ما تعيشه الأُمَّة في الآونة الأخيرة من هول المشاهد الدّامية -في غزة وغيرها- ما هو إلا أصلٌ في تلك النفوس «السامية»! فاستقراء هذه الأحداث يجعلنا في رحاب مؤتمر مفتوح، كلٌّ يُفْضِي ويُفَضْفض، ومنّا مَن يُجوِّد، وفينا مَن انكسر صوته، ولأجل هذا تكتب الأقلام وتُخطّط السطور.
كتاب «مؤتمر تفسير سورة يوسف عليه السلام» بقلم كاتب سر المؤتمر الأستاذ العلامة الشيخ عبدالله العلمي الغزّي الدمشقي (1862-1936م)، والكتاب يتكون من جزأين، طبعة دار الفكر بدمشق، 1961م.
فالأستاذ عبدالله العلمي وُلِدَ في بلدة غزة هاشم سنة 1279ه-1862م من بيت المجد والشرف، ومن أسرة مشهورة بالعلم والصلاح. والرجل مشهودٌ له بأخلاقه ومزاياه العلمية؛ فهو رجل عِلْم وتجديد؛ فقد كان مفسِّرًا لكتاب الله، ومجتهدًا وصاحب آراء سديدة، متمرِّسًا في علم الجدل والمناظرة، ورابع المصلحين وقادة النهضة في بلاد مصر والشام، إلى جانب الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ جمال الدين القاسمي.
كما أنه تقلَّد مناصب عدة في حياته لم تُغْنِه عن التأليف، فكانت له مؤلفات مطبوعة؛ منها: «البصيرة على بيتي الجبيرة في مذهب الإمام الشافعي»، وكتاب «الإلماع على بيتي الرضاع في مذهب الإمام الشافعي»، وكتاب «البرق الوامض في شرح متن الفرائض»، المشهور بـ«الرحبية»، بالإضافة إلى عشرات الكتب والمخطوطات[1].
أما هذا الكتاب -محل هذا المقال- فهو كتاب فريد من نوعه في طرحه وموضوعه، فالكتاب يُوحي من عنوانه «مؤتمر تفسير سورة يوسف» على أنه يجمع، في فصوله، بحوثًا لعددٍ من المشاركين، محور دراستهم قضايا متنوّعة كلها تصبُّ في دراسات قرآنية حول سورة يوسف -عليه السلام-؛ غير أن رئيس المؤتمر ومجموع الباحثين ومُحرِّر الكتاب ومُخرجه إلى النور هو رجلٌ واحدٌ؛ ذلك الرجل الربّاني الشيخ «عبدالله العلمي» الذي عقد لنفسه مؤتمرًا افتراضيًّا في المسجد الأقصى داخل أسوار مدينة القدس، ودعا إليه عددًا كبيرًا من علماء الأُمَّة وأعلامها من شتَّى البلدان والأمصار والهيئات والتخصُّصات للاشتراك في تفسير هذه السورة.
وافترض لأعضاء المؤتمر أسماء رمزيةً منسوبةً إلى بلادهم أو تخصُّصاتهم، وجعَل نفسه سكرتيرًا أو رئيسًا للمؤتمر، يقرأ ما يستوجب قراءته، ويُفسِّر الآيات، ويُحيلها إلى مصدرها، أو ينسب التفسير لنفسه تحت عبارة «خذ ما آتيتك»، أو «وإليك البيان، وهو من مواهب الرحمن»، أو «ونحن نقول»، أو «فافهم»، أو «فافهموا».
وأفضى في سرد الدراسات والتحليلات والنقاشات؛ فتجده إما يُشاطرها الرأي، أو يُبادر بالتعليق عليها، أو الرد عليها بالحجّة والبرهان. ومن ميزات هذا الرجل الرّباني: أنه أشرَك المرأة المسلمة في بيان رأيها، مُراعيًا مكانتها في الإسلام، ومقتديًا بما جرى عليه العهد في زمن النبوة والخلفاء الراشدين.
فكان الهدف الأول لهذا العالِم الجليل من هذا الكتاب النهضةَ بالأُمَّة، وتَبيُّن وكَشْف ما يمكن أن يكون مستورًا أو محجوبًا، أو لم تلتقطه عقول وأقلام المفكرين. ودافعه الأخير يَنْبُع من عقيدة صحيحة وشعور بالمسؤولية، وإيمان بقضية الأُمَّة التي نعيش آلامها اليوم، ونتخبَّط في سُبل الدفاع عنها.
وجاءت المباحث متنوِّعة؛ من تاريخية، وأدبية، ولغوية، وأخلاقية، واجتماعية، بتحقيقات علمية ودينية وتفسيرية، مع ردود على الشبهات بصفة عامة، وشبهات دعاة النصارى بصفة خاصة.
فما ذكر نبيًّا أو شخصيةً مُؤثّرة إلا وأحاطها بنبذة تاريخية وتحقيقات علمية.
أضف إلى ذِكْر الناسخ والمنسوخ، والمتشابهات في القرآن الكريم، وجمع القرآن، وترجمة معانيه، وأهمية اللغة العربية باعتبارها لغة عالمية، وذكر مقابلات بين آيات سورة يوسف والتوراة... وما إلى ذلك من قضايا استطرد فيها بفتح ربَّاني وغزارة عِلْم ودفاع عن الحق وإحقاقه.
فهذا الكتاب جدير به أن يكون مرجعًا يُدرِّسه العلماء اليوم، وينشغل به طلبة العلم المهتمّون بدروس الدين وأصول التفسير والجدل والحِجَاج الديني، ويُلقي منه الخطباء والوعاظ والمدرسون والأدباء والمرشدون من مقالاته وعِبَره وحِكَمه الكثير. فهو يُعين على توجيه المفكرين والمثقفين بأسلوب علمي هادف.
وكتوصيف آخر للكتاب وأنت تستقبله بين يديك تشدّك واجهته التي تخالف عُرْف الكُتّاب، واجهة تحمل عنوان الكتاب، وتليها نصيحة بما تحمله من مرادفات الإشعار والإنذار والإخطار والنصح والحكمة.
نصيحة مرسومة كالتالي:
مؤتمر تفسير سورة يوسف -عليه السلام-، وفيه بيان طبائع الصهيونيين، وأن طبائع الآباء موروثة في الأبناء.
كشف حال اليهود، وعبرة أهالي فلسطين.
يا أهالي فلسطين! ويا أيها العرب والمسلمون! اقرؤوا هذه المحاضرات على سورة يوسف؛ تعرفوا ما انطوى عليه الصهيونيّون ممّا ورثوه من أصولهم.
وبعدها مباشرة إهداء قصير فحواه:
«إلى ملوك الاسلام ورؤسائه وأُمرائه وعلمائه الأحياء منهم والذين هم عند ربهم يُرزقون».
وبهذا حدّد هدف الكتاب والفئة المستهدَفة منه.
وقد انتهى المؤلّف -رحمه الله- من تأليفه في حوالي عام 1355ه/1936م، ولم يُنْشَر إلا بعد 24 سنة.
نسأل الله له الثواب وجزيله؛ فـ«مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ»[2].
[1] يُنْظَر: التعريف بمؤلف الكتاب، مؤتمر تفسير سورة يوسف، الجزء الأول، ص: 24-25.
[2] رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم (2699).