الحرج من ابتغاء العزة  في الإسلام!

والاستئذان من تجمُّعات الأصحاب أو سهرات الزملاء للصلاة على وقتها «تزمّت»، أما إذا كان الإذن للالتزام بوقت التمرين في الصالة الرياضية، فيا لها من همّة!


ما من مسلمٍ اليوم إلا وعاصَر على مدى عمره مذابح ومقاتل ومظاهر تسلُّط تعرَّضت لها مختلف فئات المسلمين في بقاع شتى، بدءًا بفلسطين التي عُمر بلائها يكافئ عُمر أجيال، ومرورًا بالبوسنة والشيشان وبورما، وليس انتهاءً بالهند والصين والسودان.

ومع أن استضعاف بعض فئات المسلمين في شتى بقاع الأرض من الوقائع التي لم يخلُ منها زمان من عمر الأمة المسلمة؛ إلا أن المشكلة في البلاء الأكبر الذي يعمّ الأمة كلها، وهو كونُها في وضعية المغلوب بين الأمم. فكل مظاهر استضعاف المسلمين والتسلط عليهم في مختلف بقاع أرض الله تعالى ليست إلا فرعًا عن تلك المصيبة العامة؛ مصيبة المغلوبية، التي هي حصيلة تراكم على مدى قرون من تخاذل المسلمين عن نصرة إسلامهم، وخجلهم من ابتغاء العزة الخالصة منه وبالكامل فيه، بل وحتى تصديق عدم إمكان ذلك فعليًّا!

المقولة المنسوبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب -عليه الرضوان-: «نحن قَوْم أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ»، دون أن نتفكر كما يجب في معنى وتطبيق مفهوم «ابتغاء العزّة».

والنص الكامل الذي وردت فيه هذه المقولة هو: «خَرَجَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَه أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ، فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ (أي: نهر صغير بين شاطئين)، وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَه، فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ (أي: خرجوا لاستقبالك فشهدوا حالتك هذه)، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ يَقُولُ هذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا! إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ، فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ»[1].

هو ذاك! لقد عوّدنا ألسنتنا ابتغاء العزة بالإسلام شعارات وكلامًا، لكننا فعليًّا نتحرّج من ابتغاء العزة به في مختلف مناحي حياتنا ومناهج تربيتنا ومعيشتنا، حتى رُحْنا نطلب العزة في كل ما عداه، والذي سيكون بالضرورة دونه.

وإن أُولى أنواع النُّصرة الواجبة لله -تعالى- على كل مسلم هي ابتغاء العزة؛ بإقامة أحكام وآداب وتوجيهات هذا الدين العظيم في كافة مناحي الحياة، لا الاكتفاء بالاعتزاز اللفظي والمعنويّ بالانتساب للإسلام مع التوجُّه لإقامة شؤون المعاش على أُسُس أحكام أديان وثقافات أخرى!

وفي كل مرة خجل مسلم من إسلامه، أو تراجَع عن حق من حقوق الله -تعالى-؛ فقد سلَّم موقع تراجعه ذاك لباطلٍ ما، وبهذا أخذت رُقعة البُطلان تتسع، ورقعة الحق تتآكل، حتى سُلِّمَ زمام سيادة الأرض التي استخلفنا الله -تعالى- فيها لتعبيدها له، للكافرين بالله -تعالى- يُعبِّدونها لأهوائهم!

والتراجع عن الحق هنا يُقصَد به كلُّ تخاذلٍ وتكاسل وتهاون في أخذ العمر بقوة ومسؤولية العبودية بجديّة، على المستوى الشخصي كما الجمعي، والتفريط في النفوس التي وهبنا الله -تعالى- إياها أبناء ونواة أجيال لنُعبِّدها له فتركناها نهبًا لمختلف صور الباطل وثقافات الهوى تستعبدها:

- بدءًا من الجهل المشين بما لا يسع مسلمًا الجهلُ به من علوم الدين والدنيا على الأصول الشرعية، مع وجود شذرات معرفة سطحية بمسميات وعناوين التقطها المسلم من هنا وهناك، ويجد منها في نفسه حرجًا لما يَظهَر له أنها تخالف مقتضيات المواثيق العالمية والحقوق الإنسانية وكافة التصورات الحضارية التي أرستها أصول كافرة بالله تعالى! من ذلك -مثلًا- أحكام الرق والاسترقاق، والقوامة والولاية، والقتل وحفظ الحياة... إلخ[2].

- مرورًا بالتفريط في فرائض الله تعالى وحُرماته، تعريجًا على الارتماء على الأرائك في استهلاكٍ لا ينتهي للتسالي الغذائية والمرئية، وإهلاك في المقابل لطاقات العقل والفكر والصحة.

- وليس انتهاءً ببدعة المدارس الدولية، والتخليط بين مناهج الكفر والإسلام في وئام عالمي، على شاكلة المحاكم المختلطة ومدارس التبشير التي خَرَّجت أعلام النهضة والتنوير من المسلمين في العصر الحديث![3].

ودونك أمثلة أبسط من واقع الحياة اليومية، تدل على عقدة شعور المسلمين قبل غيرهم بالحرج من إسلامهم، والخجل من مصطلحات الإسلام ومنطقها الشرعي في مقابل التهليل لنفس المُسمَّى إذا أُلْبِسَ اصطلاح الخواجات، ونبت من منطق الكفار:

- السخرية من سمت اللباس السابغ (الواسع) إذا التزمه مسلم أو مسلمة بدافع تديُّني، بوصفه ينمُّ عن قلة الذوق أو يُشبَّه اللابس بالعجائز؛ حتى ظهرت بدعة المقاس الوافر/الفضفاض oversize لدى الأجانب، فصار موضة مرغوبة trend!

- السخرية من إطلاق اللحية بوصفها تُشوِّه المظهر وتُكدِّر الناظر، حتى إذا ظهرت حركة موفمبر Movember ذات الأصول الأسترالية، والتي أطلق أصحابها الشوارب بهدف التوعية بأمراض الرجال الصحية، طاشت البادرة وصارت موضة تهيج في شهر نوفمبر كل عام، يُطيل فيها الرجال شواربهم، ثم تبعتها اللّحَى؛ وتبعهم في ذلك الهازئون من «إطلاق اللحية» عندما كانت من منطلق السَّمت المسلم!

- والاستئذان من تجمُّعات الأصحاب أو سهرات الزملاء للصلاة على وقتها «تزمّت»، أما إذا كان الإذن للالتزام بوقت التمرين في الصالة الرياضية، فيا لها من همّة!

- ومصطلحات «التدبُّر» و«التفكُّر» عتيقة غير مفهومة ولا منطقية، ولا تتَّفق وإيقاع العصر السريع، أما اليوجا وصلوات التأمل meditation الواردة من بوذا الهند أو كونفوشيوس الصين، فهي فَتْحٌ في كشف خفايا الأنفس والآفاق!

- واستدعاء هذه القواعد التربوية واصطلاحاتها في التعامل مع شجار الأطفال وخلافاتهم: «لا للتنمر no for bullying»، والدفاع عن النفس self-defense، وتخطي الصدمة overcome trauma، وركن الأشقياء naughty corner، في غفلة تامة عن تَرْسانة كاملة من اصطلاحات وآداب وأحكام شرعية متعلقة كالسخرية والهمز واللمز والسبّ والقذف والجرح والضرب...، ومن ذلك قول الله -تعالى-: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]؛ التي لا يكاد غالب النشء المسلم -وإن حفظها- يعرف معنى اللمز والتنابز. وأما السنة النبوية وآداب السلف فعامرة غاية العمران بتوجيهات أخلاقية وقيّمة كثيرة.

وفي المقابل، تجد أهل الباطل بلغت بهم العزّة بالإثم والفخر بوجاهة ما هم عليه، أن يُقعِّدوا القواعد ويسنّوا القوانين والأعراف والمواثيق السارية على الإنسانية جمعاء (لا إنسانهم فحسب)، وتوزيع أطراف الوجود الذي تسلّطوا عليه أرضًا وسماء، ويظل ناسهم أعلى اعتبارًا من بقية الناس، فيُجَرِّمون ممارسة أو يُزيّنونها على ما تجري به أهواؤهم وأمزجتهم (فكان الشذوذ الجنسي مثلًا في زمنٍ ما جريمةً يُعاقَب عليها القانون بالقتل حرقًا أو صعقًا، وهو اليوم ممارسة لها حُرْمَتها!)، ويطيشون كيفما شاؤوا بالعقوبات الجائرة والإعلام المسيء والقوانين الإقصائية في حق «الغير» (وهم المسلمون بالأساس)، ويدعم أهل المصالح والأجندات بعضهم بعضًا، ولو خالفوا -صراحةً- مواثيقهم الدولية التي وضعوها بأنفسهم؛ لأن ناسهم غير ناسنا، والذات عندهم أسبق على الغير[4].

ونحن إلى اليوم ما نزال نحمل همّ ذلك «الغير» و«الآخر» في كل حركة للذات، تحت أوهام التصالح والتعايش السلمي الذي لم ينخدع به غيرنا، ولن يجد طريقه للتحقق في ضمن منظومة موضوعة أصلًا لمنعه حقيقة، وإن ادّعت غير ذلك ظاهرًا! وذلك أنه لا تصوّر تشريعي منصف ومحيط يصلح لاجتماع البشر أجمعين إلا ما أقرَّه ربّ البشر أجمعين.

وإذا كان الإلحاد ظاهر العداوة للألوهية، فالإنسانوية تأليه للإنسان، والعلمانية ترقيع دبلوماسي بين الاثنين، والكل باطل يخالف الحق ويَخافُه، ويعادي وجوده باطنًا بالضرورة، مهما ادّعى ظاهرًا التحرُّر و«اللااكتراث».

وكان من كلام سيدنا عليّ -رضي الله عنه-، في خطبته المشهورة: «فيا عَجَبًا من جِدّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقُبحًا لكم وتَرَحًا (أي: طول الحزن)، حين صرتم هدفًا يُرمَى، وفَيئًا يُنتهَب، يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغْزَون ولا تَغزُون، ويُعصَى الله وترضون!»[5].

ولئن كان -عليه الرضوان- قد عجب من فشل أهل الحق عن القيام بحقه في زمانه، فكيف لو شهد زماننا؟!

حقًّا، عجبًا وأيّ عجب؟! وتَرَحًا، وما أطوله من تَرَح!


 


[1] الحاكم النِّيسابوري: «المُستَدْرَك على الصحيحين» - كتاب الإيمان - قصة خروج عمر إلى الشام وقوله: «إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزة بغيره».

[2] لتفصيل تفنيد وتصحيح هذه التصورات، يُراجع كتاب «الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة» للمؤلفة.

[3] راجع: محمد وفيق زين العابدين: «تطبيق الشريعة بين الواقع والمأمول»، و محمد محمود شاكر: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا»، و عبد الوهاب المسيري: «فكر حركة الاستنارة وتناقضاته».

[4] راجع: عبد الرحمن حبنكة الميداني: «أجنحة المكر الثلاثة». و السكران: «سلطة الثقافة الغالبة».

[5] الشريف الرّضيّ: «نهج البلاغة».

أعلى