حتى تكون منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي وسائل دعوية ناجحة

ليس كل ما يستحسنه الداعية أو يراه طريفًا يَحْسُن به أن ينشره، لا سيما إذا كان البعض سيَفْهَم منه فهمًا خاطئًا عن بعض القضايا الإسلامية


شهد العصر الحديث ظهور عدة وسائل للتواصل الاجتماعي، يتم استخدامها عبر الهواتف الذكية والأجهزة التقنية لدى كثير من الناس، وكان من أهمها: الفيس بوك، ومنصة إكس، وتطبيق الواتس آب، وغيرها. وتُعدّ تلك المنصات والتطبيقات من وسائل الدعوة في العصر الحديث؛ فهي وسيلة متاحة طوال ساعات اليوم، وتصل لأكثر طبقات المجتمع، ويستطيع الداعية توصيل دعوته لعددٍ كبيرٍ من الناس عبر كتابة المنشورات والتعليق عليها، وإعادة نشر ما ينشره غيره، ونسخ المقالات النافعة ونشرها عبر صفحته.

ولا شك أن منصات التواصل الاجتماعي كان لها دور مشكور وأثر مذكور عندما استخدمها كثير من الدعاة وطلبة العلم في الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الثقافة الإسلامية الهادفة، وتوعية الناس بما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم؛ فكان لتلك الوسائل دور مؤثر، وعرف الناس الكثير من الواقع الغائب عنهم، وانتشرت الإيجابية لدى الكثير من الناس، وشاركوا في دعم كثير من الفقراء والمساكين عبر الاستجابة لنداءات الجمعيات الخيرية وفاعلي الخير.

لكن الخطاب الدعوي في منصات التواصل الاجتماعي يغاير الوسائل الدعوية التقليدية؛ فالدعوة عبر الفيس بوك مثلاً ليست كخطبة الجمعة التي يحضرها عدد محدود، وليست كالرسائل الهاتفية التي تُرسل لفئة محدودة، بل هي وسيلة تصل للكثير من الناس مما يُعرَف ومما لا يُعرَف، والمدعوون بها في الغالب لا يُعرَف حالهم ولا ثقافتهم، مما يتطلب دراسة لهذه الوسائل الدعوية المستحدثة، والنظر لأخطارها قبل مميزاتها، والتأمل في عواقب استخدامها.

 وهناك عدة ضوابط ينبغي للداعية أن يراعيها في دعوته عبر تلك المنصات؛ حتى تؤتي دعوته ثمارها، وحتى يتجنب الكثير من أضرار هذه المنصات. وفيما يلي نذكر عددًا من تلك الضوابط في النقاط التالية:

1- الدعوة عبر الفيس بوك ومنصة إكس دعوة عامة تشبه خطبة الجمعة؛ فالداعية يُخاطب عددًا من الناس يختلفون في ثقافتهم وعقولهم وأفهامهم، فمنهم طالب العلم المتمكن، ومنهم العامي، ومنهم الوسط، فلا يصلح معهم خطاب واحد في القضايا الإسلامية العميقة التي يكون فيها عدة إشكالات لا يفهمها بعضهم، بل قد تكون فتنة لبعضهم، وكلام العلماء معلوم في التحذير من الحديث في بعض الأمور التي لا يفهمها البعض؛ حتى لا تكون فتنة لبعضهم، فيُكذّبون الله ورسوله.

فمن الحكمة ألّا يُحدّث الداعية جميع الناس بما لا يعقلون؛ حتى لا يُكذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد يُحَدِّث المرء بعض الناس ببعض الأمور مما لا تبلغه عقولهم، فيكون حديثه لهم فتنة. وإن الكَفّ عن ذِكْر تلك النصوص المُشْكِلَة ليس من باب كتم العلم، بل هو من الحكمة في البيان، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ففي صحيح البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ، قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ»، قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا»[1].

 وفي مقدمة صحيح مسلم عن عَبْد اللهِ بْن مَسْعُود -رضي الله عنه-، قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة»[2].

وَقَالَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه-: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[3]؛ فجميع هؤلاء يحتاجون لخطاب واضح يبتعد عن القضايا التي حدث فيها اختلاف، فيدعوهم للقضايا التي تُوحِّدهم وليس فيها إشكال، مثل موضوعات: إقامة الصلاة والخشوع فيها، والصيام والصدقة، والدعاء، وبرّ الوالدين وصلة الرحم، وتدبُّر القرآن وحسن الظن بالله ...، مع ذِكْر الأدلة من القرآن والسنة ومن كلام العلماء.

2- ليس كل ما يستحسنه الداعية أو يراه طريفًا يَحْسُن به أن ينشره، لا سيما إذا كان البعض سيَفْهَم منه فهمًا خاطئًا عن بعض القضايا الإسلامية؛ فينبغي للداعية أن يُفتّش في كتب التراث عما يصلح للنشر ولا يتعارض مع أصول الإسلام، ولا يُفهَم خطأ؛ فهذا من الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى.

3- ينبغي للداعية أن يراعي واقع المدعوين في تلك المنصات، فالناس على تلك المنصات يسأمون كثيرًا، ولا يصبرون على قراءة المنشورات الطويلة، بل يريدون منشورات قصيرة جدًّا، لكن ينبغي أن تكون تلك المنشورات القصيرة واضحة مفهومة، بحيث لا تكون قصيرة مُخِلَّة ولا طويلة مُمِلَّة.

4- إذا أراد الداعية أن يكون له خطاب خاص في بعض القضايا التي لا يفهمها عامة الناس، ليكون الخطاب فيها لبعض الصفوة؛ فلينشئ لهم مجموعة (جروب)، وليجعل الاشتراك في تلك المجموعة لمن يعرفه معرفة شخصية، ليكونوا ممن يفهمون الخطاب في تلك القضايا الشائكة.

5- ابتعاد الداعية عن نقد الدعاة المشهورين الذين لهم سَهْم في الخير ونشر الدعوة ولهم أثر مشهود، وإن كان عندهم بعض الأخطاء غير القادحة؛ حتى لا يُنفِّر الناس من خطابه فيتركون متابعته، وإن أراد تبيين خطأ هؤلاء فليركز على الفعل وليس الفاعل، فهناك عدد من الدعاة لهم ذِكْر حَسَن ومكانة طيبة لدى الجماهير، فلا ينبغي نقدهم؛ حتى لا ينفر الكثير من الناس من دعوته.

6- إذا احتاج الداعية لخطاب خاص في بعض القضايا المُلِحَّة التي لا ينفع فيها الخطاب العام، وإنما تحتاج لخطاب خاص عاجل لا يفهمه أكثر العامة؛ فليجعل خطابه بسيطًا وسهلاً وواضحًا، ويعضده بضرب الأمثلة، وليعد نفسه للرد على التعليقات ليُوضّح المبهم في خطابه، ويكشف المشكل من حديثه.

7- تجنُّب الغموض في الأسلوب، والبُعد عن المجاز في الحديث والتورية والكناية في الخطاب؛ حتى لا يفهم الناس حديثه على غير حقيقته، فبلاغ الداعية ينبغي أن يكون بلاغًا مبينًا واضحًا لا غموض فيه، مثل بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلاغُ الْـمُبِينُ} [النور: 54]، والداعية يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم  في دعوته، وفي أسلوبه الدعوي.

8- من أهم القضايا التي ينبغي للداعية العناية بها في دعوته عبر منصات التواصل الاجتماعي: العناية بالإخلاص لله تعالى في قوله وفِعْله؛ فهذه المنصات تُدْخِل المرءَ في فتنة الشهرة والأضواء والرياء والاستكثار من المتابعين والمعجبين، وهذا يتطلب من المرء مجاهدة النفس في تحقيق الإخلاص ومراجعتها ومحاسبتها، والإخلاص من أشق الأعمال على النفس البشرية.

9- من أهم القضايا التي يحتاجها الداعية في دعوته: العناية بالعلم وطلبه، ومراجعة فتاوى العلماء في القضايا المختلفة، لا سيما المعاصرة منها؛ حتى يكون خطابه في تلك المنصات على هداية ونور، ويبتعد عن الترخُّص المذموم، ولا يفتح للناس الباب في ذلك.

10- ينبغي للداعية أن يكون شديد الرفق والصبر، حليمًا واسع الصدر، واسع الأفق، ويتأنى في خطابه ومواقفه وردوده، فينبغي للداعية تجنُّب كلّ قول ومنشور وتعليق فيه تنفير للناس عبر صفحته على منصات التواصل الاجتماعي.

11- منصات التواصل الاجتماعي في الغالب فتنة عظيمة تُلْهِي المسلم عن ما ينفعه، وتشغل وقته، وتضيع عليه القيام بمصالحه والعناية بشؤونه، فليحذر الداعية من الافتتان بتلك المنصات، وليكن قدوة صالحة في الانتفاع بتلك المنصات ونفع الآخرين، والحذر من الافتتان بها، وتحذير الآخرين من تلك الفتنة.

12- الاهتمام بالتوريث الدعوي، فينبغي للداعية أن يسجّل تجربته الدعوية التي قام بها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وينشرها للناس؛ ليستفيد الدعاة بها من بعده، ولا ينبغي أن يقتصر نشرها في منصات التواصل، بل ينشرها في كتاب ورقي وآخر إلكتروني.

13- ينبغي للداعية أن يحتفظ بأصل منشوراته لديه؛ حتى يستطيع إعادة نشرها عبر المنتديات والمواقع الإلكترونية، أو يجمعها لاحقًا في كتاب إلكتروني أو ورقي ينفع الناس.

إن منصات التواصل الاجتماعي فرصة عظيمة للدعوة إلى الله تعالى؛ إذا استطاع الدعاة استغلالها جيدًا، وراعوا الضوابط الدعوية، وتجنبوا المحاذير الشرعية؛ ليكون لها أثر حَسن على الناس وعلى مسار الدعوة.

رزقنا الله وإياكم الإخلاص والعمل الصالح.


 


[1] صحيح البخاري، ج 1، ص38، ح129، كتاب العلم، بَابُ: مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا. ط دار طوق النجاة عام 1422هـ.

[2] صحيح مسلم، ج1، ص11، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نسخة برنامج المكتبة الشاملة.

[3] صحيح البخاري، ج1، ص37، ح 127، كتاب العلم، بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا، مرجع سابق.

أعلى