ومن الوسائل الفعَّالة التي ينبغي منحها الأولوية في هذا الشأن: تدريب الشباب العربي في تركيا ليحققوا تغييرًا في معارفهم ومهاراتهم وقدراتهم الذاتية في ضوء متطلبات سوق العمل، وفي ضوء تطلعاتهم المستقبلية للوظائف التي سيقومون بها في بلدانهم العربية
في ضوء العلاقة بين الإسلام والغرب؛ قال دانييل بايبز مدير معهد الدراسات الخارجية في فيلادلفيا وأحد أعمدة النخبة المؤثرة في مقال عنوانه «المسلمون قادمون»: «إن الصراع المسلَّح ظل أسلوب العلاقة بين المسيحية والإسلام، حتى انعكس ذلك على مظاهر الحياة في الغرب، وظل المسلم هو العدوّ الأول في نظرنا لقرون طويلة، نلحظ ذلك في قصائد أورلاندو وغيره من الأدباء والشعراء. لقد هدَّد المسلمون المملكة المسيحية عندما عسكر الأتراك العثمانيون على أبواب فيينا عام 1683م. وإن هذه الذكرى لازالت ماثلة وشاخصة للأذهان».
ومادامت هوية العرب هي الهوية الإسلامية؛ فإن الغرب لن يرضى عنهم أبدًا، بل يَنظر إليهم نظرة عداوة وكراهية، ولن يسمح للتنمية أن تنطلق في بلدانهم، بل هو مُصمِّم أن يبقى العالم العربي متخلفًا على كافة الصعد، ولذلك فهو يضع العراقيل والقيود لنقل أسرار التقنية إلى العالم العربي.
كما أن العلاقة بين العرب والغرب علاقة تبعية وليست علاقة شراكة وندية، لأجل ذلك إذا كان العالم العربي يريد النهضة وبناء الذات فليس أمامه إلا حلّ واحد وهو التوجُّه نحو محيطه الإسلامي. وفي هذا المحيط تُعتبر تركيا الآن دولة رائدة وقوية يجب الاعتماد عليها -بعد الله جل وعلا- لتصحيح المسار ودعم التنمية الشاملة في كافة مجالات الحياة.
مشاريع التعليم
تُشكّل مشاريع التعليم إحدى الركائز الأساسية لتطوير العمل الفكري والثقافي والمهني والتنموي بشكل عام في العالم العربي. ونظرًا إلى أن تركيا قطعت شوطًا كبيرًا في عملية الإصلاح التربوي والتعليمي بمكوناته المختلفة، فينبغي أن يستفيد العالم العربي من التجربة التركية لتطوير واقع المدرسة العربية المتردّي بطرق شتَّى تتراوح بين إصلاح المناهج والتدريب المهني.
ويجب على العرب أن يُولوا موضوع المشاريع التعليمية أهميةً كبرى؛ لأن التنافس بين الدول والأمم أصبح يُقاس اليوم بجودة الرأسمال البشري.
على أن المشاريع التعليمية التي ينبغي الاهتمام بها في إطار التعاون العربي التركي من أهمها ما يلي:
1- الاستفادة من مشروع «الفاتح» في تركيا لتطوير التعليم الأساسي في البلدان العربية.
2- تطوير قواعد العمل التعليمي والتربوي وأدواته من خلال لجان علمية وورش وندوات ولقاءات بين الطرفين بصفة مستمرة.
3- مشروع الإسهام في تطوير تعلُّم اللغة العربية في تركيا.
4- مشروع إقامة معاهد لتعليم اللغة التركية في العالم العربي.
5- استفادة العرب من الأتراك لتنمية الرأسمال البشري، ودعم ثقافة التطوير المستمرة في المنظومة التربوية لبلوغ الجودة في التعليم العصري.
على أن التدفق الهائل للمعلومات في عصرنا، وتراكم منتجات البحث العلمي، وتسارع تطبيقات التقنية، كل ذلك يزداد اتساعًا يومًا بعد يوم. والنتيجة العامة لكل ذلك هي تقادم ما بحوزة العرب من معارف ومعلومات؛ فهم في حاجة ماسَّة إذًا إلى تقصير مدة الدراسة النظرية في مدارسهم وجامعاتهم. ومن خلال التنسيق مع الدوائر التعليمية في تركيا سينخرط التلاميذ والطلبة العرب في الأعمال البحثية والمهنية المختلفة، وسيتم إيجاد آليات لتنشيط معلوماتهم وتزويدهم بالمعارف والمهارات التي يتطلبها مجال العمل الذي سيعمل فيه الواحد منهم.
ومن الوسائل الفعَّالة التي ينبغي منحها الأولوية في هذا الشأن: تدريب الشباب العربي في تركيا ليحققوا تغييرًا في معارفهم ومهاراتهم وقدراتهم الذاتية في ضوء متطلبات سوق العمل، وفي ضوء تطلعاتهم المستقبلية للوظائف التي سيقومون بها في بلدانهم العربية. فالتدريب يُشكِّل مدخلاً رئيسًا إلى تحسين الأداء والاستمرار في التفوق وبلوغ الأهداف المرسومة.
ومما لا شك فيه أن التدريب في تركيا سيرتقي بالتعليم والعمل المهني والتقني في البلدان العربية، وسيساعد على تكوين المرونة المهنية لدى التلاميذ والطلبة العرب؛ بحيث يمكنهم الانتقال من مهنة إلى أخرى بحسب الحاجات المتجددة للتنمية والحياة الحضرية. فالتطورات الهائلة للمنتجات التقنية تَفْرض حراكًا اجتماعيًّا ومهنيًّا مكافئًا، وتدريبًا متنقلاً ومتطورًا يراعي حاجة أسواق العمل، وإلا فمن السهل أن تقذف أمواج التطور العلمي والصناعي المذهل بأعداد هائلة من المهنيين والتقنيين خارج سوق العمل، ليجدوا أن تخصصاتهم لم يَعُد لها أيّ فائدة كبيرة.
توطين التقنية في العالم العربي
هناك قضية جديرة بإلقاء الضوء عليها، وهي توطين التقنية في العالم العربي؛ فالغرب بشركاته الدولية الكبرى يعمل على احتكار العلم والتكنولوجيا، ويضع شروطًا صعبة على حركة نقل التقنية إلى العالم العربي. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فإن التقدم التكنولوجي ليس أحد المصنوعات الحديثة التي تُشتَرى بالبترول، وإنما هو حركة أُمَّة تفاعلت مع واقعها، ورأت في تغييره هدفًا منشودًا، وقيادة سياسية لديها إرادة جازمة وعزيمة أكيدة لنقل بلادها من التخلُّف التقني إلى إيجاد الظروف الملائمة لتوطين التقنية فيها.
وفي هذا السياق ينبغي الاستفادة من التجربة التركية لمعرفة كيف انتقلت تركيا من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة صناعيًّا. وهذا يتطلب فتح حوار جادّ مع الدولة التركية لإشراك أكبر عدد ممكن من الفنيين والمهندسين العرب والأيدي العاملة المُدرَّبة، وغيرهم من أهل الاختصاص في المشاريع الصناعية للمساهمة في توطين التقنية في العالم العربي. وهذه العملية يجب أن ترافقها عملية أخرى، وهي وقف هجرة العقول العربية إلى الغرب، وحدوث ما يسمَّى بالنقل المعاكس للتكنولوجيا.
إن العالم العربي يحتاج إلى إعادة تنظيم البحث العلمي فيه، والتركيز على البحوث التطبيقية التي تهدف إلى حلّ مشكلة إنتاجية، أو تطوير مُنْتَج أو إيجاد شكل أو نوع صناعي جديد. وهذا يعني تقليص الدعم للبحوث النظرية التي تعالج قضايا هامشية أو البعيدة عن تلبية الاحتياجات في المرحلة الحالية.
دعم المعرفة الشرعية في تركيا
جدير بالذكر أن تركيا نجحت في المجالين السياسي والاقتصادي نجاحًا كبيرًا، لكنّ حصيلتها في مجال الثقافة والتعليم الشرعي ضعيفة، ولذلك فهي في حاجة إلى المعرفة الشرعية التي تُشكِّل البنية الرئيسة لكل جوانب النشاط الإسلامي على اختلاف مستوياته. وفي البلاد العربية آلاف من المعلمين والأساتذة والعلماء المتخصصين في العلوم الشرعية من توحيد وتفسير وحديث وفقه وأصول فقه...، وهؤلاء إذا تمت الاستعانة بخبرات بعضهم في تركيا للارتقاء بالتعليم الشرعي؛ فإن ذلك سيساعد على تعميم الثقافة الشرعية والقِيَم الإسلامية بين المواطنين الأتراك، مما يُؤهِّل الدولة التركية لإحداث قدر كبير من التماسك الاجتماعي والتماثل في المنطلقات والغايات وبلوغ الأهداف الكبيرة التي تتطلع إليها.
إن التقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الثابت والمتغير؛ ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن قِيَم التنشئة الاجتماعية التي ترتكز على الثقافة الإسلامية الشرعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر وتطوير وسائلها، مع خلق المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.
دعم البعثات العلمية
بالنسبة للبعثات العلمية؛ فقد أثبت التجربة العملية أن البعثات التعليمية العربية إلى أوروبا لم تُفْضِ إلى نتيجة تُذْكَر. ففي العصر الحديث أرسل محمد علي باشا إلى أوروبا طلابًا مُبتعَثين بلغ عددهم 339 طالبًا، منهم 230 إلى فرنسا، و95 إلى بريطانيا، و14 إلى دول أوربية أخرى[1]. وقد ذهب هؤلاء لينهلوا من العلوم التجريبية، ويعودوا بأسباب القوة الاقتصادية والعسكرية؛ لكن عاد كثير منهم يحملون معهم بذور التغريب والعلمانية.
على أن فشل البعثات العلمية العربية إلى الغرب في الماضي والحاضر يعود إلى إصرار معاهد العلم والجامعات في الغرب على أن يُلقِّنوا الطلبة العرب نظريات علمية فقط، دون إطلاعهم على سر الصناعات الدقيقة ومعرفة سرّ قوة الغرب العلمية والتقنية. ولأجل ذلك يجب على الدول العربية أن تُغيِّر سياستها في الابتعاث نحو الغرب، فهي تُهْدِر أموالاً طائلة في مِنَح المبتعثين العائدين إلى بلدانهم بنفع قليل. فالبديل هو ابتعاث الطلاب العرب إلى معاهد العلم والجامعات المرموقة في تركيا، وغيرها من البلدان التي تتجاوز التعليم النظري، وإتاحة الفرصة لهم للحصول على أرقى العلوم في التخصصات المختلفة، والاستفادة من التخصصات العلمية الدقيقة التي يحتاجها العرب لبناء المعرفة والقوة، مثل العلوم الهندسية الدقيقة، وعلوم الصناعة المختلفة، والعلوم الطبية، وعلوم البيئة، والعلوم المالية والمصرفية، ونظم المعلومات والحاسوب، وغيرها من المعارف والعلوم العصرية.
[1] محمد فؤاد شكري: بناء دولة مصر: محمد علي، ص 724-748.