الجزائر حسناتها؛ حيث يقول: «إذا كان للاحتلال الفرنسي من فضل، فهو إيقاظه لنا كي نخرج من عهد القبيلة إلى عهد الوطنية، ومن عهد الإقطاع إلى عهد الشعب»[2].
أما فيما يخص الجزائر المستقلة، فقد وجَّه شارل روبير أجيرون انتقادًا لحكم بن بلة، حيث يقول: «وجرَّ البلاد باشتراكية فولكلورية أكثر منها فعَّالة، إلى الدمار الاقتصادي والتبعية الأجنبية». وأشاد بحكومة بومدين، حيث يقول: «لقد رفضت حكومة بومدين الرومانسية الثورية؛ فالفئة الجديدة تكشفت عن واقعية وفعالية»[3]. ويوافقه الرأي في ذلك أبو القاسم سعد الله، بقوله: «إن المرحلة من 1962 إلى 1965م تُمثّل المرحلة الرومانتيكية للثورة، إنها تميَّزت بالعاطفية والخطابية والحماس الشديد. أما مرحلة 1976 -1965م، فيمكن وصفها بالواقعية»[4].
إن الإبحار في كتاب «تاريخ الجزائر المعاصرة»، هو رحلة في تاريخ الجزائر برؤية مؤرخ فرنسي، حاول ما أمكن أن يلزم الحيادية في تناوله وكتاباته في وقتٍ عصيبٍ من تاريخ هذا البلد؛ حيث كان يعرف مخاضًا سياسيًّا انبثقت فيه النخبة التي ساهمت في استقلاله، محاولاً وضعه في سياقاته: العروبة، الإسلام، والتأثير الأمازيغي والعثماني والفرنسي. وفي ذلك يقول: «إن تاريخ المغرب المركزي والجزائر الفرنسية، لا يمكن فهمه إلا على ضوء العروبة والإسلام فقط، لكن يجب أن يُضاف إليه ثِقَل ثقافة البربر وتأثيرات السيطرة العثمانية والانفلاتات الرئيسية التي أدخلت خلال 132 سنة من الوجود الفرنسي»[5].
ولا بد من الإشارة إلى أن كتاب «تاريخ الجزائر المعاصرة» لشارل روبير أجيرون تغيب عنه الخاتمة، وأن قسمه الأخير خضع لتعديلات من طرف المؤلف بحسب الطبعات والمستجدات، وأنه يتوفر على كمّ هائل من الأرقام والإحصاءات، في مقابل ذلك يُلاحظ غياب الإحالات والهوامش مما يجعلها تمتاز بالنسبية ويطرح تساؤلاً حول مدى صدقيتها، وما هي المراجع والوثائق التي اعتمدها أجيرون لسردها، أم أن هذه الهوامش متوفرة في النسخة الفرنسية وغابت في النسخة العربية؟!
ورغم ذلك، ومن خلال ما سبق، نستطيع أن نلاحظ أن كتاب «تاريخ الجزائر المعاصرة» لشارل روبير أجيرون، يكتسي أهمية تاريخية وسياسية واقتصادية وسكانية واجتماعية... تتجلى الأهمية التاريخية، في كونه يتطرق لأحداث تاريخية عاشتها الجزائر خلال (1976 -1830م)، ولكون المؤرخ عاصَر جزءًا منها.
أما سياسيًّا، فيُمَكِّن من معرفة جذور العلاقات الفرنسية الجزائرية، وامتداداتها في الحاضر، ومعرفة النخبة السياسية الجزائرية التي تولَّت مقاليد الحكم، والتي لا يزال بعضها على قيد الحياة.
أما الأهمية الاقتصادية، فتكمن في معرفة السياسة الاقتصادية الفرنسية بالجزائر: الإنتاج والمنتوجات، والتبادل التجاري والمخططات الاقتصادية... وغيرها.
أما الأهمية الاجتماعية، فتبرز في معرفة التباين بين سكان الجزائر المسلمين وسكانها الأوروبيين، وانعكاسات الأزمات الاقتصادية والقحط على الوضع الاجتماعي للسكان.
كما أن للكتاب أهمية سكانية ديمغرافية، لكونه يشير بالأرقام إلى التطور السكاني الذي عرفته الجزائر خلال هذه الحقبة.
خلاصة القول: لا يسعنا في نهاية هذه القراءة الموجزة لتاريخ الجزائر المعاصرة إلا التأكيد على أن الهدف الأساسي منها، هو أنها مفتوحة على قراءات أخرى لاستخلاص المعلومات التاريخية منها، وتوسيع آفاق البحث في تاريخ الجزائر؛ من خلال الاستفادة من كتابات شارل روبير أجيرون ومقارنتها بإنتاجات أخرى؛ لاستخراج مادة تاريخية تُمكّننا من تجديد نظرتنا أو تصحيح رؤيتنا لقضايا التاريخ الجزائري؛ لأنه: «عندما توقَّف المسلمون، والجزائريون بالخصوص، عن استنطاق الشواهد والوثائق والاستفادة من المعطيات الحضارية الإنسانية؛ توقفت عملية الكتابة التاريخية، وأصبح التاريخ عندهم نوعًا من الأدبيات الخرافية والأساطير»[6].
[1] سعد الله أبو القاسم، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، الجزء الرابع، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1996م، ص3.
[2] المرجع السابق، ص 13.
[3] أجيرون شارل روبير، تاريخ الجزائر المعاصرة، ترجمة: عيسى عصفور، ديوان المطبوعات الجزائرية، الطبعة الثانية، 1982م، ص 200.
[4] سعد الله أبو القاسم، م.س، ص 15.
[5] أجيرون شارل روبير، م. س، ص7.
[6] سعد الله أبو القاسم، م. س، ص7.