• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
«الإيـجاز» و«الإطـناب» في الـقـرآن

ويتجلَّى «الإيجــاز» في أروع صوَره في القصص القرآني؛ وذلك بحذف بعض الجُمل أوْ بالاكتفاء بذِكْر الأسباب دون المُسبِّبات؛ لأنّه يكفي بإعطاء المعنى المطلوب

يقول اللُّغويُّون: للتعبير البليغ عمَّا في بال المتكلّم من المعاني طريقان؛ هما: الإيجاز والإطناب. وقد جاء البيانُ القرآني الأخَّاذ بهما معًا، ومشتملًا على كليْهما في غاية الفصاحة ونهاية البلاغة.. فما هو «الإيجـاز»؟ وما هو «الإطنـاب»؟

(الإيجـــاز) هو أنْ يكون اللفظ أقلَّ من المعنى. أيْ: تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى، فـ«المعنى الذي يمكن أنْ يُعبَّر عنه بألفاظ كثيرة، يمكن أنْ يُعبَّر عنه بألفاظ قليلة»؛ كما يقول صاحب كتاب «النكت في إعجاز القرآن». وجاء في لسان العرب لابن منظور: أنَّ الإيجاز هو الاختصار، وأوجَز الكلام: أيْ: اختصره.

ويقول البلاغيُّون: الإيجاز هو تكثيف المعنى وتقليل اللفظ، بشرط أنْ يُعبِّر المذكور من اللفظ عمّا هو مقصود من المعنى دون إخلال فيه. وهو أسمى ألوان البلاغة، حتى قال النقَّــاد: «البلاغــة الإيجــاز»؛ لأنها تُثير العقل وتُحرّك الذهن وتبعث البهجةَ وتُمتّع النفس بجمع المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة مع الإبانة والإفصاح؛ كقول الله -تعالى-: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: 71]، فلوْ أردتَ تعداد ما تشتهيه النفوس من المطاعم والمشارب والملابس، وما تلذّ به الأعين من مناظر الجنَّة، لعجزتَ عن ذلك.

    ويأتي «الإيجاز» في الكلام على ضربيْن: إمّا «إيجاز حذف»، أوْ «إيجاز قصر».

(إيجاز الحذف): يكون بحذف كلمة أوْ جملة أوْ أكثر مع قرينةٍ تُعيِّن، وتدلّ على المحذوف، مع تمام المعنى (أيْ: لا يختلّ المعنى). والغرض منه: الاختصار، ومراعاة المقام كضيق الوقت، والبُعد عن السآمة والمَلَل.

مثال حذف كلمة: قوله -سبحانه- ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أيْ: أهل القرية. أوْ قوله: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾، أيْ: بعشْر ليال.

مثال حذف جملة: قوله -تعالى-: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾[البقرة: 213]؛ أيْ: فاختَلَفوا فبَعثَ الله....

مثال حذف جُمَل متعددة: قوله -تعالى-: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ 28 قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 28، 29] ؛ أيْ: فذهَبَ الهدهد بالكتاب, وألقاه إلى مَلِكة سبأ، فلمَّا قرأتْه قالت: يا أيها الملأ.

أوْ قوله: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ أيْ: فأرسلوني إلى يوسف لأقصّ عليه الرؤيا وأستعبره عنها، فأتاه، وقال: (يُوسُفُ...).

إذن، «إيجاز الحذف» غايته هي اختصار الكلام وقلّة ألفاظه؛ كما أسلفنا.

أمَّا (إيجــاز القصــر) فيُقدَّر فيه معان كثيرة، ويكون بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة مِنْ غير حذفٍ؛ كقوله -تعالى-: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، فقد جمعت الآيةُ فأوعتْ معاني عديدة تتعلق بالخالق وعظمته وقدرته ووحدانيته... إلخ. حتى إنه رُويَ أنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- قرأها، فقال: مَن بقيَ له شيء فليطلبه.

     - أيضًا: قوله -سبحانه-: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾؛ فالآية تتضمَّن معاني كثيرة من تخويف للقاتل، وحقن للدماء، وشعور بالأمن والأمان... إلخ.

  - وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. فكلمة {الأمن} يدخل تحتها كل أمر محبوب، فقد انْتَفَى بها أن يخافوا فقرًا، أَو موتًا، أو جوْرًا، أو زوال نعمة، أو غير ذلك من ألوان المكاره.

- وقوله -سبحانه-: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:31]؛ فقد أخبر -جلَّ شأنه- بكلمتيْن عن جميع ما أخرجه من الأرض قوتًا ومتاعًا للناس.

- وقوله -جلَّ جلاله-: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]؛ أيْ: إذا أردتَ قتالهم فلا تغدر بهم، بلْ أَخبِرهم قبل ذلك بأنَّ عهدهم قد بطل مفعوله.

- وقوله -عزَّ وجل-: ﴿إنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]؛ فالآية تشتمل على سِت كلمات، أَجملتْ وفصَّلتْ العلوّ في الأرض، وما يترتَّب عليه من فتنة الناس وتفريقهم، ثمَّ استضعافهم بذبح الولدان واستحياء النساء، ونشر الفساد!

انظر كيف دلّت الجُمَل القرآنيَّة بأقصر عبارة على أوسع معنى متكامل، قد يعجز الإنسانُ عن التعبير عنه إلاَّ بأسطُر وجُمَل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصارًا مُخِلًا، أوْ ضعفًا في الأدلَّة!

بلْ انظر وتأمّل قوله -تعالى-: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، فإذا تدبَّرتَ هذه الجملة الموجزة، فإنك تجد فيها من بديع النَّظْم وبلاغة القول والمدلول الواسع، ما لا يمكن لبشرٍ أن يُحسِن التعبير عنه بمثل هذه الألفاظ الموجزة: فقد ذَكَرَتْ وصفًا مُهمًّا للمؤمنين الذين يَبتغون وَجْهَ الله فيما ينفقونه، ووضعت للصدقة المقبولة شروطًا:

  الأول: إنَّ الإنفاق يكون مِن بعض المال لا كله، وهذا ما أفادته لفظة «مِن» التبعيضيَّة.

  الثاني: أنْ يتصدّق مِن ماله، لا أن يأخذ من مال الآخَرين، وهذا المفهوم يستفاد من قوله ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾، فالضمير «هم» يفيد بأنَّ الإنفاق مِمَّا يخصّ مَالَهم.

 الثالث: أنْ يَعلَم المُتصدِّق أنَّ المالَ الذي يُنفَق منه، إنما هو مال الله؛ المُستخلَف فيه.

 الرابع: أنْ يُنفق النفقةَ في موضعها الصحيح، ويضعها في مصارفها الشرعية.

 الخامس: أنَّ الرزق هنا يشمل عموم الصدقات، وليس مقصورًا على المال فحسب.

 السادس: أنَّ هذا الإنفاق جاء تتميمًا لصفة المتقين التي استهلَّ بها كتابه العزيز.

هذا؛ ويتجلَّى «الإيجــاز» في أروع صوَره في القصص القرآني؛ وذلك بحذف بعض الجُمل أوْ بالاكتفاء بذِكْر الأسباب دون المُسبِّبات؛ لأنّه يكفي بإعطاء المعنى المطلوب. وتُعبِّر الجُمَل الموجزة عن معانيها الوفيرة بألفاظ قليلة دالَّة عليها؛ إذْ يَعمد إلى توسيع المعنى وتكثيفه وتضمينه بألفاظ قليلة حتى يصبح أكثر تأثيرًا في المتلقّي من خلال تصوير الأحداث بشكل صوَر ملتقطة بإيجازٍ خالٍ من التطويل، وبهذا سيترك للقارئ التخيُّل لِمَا يقرأ. ففي قوله: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاستَعصَمَ﴾ [يوسف: 32]. أوجزت الآيةُ حدث المراودة والاستعصام التي جاء ذِكرها في ذات السورة. فكأنّما لخَّصَت «امرأةُ العزيز» للنسوة الأحداث المُجْمَلة بهذه الكلمات القليلة التي جاءت على لسانها. وعبّرت عن موقف «يوسف» المُناقِض لها بالرفض المصحوب بالإنكار في لفظ ﴿فَاستَعصَمَ﴾ الذي يدّل على إرادتها لشيء، قابلها هو بالرفض والإنكار.

تأمَّل، كيف صوّرت تلك الألفاظ الدقيقة مضمون الأحداث تصويرًا حيًّا موجزًا كأنّه ملتقط التقاطًا، وقد أبلغتْ المعنى الوافر بألفاظ قليلة دون خلَل أوْ إرباك.

ومثل قوله -تعالى-: ﴿فَلَمَّا استَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]؛ نجد من روعة الإيجاز الشيء الكثير؛ إذْ صوّرت لنا حال الإخوة عندما تغلّب اليأسُ عليهم بعد أن رفض يوسف -عليه السلام- طلبهم بأخذ أحدهم مكان أخيهم «بنيامين»، فانعزلوا وخلَوا بأنفسهم يناجي بعضهم بعضًا في كيفية مواجهتهم لأبيهم! فقد عبّرت الآيةُ بألفاظها الموجزة عن المعاني التي تَقدَّم ذِكْرها، وصوّرت لنا بإيجاز حال مشاورتهم مع بعضهم بعضًا في تقليب أمرهم وحيرتهم في ذلك الأمر!

وإذا كان الإيجاز في الآيتيْن السابقتيْن قد صوَّر لنا أحداثًا معينة من القصة بعد أن كانت مذكورة بتفاصيلها لِمَا تحمله من إيحاءات لصُوَر تُستشفّ من انتقاء الألفاظ وانسجامها مع بعضها البعض. فنجده في آية أخرى من السورة يُلخِّص القصةَ بأكملها بالاقتصار على ذِكْر الأصول دون الفروع، والأسباب دون المسبّبات كما في قوله -تعالى-: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِن بَعدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: 100].

ففي هذه الآية إيجازٌ يختصر القصة بأكملها؛ لأنَّ الآيات اقتصرت على ذِكْر الأصول دون الفروع، فكأنّما قصَّ القصّة كلّها بذِكْر أسبابها وأصولها التي دفعت بالأحداث إلى أن تتطور وتصل إلى ما وصلت إليه. ففي قوله: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾؛ إذْ كانت رؤياه سببًا لحسد إخوته له حيث فعلوا به ما فعلوه.

أمَّا قوله ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾؛ فهو سبب للقائه بالمَلِك، وتطورت الأحداث حتى التقى بأبيه بعد أن التقى بإخوته. في حين قوله -تعالى-: ﴿بَعدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾؛ فقد اقتصر ذِكر السبب الذي دَفَع إخوته إلى أن يفعلوا به ما فعلوه؛ بأنه هو «الشيطان» الذي وسوس لهم أن يُبعدوه عن أبيه دون أن يَذكُر الأحداث التي دارت بينهم. وقد أجملت الآية ما كان مفصّلًا بالاقتصار على الأسباب دون النتائج؛ وذلك للعلم بتفاصيل أحداث القصة، ومِن ثمَّ فإنَّ الأسباب المذكورة تُنبئ ذلك بالتفاصيل.

وبذلك يكون للإيجاز أثر بارز ومهم؛ لأنّه أوجز لنا السورة بعبارات مُنَسَّقة ومُنظَّمة، وعبَّر عن المعاني المكثّفة بألفاظ رشيقة لطيفة.

هذه بعض تجلِّيات (الإيجــاز) في القرآن المجيد... فماذا عن (الإطنــاب)؟

*   *   *

- (الإطنـاب): كل كلام زادت ألفاظه على معانيه لفائدة. أوْ هو أداء المعنى بأكثر من عبارة سواء أكانت الزيادة كلمة أمْ جملة، بشرط أن تكون لها فائدة، ومن صـــوَر الإطناب:

- إطناب عن طريق ذِكر الخاص بعد العام: للتنبيه على فضل الخاص، كقوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4]؛ فقد خَصَّ -سبحانه- الرّوح بالذِّكْر، وهو جبريل مع أنه داخل في عموم الملائكة؛ تكريمًا وتشريفًا له.

- إطناب عن طريق ذِكْر العام بعد الخاص؛ لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاص، كقوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41].

- إطناب للرغبة في إطالة الحديث مع المحبوب؛ كقوله -تعالى-: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى 17 قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17، 18] . ففي هذا المثال بسطَ موسى -عليه السلام- الكلامَ تلذُّذًا بالحديث مع الله؛ فهو يكلّم ربَّ العزَّة ويسعد أعظم سعادة بهذه المنزلة، لذلك أطال مع أنه كان يكفيه أن يقول: ﴿عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾.

*   *   *

ومن أمثلة «الإطناب» في القرآن، قوله -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبْرَاهِيمَ 69 إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ 70 قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ 71 قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ 73 قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ 74 قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ 75 أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ 76 فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ 77 الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ 78 وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ 79 وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80 وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ 81 وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ 82 رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْـحِقْنِي بِالصَّالِـحِينَ} [الشعراء: 69 - 83].

ففي هذه الآياتِ إطنابٍ يتمثَّل في تفصيلِ ذلكَ الحوار بينَ إبراهيم -عليه السلام- وقومه، فقولُ قوم إبراهيم: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا﴾ كَانَ يكفي جوابًا لسؤال إبراهيم -عليه السلام- لو لم يكن المقام يقتضي الإطناب؛ ولكنهم أتبعوه بقولهم: ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾؛ ليكون ذلك أبلغ عندَ السامعِ في الدلالة على جهالتهم وتماديهم في باطلهم وشدَّة إخلاصهم لتلكَ الآلهة الزائفة، وسؤال إبراهيم: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ كافٍ في موطن الإيجاز لبيان عجز هذه الآلهة وضلال هؤلاء القوم؛ ولكنه هنا يريد أن يُمعِن في السخرية من تلك الأصنام، ويُبرهِن أنَّها غير جديرة بالعبادَةِ؛ لذلكَ أتبعه بقوله: ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾؛ يمكن أن يستغني في مقام الإيجاز عن قوله: ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ﴾؛ ولكنه ضمَّ إليهم آباءهم ليبيّنَ لهم أن عهدهم بالضلالِ قديم، وأَنَّ كفرهم متأصِّل في نفوسهم، ورثوه عن آبائهم الأقدمين، وكذلكَ يتمثَّل الإطناب في تمجيد إبراهيم -عليه السلام- لرَّبِّهِ -جَلَّ جلالهُ- بِمَا عَدَّدَ مِن نِعَمِه الكثيرة عليه؛ لأنَّه يريد أن يُقارن بين قدرة ربِّهِ العظيم ومَا لَهُ من نِعَمٍ على عبادِهِ، وبينَ عجز تلك الأصنام التي يعبدها قومه من دون الله، فأوْرَدَ تلك الصور المتعاقبة لفضل الله عليه، ولعلَّكَ قد لاحظت تكرار بعض الألفاظ في الآياتِ، مثل: «الذي»، «هو»؛ لأنَّ إبراهيم -عليه السلام- أرادَ أَن يُؤكِّد تفرُّد الله بهذه القدرة دون غيره.   

*   *   *

 أيضًا: اقرأ قوله -تعالى- عن قصة سيدنا نوحٍ -عليه السلام-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلا تُنظِرُونِ 71 فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ 72 فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُنذَرِينَ} [يونس: 71 - 73].

 فالآيات عرضت قصةَ سيدنا نوح -عليه السلام- عرضًا سريعًا موجزًا، لتَخلُص إلى خاتمة جهادهِ ضد المشركين بما وعده اللهُ من نصر؛ إذْ أغرقهم ونجَّاه ومَن معه في الفلكِ، ذلكَ أَنَّ سياق الآياتِ لَم يكن يستدعي الإطناب في تصوير مَا دارَ بينَ نوح وقومه من جِدال -كما جاء في سورة هُود التي تَحدَّثَت بالتفصيل عن قصة نوح-، ومَا حدث من بناء الفُلكِ، وثورة الطوفان، وغير ذلكَ؛ لأنَّها نزلت لتُثَبِّت فؤادَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وتُسرِّي عنه ما كانَ يلمُّ به من حُزن؛ لانصرافِ المشركين عنه وعن دعوة الحقِّ، فهي تُبيِّن للنَّاسِ أَنَّ الله ينصر أنبياءه وَمَن آمنَ معهم، ويخذل الكافرين؛ ولذلك جاء قبلها قوله -تعالى-: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يونس: 65]، وخُتمت بقوله -تعالى-: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [يونس: 73].

 الخلاصـــة: (الإيجاز) تعبيرٌ محكمٌ عَن المعنى دونَ تفصيلٍ أو سرد في الجزئيات، أَمَّا (الإطناب) فيبسط المعنى، ويُفصِّله، ويَعرض لجوانبه المختلفة، وكلاهما يجيء نتيجة المقصَد الذي يُراد التعبير عنه، ويخضع للمناسبة التي يُقال فيها.

   يعني أنَّ «الإيجاز» له مقام، و«الإطناب» يتطلب مقامًا آخَر... وكلاهما بليغٌ وقويُّ التأثير.


أعلى