النظرية التربوية  عند المفكر النمساوي (محمد أسد)

يُسهب (أسد) في تتبُّع الأثر السلبي للتقليد على الحياة الاجتماعية والنفسية للمسلمين، نافيًا صحة الاعتقاد بأنه قد يكون أحد أهم الحلول للخروج من الأزمة، بل على العكس يفاقمها ويصعّد من آثارها


المفكر النمساوي (محمد أسد) -أو «ليوبولد فايس» قبل أن يُشْهِر إسلامه، ويُغيِّر اسمه- صاحب مشروع فكري وسياسي كبير، تردد كثيرًا بين أروقة السياسة ومنعطفاتها، منطلقًا في ذلك من منطلقات فكرية وإصلاحية واضحة، وعلى الرغم من اهتمامه البالغ بالجانب السياسي، والسياسي الشرعي على وجه الخصوص، ومحاولاته الدؤوبة لإنشاء دستور إسلامي لدولة باكستان بعد استقلالها في بدايات القرن الماضي، ونضاله الكبير في سبيل تحقيق الاستقلال وإنشاء هيكلية فكرية وإدارية منظِّمة للدولة؛ إلا أن ذلك لم يشغله عن الاهتمام بجوانب تربوية وفكرية وفلسفية مهمة في تكوين ناشئة المسلمين، لا سيما في الغرب، فخَصَّص أجزاءً من أطروحاته لمعالجة قضايا تربوية في غاية الأهمية كان يراها لبنة أولية في بعث الأمة الإسلامية؛ ابتداءً من جذور العملية الإصلاحية التي تهتم بالإنسان منذ كان مجرد نبتة صغيرة مزروعة بعناية في حقل أسرته الصغيرة، لينطلق منها فاعلاً مؤثرًا في أسرته الكبيرة (المجتمع).

الاهتمام الأساس لـ(محمد أسد) كان موجهًا للإنسان الغربي المسلم، الذي تشبَّع بالنمط الأوروبي في الحياة، ويراه النموذج الأسمى الذي ينبغي اتباعه والاحتذاء به في كافة المجالات؛ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية؛ وذلك بحكم نشأة هذا الإنسان المسلم في الغرب، فالنشأة لها أثر كبير في ترسيخ القناعات والمفاهيم والمبادئ؛ لذا وضع (أسد) على عاتقه تصحيح هذه المفاهيم لدى المسلم الغربي على وجه الخصوص، وإيضاح مدى تعارض الفكرة والفلسفة الإسلامية الأصيلة مع هذا النموذج والتصور الغربي للحياة.

النمط الغربي في التربية.. أحد أذرع الغزو الفكري:

في كتابه الأول بعد إسلامه «الإسلام على مفترق الطرق»، والذي يُعدّ أحد أهم كتبه على الإطلاق، قعَّد (أسد) لفكرة الغزو الفكري للحضارة الأوروبية، وحذَّر من الخطر القادم من الغرب، ليس الخطر العسكري بقدر ما هو الخطر الاجتماعي والمفاهيمي والقيمي، هذه التحذيرات المبكرة كانت في ثلاثينيات القرن العشرين، استشرف فيها (أسد) واقع العالم الإسلامي الآن، وقد أصاب في ذلك أيما إصابة؛ فـ«ألّف هذا الكتاب بهدف استعراض الآتي: أولاً: الاختلافات الجوهرية بين الإسلام والحضارة الغربية. ثانيًا: إن تقليد المسلمين للمفاهيم والأساليب الاجتماعية الغربية سيقضي حتمًا على استمرارية الإسلام كبرنامج اجتماعي ومُنتِج للثقافة. ثالثًا: دور السُّنة في التركيبة الفكرية للإسلام. رابعًا: إنه لا يمكن أن يكون هناك مستقبل للإسلام والمجتمع الإسلامي إلا إذا كان مختلفًا عن أساليب بقية العالم»[1].

ينتقد (أسد) في هذا الكتاب نظام التربية الغربي الذي يعتمد عليه بعض المسلمين المفتونين بالغرب، ويعزو إلى هذا النظام الغربي ظاهرة الانهزام النفسي التي يعاني منها المجتمع الإسلامي، بل ووصل ببعضهم إلى التشكُّك في منهجهم الرباني النقي الخالص، متسائلاً: «كيف نستطيع أن نتوقع أن تظل تنشئة أحداث المسلمين على أسس غربية -تلك التنشئة القائمة في مجموعها على التجارب الثقافية الأوروبية وعلى مقتضياتها- خالصة من شوائب العداء للإسلام؟!» وأضاف: «إن التنشئة الغربية لأطفال المسلمين ستُفضي حتمًا إلى زعزعة إرادتهم في أن يعتقدوا أو أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم هم ممثلو الحضارة الإلهية الخاصة التي جاء بها الإسلام، وليس ثمة من ريب في أن العقيدة الدينية آخِذة في الاضمحلال بسرعة بين «المتنورين» الذين نشأوا على أُسس غربية»[2].

لم يكن (أسد) رافضًا ولا لافظًا للعلوم الغربية التجريبية التي برع فيها الغرب، بل على العكس كان متقبّلاً لها، حاثًّا على النهل منها، ويرى ذلك نوعًا من التبادل الحضاري المفيد؛ إلا أن موقفه العدائي تكوَّن لديه تجاه البيئة والجوّ العام اللذين يُمارَس فيهما تدريس تلك العلوم في مدارس العالم الإسلامي وجامعاته ومحاضنه، أو بمعنى آخر أسلوب التنشئة الغربي الذي يُغذّي وجدان الناشئة المسلمين، ولا يكتفي بملء عقولهم فحسب، هذا ما كان يرفضه (أسد)، ويبالغ في رفضه؛ نظرًا لأثره السلبي النفسي والاجتماعي في عملية الصقل الأولية للناشئين.

يقول (أسد): «إلا أن الذي يتعلق بالغالبية العظمى من البشر العاديين أن الإيمان والكفر عندهم يفصل فيهما الجو الذي نشأوا فيه؛ من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه»[3]. إِن التعبير «أبواه» يمكن منطقيًّا أن يتناول البيئة العامة التي تتحكم في تطوُّر الطفل، وليس لأحد أن يتردد في الاعتراف -والحالة الحاضرة على ما هي عليه من الانحطاط- بأن الجو الديني في كثير من بيوت المسلمين قد بلغ من التدني والانحلال الفكري حدًّا أخذ يثير في الأحداث الناشئين عوامل الإغراء الأولى لأن يُولُّوا الدين ظهورهم، وهذا يمكن على التحقيق أن يكون كذلك. أما في حال تعليم ناشئة المسلمين على أُسس غربية فإِن التأثير سيكون على الأرجح موقفًا عدائيًّا من دينهم)[4].

لم تكن التربية الغربية عند (أسد) مجرد تدريس محايد للعلوم التي برع فيها الغرب حاليًّا، والتي كان الإسلام أبلغ الأديان في التشجيع على تعلُّمها ودراستها والتعمق فيها، والتي لم تتحقق على مدى التاريخ حضارة ونبوغ وتفوق علمي كما حدث في العهد الإسلامي السابق، وهذا مقرَّر ومكرَّر في هذا الكتاب، وإن أوروبا نفسها تعلم ذلك وتعترف به؛ فهي مَدِينة للإسلام بتلك النهضة جميعها[5]، إلا أن البيئة المحيطة بعملية التعلم هي التي تُشكّل الفارق في التربية؛ لذا كان (أسد) معترضًا بقوة على إيلاء الأولوية لولوج الدارسين لحقول الفلسفة الغربية والأدب الأوروبي، خاصةً في المراحل الأولى لعملية التعلم؛ حيث يقول: «ولو طُلب إليَّ أن أقترح شيئًا على لجنة تعليمية مُثلى تُسيِّرها الاعتبارات الإسلامية وحدها لحثثت على أن تختار من جميع النتاج العقلي في الغرب: العلوم الطبيعية -مع الاحتفاظ بالموقف الآنف الذكر- والرياضيات؛ لتعلّمها في المدارس الإسلامية. أما تعلم الفلسفة الأوروبية والأدب الأوروبي والتاريخ العام من وجهة نظر الغرب، فيجب ألا يكون في المرتبة الأولى من برامج التعليم. إِن الموقف من الفلسفة الأوروبية يجب أن يكون واضحًا منذ البداية»[6].

ويمكننا من خلال طرح (أسد) أن نُسقط على الواقع الآن ما سبق أن حذّر منه، وذلك على سبيل المثال بالنظر في منهجية المدارس والأكاديميات والجامعات الدولية الخاصة التي انتشرت في ربوع العالم الإسلامي، والتي تتبنَّى المناهج الغربية الشاملة في مؤسساتها ومحاضنها التربوية (أمريكية - بريطانية - ألمانية...) وغيرها؛ فإنها لا تكتفي بعملية تدريس مجردة للعلوم الرياضية والطبيعية الغربية وغيرها، وإنما تُرسّخ في روح الناشئة أسلوب حياة متكاملاً، وتزرع الناشئ في بيئة غربية موحَّدة وقاهرة، وتنأى به تمامًا عن بيئته العربية والإسلامية، فيتغذّى ضميره ووعيه على القِيَم والمبادئ الغربية قبل أن يتغذى عقله على علومها ومعارفها، وقبل أن تتشرب روحه مبادئ الإسلام وقِيَمه وتعاليمه الاجتماعية، فيما تتأصل لديه قواعد اجتماعية مغايرة لما أصَّل عليه الإسلامُ حياةَ الناس، فترسم صورًا ذهنية جديدة مضادة للمنهج الإسلامي عن العديد من الظواهر إيجابًا وسلبًا، فينشأ الطفل والشاب اليافع على قبول ما رفضه الإسلام ورفض ما يقبله ويجعله من دعائمه، وتبنّي النمط الغربي في الحياة بصورة عامة.

الدرس الأدبي الغربي.. غزو لعقول الناشئة:

يستطرد (أسد) في بيان مغبّة الدراسات الأدبية الغربية في البلدان الإسلامية، وضرورة عدم التعمق في دراستها، لا سيما في مراحل التنشئة الأولية، بل الاكتفاء بالدرس اللغوي الذي يُتيح فقط للدارس التعرف على الصفة التشريحية للجثمان الأدبي فحسب، ويُجنّبه الافتتان بجسده المثير، فيقول: «أما الأدب فيجب علينا بكل تأكيد ألا نُحرِّم دراسته، وإنما يجب أن تُرَدَّ دراسته إلى حدود قيمتها الحقيقية، أي اللغوية، فالطريقة التي تجري عليها معالجة الأدب الأوروبي وتدريسه في البلاد الإسلامية تدور -ونقول ذلك صراحةً- مع الهوى. إن الإغراق الذي لا حَدّ له في قدر قيمته يحمل العقول الناشئة الغضَّة على أن تتشرّب روح المدنية الغربية بثقة عمياء واندفاع كبير قبل أن يُتاح لها أن تعرف النواحي السلبية فيها معرفة كافية، وهكذا لا تكون الطريق مُعبَّدة لحبّ ذلك الأدب حبًّا عُذريًّا فقط، ولكن لتساعد على التقليد العملي لتلك المدنيّة الغربية التي لا يمكن أن تتفق مع روح الإسلام»[7].

فالآداب والفنون مكوّن رئيسي ومهم من مكونات الهوية، وأساس من أساسات النظام الفكري للأمم وأبنائها، خاصةً في مراحل التنشئة البدائية في الطفولة والمراهقة؛ لأنها تنفذ بصورة مباشرة إلى الوجدان والعقل اللاواعي فتُشكلهما وتصبغهما بصبغتها، وإقحامها بهذه الطريقة في المناهج الدراسية من شأنه أن يجعل أفكارها بديلاً للأفكار والقِيَم الإسلامية، التي ينبغي أن يُربَّى عليها النشء المسلم في هذه المرحلة الفاصلة من حياة الطفل، ويخلق لديه حالة من التعلق بها وإقصاء الأساس المنهجي الإسلامي الذي ينبغي أن يكون في بؤرة الاهتمام والتأثير؛ لأنها -في هذه الحالة- تتمدد في فراغ أو فراغ وجداني نِسْبيّ لم يُشغل بعدُ بالنظام الفكري الأساسي الذي ينبغي أن يُشغَل به.

نقطة أخرى يلفت (أسد) إليها الانتباه هنا عن الأثر السلبي لدراسة الأدب بهذه الصورة التي ذكرها؛ ألا وهي: زرع فكرة متأصلة في العقل الغربي، وهي فكرة (التفوق العنصري للجنس الأبيض)، وزَرْعها في العقول الإسلامية؛ فالرجل الأوروبي لديه اعتقاد لا يتزعزع بأن الشعوب الغربية ومدنيتها أرقى من كل جنس جاء أو سيجيء إلى هذا العالم، وهذا يخلق مبررًا أدبيًّا لا شعوريًّا لسعي الأوروبيين للسيطرة المادية، لا يخلق السعي للسيطرة فحسب، وإنما يخلق المبرّر له، ويزرع هذا المبرر في العقول الإسلامية أيضًا، وهذا يخلق لديها نوعًا من الاستسلام الداخلي والقابلية للاستعمار والشعور بالتقزّم، فكأن العالم قد أُوجد من أجل أوروبا ومدنيّتها فحسب!! يقول: «أما التأثير الوحيد الذي يمكن أن يتركه مثل هذا التثقيف التاريخي في عقول الناشئة عن غير الشعوب الأوروبية فإنما هو شعور هذه الشعوب بالنقص بما يتعلق بثقافتهم الخاصة وبماضيهم التاريخي الخاص وبالفرص السانحة لهم في المستقبل. وهكذا يتربون تربية منظمة على احتقار ماضيهم ومستقبلهم، اللهم إلا إذا كان مستقبلاً مستسلمًا للمُثل العليا الغربية»[8].

نعود هنا لنكرّر ونؤكّد أن (أسد) لم يرفض الاستفادة المنضبطة من الحضارة والعلوم الغربية، فهي وسيلة للتلاقح الحضاري والتأثير المتبادل الذي هو سُنَّة من سُنَن هذه الحياة، وإنما كان رَفْضه مُوجّهًا للعملية التربوية والاجتماعية المصاحبة لهذا الدرس التعليمي، والتي تتطلب السيطرةُ عليها تدابيرَ متخصصة من خبراء على قدرٍ عالٍ من الكفاءة لضبط هذه العملية وجعلها مقتصرة فقط على الجانب العلمي دون إحداث تأثّر اجتماعي ونفسي بالنمط الغربي الذي يمسخ الهوية الإسلامية[9].

تقليد المظاهر الغربية وصناعة الهوية الحضارية:

في الفصل الخامس من كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) تحدّث (محمد أسد) عن فلسفة التقليد، وقد جاء ترتيب هذا الفصل في هذا الموضع منطقيًّا إلى حد كبير؛ فحديث (أسد) عن التربية الغربية وأثرها السلبي في تنشئة أحداث المسلمين لا بد أن يتفرع عنه حديث عن تقليد المسلمين للثقافة الأوروبية ونمط الحياة الغربي، وخطره على الحضارة الإسلامية، وتسبُّبه في اضمحلالها وانزوائها، وقد مهَّد لذلك بالفعل في الفصل السابق لهذا الفصل.

وإن كان (أسد) مُرحِّبًا بالعلوم الغربية والتعلم منها، كما استعرضنا ذلك في المقال السابق؛ فإنه هنا يُشدّد على مساوئ استنساخ الحياة الأوروبية الاجتماعية في الحياة الإسلامية، ويصفه بالمرض الذي أصاب المسلمين، والذي يمتد لبضعة عقود سابقة، ويتصل بالهزيمة النفسية التي أصابتهم جراء افتتانهم بالتقدم والقوة المادية لدى الغرب.

يُسهب (أسد) في تتبُّع الأثر السلبي للتقليد على الحياة الاجتماعية والنفسية للمسلمين، نافيًا صحة الاعتقاد بأنه قد يكون أحد أهم الحلول للخروج من الأزمة، بل على العكس يفاقمها ويصعّد من آثارها، فيقول: «إِنّ السطحيين من الناس فقط يستطيعون أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنيّة ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت نفسه بروحها. إن المدنية ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنها نشاط حي، وفي اللحظة التي نبدأ فيها بتقبُّل شكلها تأخذ مجاريها الأساسية ومؤثّراتها الفعّالة تعمل فينا، ثم تخلع على اتجاهنا العقلي كله شكلاً معيّنًا ولكن ببطء ومن غير أن نلحظ ذلك. ولقد قدّر الرسول هذا الاختيار حق قدره حينما قال: «مَن تَشبَّه بقوم فهو منهم». وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبية فحسب، بل هو تعبير إيجابي يدل على أنه لا مفرّ من أن يصطبغ المسلمون بالمدنيّة التي يقلدونها. ومن هذه الناحية قد يستحيل أن نرى الفرق الأساسي بين المُهِمّ وبين غير المهم في نواحي الحياة الاجتماعية»[10].

فالتقليد والتشبه ليسا مجرد أفعال ظاهرية، وإنما هي حالة نفسية مُركَّبة تتلبس المقلِّد، فتحوِّل حياته الاجتماعية إلى حياة مَن يُقلّده، وبالتالي فإن القول النبوي: «فهو منهم» يحوي قدرًا كبيرًا من الإعجاز الاجتماعي والنفسي، فهو ليس مجرد حكم شرعي على المُتشبِّه بقدر ما هو حكم بالانسلاخ الاجتماعي والنفسي والإنساني من حياته إلى حياة أخرى.

يضرب (أسد) مثلاً بقضية التقليد في الزيّ والملبس، فعلى الرغم من شيوع نظرة قاصرة لها على أنها قضية اجتماعية أو ثقافية فرعية وغير مهمة، إلا أن (أسد) يؤكد في هذا السياق ارتباطها بقضية الهوية الفردية، والتي لها دور كبير في صناعة الهوية الحضارية والاجتماعية للأمة كاملة، وأن التنازل عنها والتساهل فيها سيؤدي لا محالة إلى أثر سلبي كبير، وأن من الخطأ افتراض ألا خوف منها على حياة الإنسان العقلية والروحية، فالزيّ -وفق رؤية أسد- جاء نتيجة تطور طويل الأمد لذوق شعب ما في ناحية معينة؛ يقول: «هذا اللباس يتفق مع الإدراك البديعي لذلك الشعب ومع ميوله. لقد تَشكَّل هذا الزي ثم ما فتئ يُبدّل أشكاله باستمرار حسب التبدل الذي طرأ على خصائص ذلك الشعب وميوله، فالزيّ الأوروبي اليوم مثلاً يتفق تمامًا مع الخصائص العقلية في أوروبا، وبلبس الثياب الأوروبية يُوفِّق المسلم من غير شعور ظاهر بين ذوقه والذوق الأوروبي، ثم يُشوِّه حياته العقلية بشكل يتفق تمامًا مع اللباس الجديد، وبهذا يكون المسلم قد تخلّى عن الإمكانيَّات الثقافية لقومه، وتخلّى عن ذوقهم التقليدي وتقبّل لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليه المدنية الأجنبية. إذا حاكى المسلم أوروبا في لباسها وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يُؤْثِر المدنيّة الأوروبية، مهما كانت دعواه التي يعلنها، وإنه لَمِن المستحيل عمليًّا أن تُقلّد مدنيّة أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب بروحها، وإنه لمن المستحيل أن تُعجَب بروح مدنيّة مناهضة للتوجيه المدني وتبقى مع ذلك مسلمًا صحيحًا»[11].

بهذا الحسم يقرّر (أسد) أن التقليد -ولو كان في أمر يُرى ثانويًّا كالملابس والأزياء- يمكن أن يعصف بقدر كبير من خصائص الشعوب، ويُشوّه الحياة العقلية لها، وهو نتيجة للشعور بالنقص، فالمقلِّدون يفاضلون بين القوة المادية للمدنية الغربية ومقدرتها الفنية ومظهرها البراق وبين البؤس المخيم على العالم الإسلامي، ثم يترسخ لديهم ألا سبيل للنهضة إلا سبيل الغرب، حتى صار شائعًا اليوم لوْمُ الإسلام على تقصيرنا نحن في تطبيقه!!

وهي نفسها الفكرة التي أشار إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري فيما بعد في قضية البيت الوظيفي[12] والطعام الوظيفي التي قعَّدت لها الحداثة الغربية وصدّرتها إلى بلادنا بحكم العولمة، والتي يقصد بهما على الترتيب المساكن النمطية المعلّبة المتشابهة في الشكل والحجم والخالية من اللمسات الجمالية المعبرة عن البصمة الحضارة المميزة للأمم، والوجبات والأطعمة السريعة (التيك أواي)، التي ضربت الاجتماع العائلي والتميز الأممي للمأكولات، بعدما كان هذا الاجتماع في الوجبات سمة أساسية للعائلات المسلمة والعربية، وأحد المكونات الثقافية ومقومات القوة والتماسك الأسري، فضلاً عن نوعية الأطعمة نفسها أيضًا التي كانت سمة مميزة للعائلات (المطبخ المصري - اللبناني - الخليجي - وحتى الغربي الذي بدأ ينزوي هو الآخر لتحل محله الوجبات المقلية)، والامتنان العائلي للأمهات والزوجات والأخوات على صُنعهن المتقن للمخبوزات والأطعمة ذات البصمة الحضارية والأممية أيضًا.

فالحداثة الغربية جرّدت هذه المناشط الحياتية المهمة من معانيها الاجتماعية والنفسية والتربوية وقيمها الإنسانية الموجودة في الحضارات العريقة؛ فالعالم المادي الحديث يُحوّل الأفراد إلى مجرد أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، فالمنزل الغربي مثلاً -حسب رؤية المسيري- «ليس بأمر محايد أو بريء، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه وتصبغ وجدانه، شاء أم أبى»[13]. المسلم إن قَطَنَ في منزل بُنِيَ على الطراز المعماري العربي والإسلامي -وفقاً لرؤية المسيري- فسيزيد هذا من ثقته في نفسه واعتزازه بهويته وتراثه. ولكننا لا نرى في كثير من المدن من العالم الإسلامي أي مظاهر أو آثار للرؤية العربية الإسلامية «إلا في المسجد»[14]، وبدلاً من ذلك أصبح المنزل -عمليًّا وظيفيًّا- يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء فحسب، ولا يكترث بالخصوصية -يقصد الخصوصية الحضارية المميزة للأمة-، أي: إنه مثل «التي شيرت» أصبح هو الآخر خلوًا من الشخصية والعمق.

وحسب المسيري فإن أثاث هذا المنزل عادة وظيفيّ أيضًا، يلفظ أيّ خصوصية باسم الوظيفية والبساطة. ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية؛ يقول: «الرؤية المادية تُفضّل البساطة على الجمال المركب، ومن هنا جاءت عبارة: خليك طبيعي».

وكلام (المسيري) هنا يتشابه إلى حد بعيد مع نظرية (أسد)؛ إلا أن الأخير لم يُفصِّل فيها هذا التفصيل الذي فصَّله (المسيري)، والذي فكّك فيه هذه الظواهر الحداثية، وأظهر عوارها، لكنه اكتفى بالتنظير للفكرة بصورة عامة، ثم أتى المسيري وبَلْورها وشرحها وأسقطها على الظواهر الحديثة والمعاصرة، والتي كان منها بالمناسبة الملبس الوظيفي.

لكن (أسد) يقول مستدركًا على ما فات: «على أن هذا لا يعني أن المسلمين يجب أن يصمّوا آذانهم عن كل صوت يأتي من الخارج، فإن أحدنا يستطيع دائمًا أن يتقبَّل مؤثرات إيجابية جديدة من مدنيّة أجنبيةٍ ما من غير أن يهدم مدنيّته، والنهضة الأوروبية أفضل مثال في هذا الباب؛ رأينا هناك مدى استعداد أوروبا لقبول التأثيرات العربية في طريقة التعلم، لكنها لم تُقلّد أبدًا المظهر الخارجي وروح الثقافة العربية، ولم تُضَحِّ أبدًا باستقلالها الفكري والجمالي، بل استخدمت التأثيرات العربية فقط بوصفها سمادًا على أرضها، كما استخدم العرب التأثيرات الهلنستية[15] في زمنهم، وكانت النتيجة في كلتا الحالتين إثراءً روحانيًّا ونموًّا قويًّا جديدًا لحضارة أصلية مليئة بالثقة بالنفس والاعتزاز بالذات. لا يمكن لأيّ حضارة أن تزدهر، أو حتى أن توجد، إذا فقدت هذا الكبرياء والعلاقة مع ماضيها»[16].

يختم (أسد) حديثه في هذه القضية بالتأكيد على أن تقليد المدنية الغربية لا يمكن أن يكون الوسيلة الصحيحة لإيقاظ العالم الإسلامي من سباته العقلي والاجتماعي، بل يجب على المسلمين أن يبحثوا عن ذلك في الإسلام ذاته، فهو ليس مجرد اعتقاد قلبي، وإنما هو فوق ذلك منهاج ظاهر الحدود للحياة الفردية والاجتماعية، يمكن أن يُعاد إنعاشه إذا رُجِعَ به إلى الحقيقة الخاصة به المُميِّزة له عن غيره، والتي تقرّر ثم تصنع كياننا الفردي والاجتماعي في كافة جوانبه، يقول: «إن المشكلة التي تُواجه المسلمين اليوم هي مشكلة مسافر وصل إلى مفترق طرق: إنه يستطيع أن يظل واقفًا مكانه، ولكن هذا يعني أنه سيموت جوعًا، ويستطيع أيضًا أن يختار الطريق الذي يحمل فوقه هذا العنوان: «نحو المدنية الغربية»، ولكنه حينئذٍ يجب أن يودّع ماضيه، إلى الأبد. أو يختار الطريق الذي كُتب عليه: «إلى حقيقة الإسلام»، وهذا الطريق وحده هو الذي يستميل أولئك الذين يعتقدون بماضيهم، وباستطاعتهم التطور نحو مستقبل حي»[17].

التقليد بين الركود الفقهي والدعوة للتحرر:

وإذا كنا بصدد الحديث عن التقليد باعتباره أحد المؤثرات في صنع الهوية الاجتماعية والتربوية للمسلمين؛ فإنه من الجدير الإشارة إلى انتقاد (أسد) في بداية هذا الفصل من كتاب (الإسلام في مفترق الطرق) لبعض الفقهاء المعاصرين له -في ثلاثينيات القرن العشرين وما قبلها- الذين تسبَّبوا -حسب رأيه- في تجهيل المسلمين بتعاليم الإسلام؛ بسبب ضيق أفقهم وتفكيرهم السطحي وتحجُّر آرائهم واكتفائهم بتقليد الأسبقين في النوازل مهما اختلفت مناطات الأحكام، الأمر الذي تسبَّب بدَوْره في ظهور فكرة مضادة أكثر خطورة مفادها عدم قدرة المسلمين على مسايرة الرقي الذي نراه في سائر أنحاء العالم الغربي ما لم يتقبلوا القواعد الاجتماعية والاقتصادية التي قبلها الغرب، وبناءً عليه يجب أن يُحوَّر الإسلام حسب الأسس الغربية ليحوز التقدم.

فظهرت نتيجةً لذلك طائفة متطرفة من التنويريين كردّ فِعْل على حالة الركود والتحجر الفقهي، فكأنه رد فعل متطرف لفعل آخر متطرف أيضًا؛ حيث لم يتكلف هؤلاء «التنويريون» عناء البحث ليروا موقف الإسلام الحقيقي من تأخُّر المسلمين كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكنهم كما يقول (أسد): «اكتفوا من ذلك كله بأن رأوا أن تعاليم فقهائهم المعاصرين كانت سدًّا منيعًا في وجه الرُّقي ووجه التقدم المادي، ثم إنهم بدلاً من أن يُوَلُّوا أبصارهم نحو المصادر الأصلية في الإسلام؛ اعتبروا ضمنًا أن الشريعة والفقه المتحجّر في أيامنا هذه شيء واحد، وقد وجدوا أن الثاني ناقص من عدة وجوه، ففقدوا بالتالي كل اهتمام عملي بالشريعة، وأحالوها إلى حقل التاريخ والمعرفة المدفونة في الكتب، ثم بدا لهم أن تقليد المدنيّة الغربية هو المخرج الوحيد من ورطة الانحلال الإسلامي»[18].

يُحمِّل (أسد) الطرفين مسؤولية هذه الرؤية المشوشة لتعاليم الإسلام الحق التي انتشرت بين معتنقيه؛ الطرف الأول هم بعض الفقهاء الذين يعانون حالة من السطحية والركود والتحجر، والطرف الآخر هم المتنورون الذين بنوا موقفًا سلبيًّا من الإسلام، ولم يُفرّقوا بين الشريعة الثابتة التي هي الرؤية الإسلامية النقية، وبين الفقه أو آراء الفقهاء في ذاك العصر، وبناءً على هذا الموقف الذي اتخذه المتنورون انتقدوا الإسلام نفسه لا الفقهاء، وحاولوا سلخه من أهمّ مقوماته وهي الخصوصية والشخصية التي تُكسبه بريقًا وتميزًا عن غيره من الشرائع، واعتقدوا أن تقليد الغرب هو المخرج الوحيد[19].

 


 


[1]  Criterion Quarterly, Muhammad Asad: The Story of a Story of a Story, Toheed Ahmad.

[2] الإسلام على مفترق الطرق ص69.

[3] متفق عليه؛ البخاري [6599، 6600]، مسلم [2658].

[4] الإسلام على مفترق الطرق ص71.

[5] تقول المستشرقة الألمانية زيجفريد هونكة في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»، ص339: «إن العرب لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال، ثم نظموها ورتبوها وأهدوها إلى الغرب فحسب؛ بل إنهم مُؤسِّسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب، والجبر، والجيولوجيا، وحساب المثلثات، وعلم الاجتماع، لقد قدم العرب أثمن هدية؛ وهي طريقة البحث العلمي الصحيح، التي مهَّدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم».

[6] المصدر نفسه ص75.

[7] المصدر نفسه ص76.

[8] المصدر نفسه ص77.

[9] لمطالعة المزيد حول ترجمة المفكر النمساوي (محمد أسد) وفكره ومنهجه يمكن الرجوع لكتاب (هارب إلى الشرق)، للمؤلف.

[10] الإسلام على مفترق الطرق، ص83، 84.

[11] المصدر نفسه ص84، 85.

[12] عرّف المسيري مصطلح «الجماعة الوظيفية» بأنها: «كل فئة بشرية قليلة يُوكِل إليها المجتمع وظائف شتى يرى أن أعضاءه لا يقدرون على تحمُّلها لأسباب مختلفة؛ كالوظائف التي تخرم المروءة كالبغاء... أو قد يتطلب تحمّلها حيادية شديدة كالتجارة والربا، فالمجتمع يتجنّب مثل هذه الوظائف حفاظًا على قداسته وتراحمه ومثاليته، ويُوكّل بها فئات أجنبية لا يتحرّج من تسخيرهم ولا يعبأ بهم». ويقوم بإسقاط هذا التعريف بصورة مستمرة على ما ذكره هنا عن البناء والطعام من حيث كونهما يؤديان وظيفة دنيئة مستحدثة لم يكن يؤديها البناء والطعام في الوضع العادي.

[13] مقال الإنسان والشيء، د. عبد الوهاب المسيري، موقع الجزيرة نت.

[14] حتى عمارة المساجد زحف عليها -في الوقت الحالي- نمط العمران الغربي في بعض الدول العربية.

[15] العصر الهلنستي: حقبة في التاريخ القديم كانت فيها الثقافة اليونانية تزخر بالكثير من مظاهر الحضارة والرقي. وبدأت بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 ق.م، واستمرت حوالي 200 سنة في اليونان وحوالي 300 سنة في الشرق الأوسط.

[16] الإسلام على مفترق الطرق ص86.

[17] المصدر نفسه ص87.

[18] المصدر نفسه ص81، 82.

[19] لمطالعة المزيد حول ترجمة المفكر النمساوي (محمد أسد) وفكره ومنهجه يمكن الرجوع لكتاب (هارب إلى الشرق)، للمؤلف.

 

  

أعلى