مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِك؟
إنّ وقوع الأخطاء من الأبناء يُعد أمراً طبيعياً
ومتوقعاً، خصوصاً إذا كانوا صغاراً.. ولم تكتمل لديهم المعايير التي يميزون بها
بين الصواب والخطأ، والضار والنافع، وما يليق وما لا يليق، لكن إذا كبر الأطفال وصاروا
مراهقين ومراهقات فإنّ أخطاءهم تكون من نوع جديد ومختلف عن ذي قبل، وكثير منها
يتعلق بآثار التغيرات النفسية والجسمية التي تعتريهم في هذا المرحلة المهمة من
عمرهم.
وليست المشكلة في أن يخطئ
الابن؛ فلولا الخطأ ما أدرك الصواب، لكن المشكلة الحقيقية هي: كيفية معالجة الخطأ
بطريقة سليمة تحول دون تكراره، ونكوّن خبرة سليمة لديهم مفادها أن هذا السلوك خاطئ
ومرفوض ولا يليق بهم أن يفعلوه.
وإذا كنا نحن - المربين
والمربيات - نستخدم الأسلوب الحاسم المباشر في علاج كثير من أخطاء الأبناء وهم
صغار، إلا أننا يجب أن ندرك أنّ هذا الأسلوب قد لا يكون دائماً هو العلاج المناسب
تجاه الأبناء الأكبر سناً في مرحلة المراهقة وبواكير الشباب، فهناك من السلوكيات
الخاطئة ما تحتاج إلى انتهاج الأساليب غير المباشرة في معالجتها، والتي تكون
بمنزلة إشارات قوية ووخزات موجعة للضمير الحي الذي ربيناه بداخلهم من قبل، ومن
ثمَّ يدفعهم ذلك إلى تجنب السلوك السيئ أو الإقلاع عنه ذاتياً إن كان موجوداً،
والذي غالباً ما يكون استجابات طائشة للأهواء والشهوات يحاولون الاستخفاء بها عن
أعين الكبار.
فماذا تفعل عزيزي المربي
إذا قدّر الله أن تطلع على شيء من ذلك؟ وكيف ستعالج الموقف؟ إليك الجواب النبوي
الرائع عبر هذه السطور.
أعزائي.. إنّ نبينا
الكريم صلى الله عليه وسلم صاحب أكبر وأفضل مدرسة تربوية يمكن أن يتعلم منها
الآباء والأمهات والمربون، نقتبس من هديه اليوم أسلوباً رائعاً عالج به صلى الله
عليه وسلم خطأً وقع فيه أحد شباب الصحابة - رضوان الله عليهم - هو خوّات بن جبير -
رضي الله عنه -، فلنمضِ معه وهو يحكي ويروي لنا بنفسه قصة الخطأ الذي ارتكبه، وكيف
عالجه النبي صلى الله عليه وسلم.. يقول خوّات - رضي الله عنه -: أسلمت وهاجرت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا في بعض طريق المدينة إذ أنا ببغيّ من بغايا
الجاهلية قد كانت لي خِلاً (صديقة) فحجبني إسلامي عنها، ودعتني نفسي إليها، فلم
أزل ألتفت إليها حتى تلقاني جدار بني جذرة (صدمه الجدار) فسالت الدماء وهشم وجهي،
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة فقال: «مهيم؟» (يعني: ماذا حدث
لك؟) فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم «فلا تعد، إنّ الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد
خيراً عجّل له عقوبته في الدنيا».. لكن بعد هذا الموقف بأيام يكرر خوّات بن جبير -
رضي الله عنه - الخطأ نفسه لكن بصورة مختلفة، فقد روى الطبراني أن خوّات بن جبير -
رضي الله عنه - قال: «نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرّ الظهران، قال:
فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي فاستخرجت
منها حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته
فقال: أبا عبد الله، ما يجلسك معهن؟ فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته،
واختلطت، قلت: يا رسول الله، جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً، فمضى واتبعته، فألقى
رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ
فأقبل ظاهراً (راجعاً) يسيل من لحيته على صدره أو قال يقطر من لحيته على صدره،
فقال صلى الله عليه وسلم: «أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟»، ثم ارتحلنا، فجعل لا
يلحقني في المسير إلا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»،
فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة واجتنبت المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد فأتيت المسجد فقمت أصلي، وخرج
رسول صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطوّلت رجاء أن
يذهب ويدعني، فقال: طوِّل أبا عبد الله ما شئت أن تطول فلست قائماً حتى تنصرف،
فقلت في نفسي: والله لأعتذرنّ إلى رسول الله ولأبرئنّ صدره، فلما قال: «السلام
عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك
الجمل منذ أسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: «رحمك الله ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما
كان»[1].
ما أروع هذا الموقف
العملي، ولكم يحتاج كل من يقوم بالتربية إلى أن يعايشه ويقتبس من فوائده، والصحابي
الجليل خوّات بن جبير - رضي الله عنه - لم يبخل علينا بذلك، بل قصّ علينا تجربته
كاملة بكل تفاصيلها الزمانية والمكانية والنفسية وكأننا نراها من داخله هو رضي
الله عنه، فهو يخبرنا أنه كانت له تجربة أولى مع الالتفات نحو أخطاء الجاهلية التي
حجبته عنها نعمة الإسلام، وكيف أنّ الله تعالى عاجله بالعقوبة وحذّره النبي صلى
الله عليه وسلم من العودة إلى ذلك الذنب حيث قال: «فلا تعد»، لكن النفس الإنسانية
تأبى إلا أن تعود في كثير من الأحيان، وهذه شكوى كثير من المربين - تكرار الخطأ مع
سابق التحذير منه.
يقول: «فخرجت من خبائي
فإذا أنا بنسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي، فاستخرجت منها حلة
فلبستها وجئت فجلست معهن».. وهنا يحدث مع الصحابي الجليل ما يمكن أن يحدث لنا
جميعاً مع أبنائنا، إنه اطلاع المربي على ولده أو من يربيه حال تلبسه بارتكاب
السلوك الخاطئ أو مقارفة الذنب، واطّلاعه عليه فجأة!!
يقول خوّات - رضي الله
عنه -: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته فقال: «أبا عبد الله ما يجلسك
معهن؟».. إنه استفسار واضح ومباشر يحتاج إلى إجابة، لكن الموقف ليس بالسهل في تلك
اللحظات على نفس خوّات (المتربي)، فقد يدعوه إلى الكذب وإخفاء الحقيقة!!
يقول خوّات - رضي الله
عنه -: «فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته، واختلطت»، وهذا رد فعل
طبيعي يصيب أي إنسان إذا اطلع عليه كبير يحبه ويحترمه حال ارتكابه الخطأ، فيضطرب
ويتلعثم كما حدث للصحابي الجليل، فينطق لسانه بأمر آخر بعيد عمّا رآه المربي
محاولاً بذلك أن يعمّي عليه الحقيقة التي رآها واطلع عليها.
يقول خوّات - رضي الله
عنه -: «قلت يا رسول الله، جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيداً، فمضى واتبعته...»..
وهنا يبدأ العلاج النبوي الرائع.. لم يعقب النبي صلى الله عليه وسلم في الحال مع
علمه التام أن إجابة خوّات - رضي الله عنه - ليست صحيحة ولا حقيقية.. فلم يتهمه
بالكذب ولم يواجهه بحقيقة السبب الذي أجلسه مع النسوة.. ولم يذكّره بخطئِه السابق
وبأن الله عاقبه فلم يرتدع، أو أنه خالف تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من معاودة
الذنب.. لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك.. وإنما جعل يكرر عليه سؤالاً
واحداً واستفساراً حول السبب الذي أبداه، وكأنه يبلّغه رسالة تقول: أعلم أن هذا
السبب غير حقيقي وما كان يليق بك أن تفعل ذلك..! فيا له من توبيخ مؤثر بأسلوب في
منتهى الرقيّ، ثمّ استمر النبي صلى الله عليه وسلم يكرر عليه السؤال كلما رآه
قائلاً: «أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟!» ليعمل التكرار عمله، فتزيد مشاعر
الندم وتتصاعد في نفس خوّات بن جبير - رضي الله عنه - مع كل مرة يتكرر فيها سؤال
النبي صلى الله عليه وسلم، فيقرر خوّات بن جبير الانعزال والتواري عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمجرد وصولهم إلى المدينة، يقول: «فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة
واجتنبت المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم».. لكن هل ينتهي الموقف
عند ذلك؟! لا.. لا بد أن يتعقب المربي ويتابع أثر العتاب والتأنيب على المخطئ حتى
يؤتي ثماره، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج فجأة فوجد خوّات بن
جبير يصلي، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطوّل في صلاته رجاء أن يتركه
وينصرف، وما ذلك إلا هرباً من سماع السؤال اللاذع: «ما فعل شراد جملك؟»، فأعلمه صلى
الله عليه وسلم بأنه لا فائدة من إطالته لصلاته قائلاً: «طوّل أبا عبد الله ما شئت
أن تطوّل فلست قائماً حتى تنصرف».. وهنا يقرر الصحابي الجليل خوّات بن جبير وقد
بلغ القمة من تصاعد الانفعال الإيجابي نحو التخلص التام من الخطأ وإعلان التوبة من
الذنب الذي ارتكبه أمام المربي الحبيب صلى الله عليه وسلم فيقول: فقلت في نفسي:
والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئنّ صدره، فلما قال: «السلام
عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك
الجمل منذ أسلمت.. ما أروعه من اعتذار وبيان.. إنّ هذه التصرفات الخاطئة ما هي إلا
أخطاء لم أتعمدها ولم أقترف ما يقدح في إسلامي منذ أسلمت وها أنا قد تبت عنها ولا
أعود إليها أبداً إن شاء الله. ويأتي الرد المباشر من المربى الحكيم صلى الله عليه
وسلم مؤيداً ومدعماً لموقف خوّات بن جبير - رضي الله عنه - بالدعاء المؤكد ثلاثاً:
«اللهم ارحمه.. اللهم ارحمه.. اللهم ارحمه».
أعزائي
المربين والمربيات..
إنّ المتأمل في هذا
الحديث الشريف يضع يده على عديد من وسائل ضبط سلوك الأبناء، وتقويم أخطائهم،
ومساعدتهم على مقاومة الأهواء والشهوات، مثل:
- تذكير المتربي بالله
تعالى وربط المصائب التي يتعرض لها بما يقع فيه من أخطاء وذنوب، «ما نزل بلاءٌ إلا
بذنب، وما رفع إلا بتوبة»، إن ذلك يجعل الابن يكبر وقد ارتبط في ذهنه أن المعاصي
سبب رئيس لجلب المصائب للإنسان، وأن الخلاص منها لا يكون إلا بالرجوع إلى الله
تائباً، وعدم الإقامة على الذنوب والإصرار عليها، فينتبه لذلك ويكون مجدِّداً
للتوبة على الدوام.
- من واجبات المربي
الاستفسار والسؤال عند رؤية الخطأ أو العلم به وعدم التراخي في التعليق واتخاذ رد
الفعل المناسب.
- عدم التحدث بخطأ
الابن وهتك ستره أمام الآخرين، لا سيما إذا حاول أن يخفي خطأه، يقول الإمام
الغزالي: «فإن إظهار ذلك عليه ربما يزيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، ولكن
يعاقب سراً ويعظم عنده أمر ما وقع». ونحن نلاحظ هنا أن القصة لم تتعدَ شخص النبي صلى
الله عليه وسلم (المربي) وخوّات بن جبير - رضي الله عنه - (المتربي)، فإنه هو نفسه
الذي روى الحديث ولم يصلنا إلا من خلال روايته له.
- من أول الحديث إلى آخره
لم يتخلّ النبي صلى الله عليه وسلم عن نداء الصحابي خوّات بن جبير - رضي الله عنه
- بكنيته (أبا عبد الله)، بمعنى أنه لم يتخلّ عن خطابه باحترام رغم وقوعه في
الخطأ، وهذا درس تربوي مهم، فمعاملة الابن باحترام في جميع الأحوال – حتى في حالة
الوقوع في الخطأ - كفيلة بأن تحفظ على الابن احترامه وتقديره لنفسه ومن ثم إحساسه
بالترفع عن الخطأ وعدم استمراء ملابسته له، حيث إنه يكوّن من خلال أسلوبنا في
التعامل معه والألفاظ التي نخاطبه بها، صورة جيدة عن نفسه لا يرضى غالباً أن ينزل
عنها.
فلنقلع إذاً عن أساليب
تربوية فظّة وغليظة أو قاسية ومباشرة طالما جرحت مشاعر الأبناء ولم تعالج خطأ أو
تصلح عيباً، ولنحلّ محلها تلك الأساليب النبوية الرائعة والفاعلة في التربية
ومعالجة الأخطاء على طريقة: «ما فعل شراد جملك؟!!».
:: مجلة البيان العدد303 ذو القعدة 1433هـ، سبتمبر - أكتوبر 2012م.
[1] أخرجه الطبراني في
المعجم الكبير: 4/203.