«ليالي تُركسـتان» والمسـلمون المنسيون!!
يمتاز إقليم تركستان
الشرقية بثرواته الطبيعية الهائلة من الذهب واليورانيوم والفحم، ويُعدُّ ثاني أكبر
منتج للنفط في الصين.
عمدت السلطات الصينية إلى
محو هوية الإقليم المسلم، فغيَّرت اسمه من تركستان، ومعناها أرض الترك، إلى
«شينجيانج»، وتعني «الأرض الجديدة»، كما تم إلغاء اللغة الإيجورية التي كانت تُكتب
بالحروف العربية.
تحظر القوانين تلقي
التعليم الديني لأقل من 18 عاماً، ويُمنع التلاميذ في المدارس والجامعات من تأدية
الصلاة وصوم رمضان وحمل المصاحف أو امتلاكها.
تسيطر عِرقيةُ الهان
اللادينية على المصانع والشركات والوظائف الإدارية، ما اضطر الإيجور إلى العمل في
حِرَف متدنية، مثل: أعمال النظافة، والخدمة في منازل الأثرياء.
الأحداث الدامية التي
يشهدها إقليم تركستان الشرقية من آن إلى آخر وتروح ضحيتها أعدادٌ من المسلمين؛ ما
هي إلا مؤشرٌ على مأساة يتجاوز عمرها ستة عقود كاملة ولا نعرف عنها إلا أقل
القليل.. وهذا التوتر مرشح للتصاعد وربما الانفجار المروع طالما ظلت سياسة العصا
الغليظة الوسيلةَ الوحيدة للتعامل مع مسلمي الإيجور.
قشغر الإسلامية:
يُعدُّ إقليم تركستان
الشرقية أو «شينجيانج»، أكبرَ أقاليم الصين، ويمثل نحو 17% من مساحتها الحالية،
وهو توأم إقليم تركستان الغربية الذي يضم جمهوريات كازاخستان وطاجيكستان
وتركمانستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، وهي الآن المعبر الاستراتيجي الذي تمرُّ منه
أنابيب النفط والغاز المستورد من دول وسط آسيا إلى داخل الصين. يحدُّ هذا الإقليم
من الشمال الغربي كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، ومن الجنوب أفغانستان والهند،
ومن الشرق أقاليم التبت وكوبنغهاي وكانسو الصينية، ويمتاز الإقليم بثرواته
الطبيعية من الذهب واليورانيوم، وهو ثاني أكبر منتج للنفط في الصين، حيث يسد 80%
من احتياجاتها، أما مخزون الملح الصخري فيقدَّر بما يكفي استهلاك العالم كله لمدة
1000 عام. وأهم مدن الإقليم هي: أورومجي العاصمة، وهامي كارامِي، وكاشي أو قشغر،
وكانت غالبية السكان في النصف الأول من القرن الماضي من مسلمي الويجور الترك،
والويجور تعني الاتحاد أو التضامن.
ويشير المؤرخون إلى أن
الإسلام دخل تركستان الشرقية في عهد الوليد بن عبد الملك عام 94هـ/ 712م عندما عبر
القائد قتيبة بن مسلم الباهلي نهر جيحون متوجهاً إلى فرغانة، وأوغل في بلاد ما
وراء النهر حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح قشغر ثم جنغاريا وترفان الواقعتين
على حدود منغوليا، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، لكن تلك البلاد أصبحت
إسلامية حكومةً وشعباً بعدما اعتنق الخان المغولي «ستاتول بوجرا» الإسلام عام 322هـ/
934م. وفي عصر أسرة مينج التي حكمت الصين (1386 – 1644م)، نال المسلمون امتيازات
كبيرة، فازدهرت أحوالهم وازداد عدد مساجدهم، حتى جاءت الأسرة المانشورية في أواسط
القرن السابع عشر الميلادي فعملت على اضطهادهم وهدم مساجدهم، فقاموا بعدة ثورات
عنيفة تمكَّن خلالها الزعيم المسلم «يعقوب بك» من الاستقلال بتركستان الشرقية عام
1282هـ/ 1865م، لكن هذه الدولة لم تعش طويلاً، حيث هاجمتها الصين واحتلتها مرة
أخرى سنة 1290هـ/ 1875م، وفي عام 1350هـ/ 1931م اشتعلت الثورة في منطقة تركستان
الشرقية كلها، وبعد عامين أُعلن قيام حكومة «قشغر الإسلامية»، ولم يتم إسقاط هذه
الدولة إلا بالتحالف العسكري بين الصين وروسيا عام 1356هـ/ 1937م.
وإلى الآن تزدان مدينة
قشغر القديمة بباقة رائعة من المساجد والأبنية ذات الطراز الإسلامي البديع، من
أهمها: مجمع أباخ خوجة الإسلامي الذي بُني عام 1640م، إلا أن أبرز عمائر المسلمين
هو جامع عيد كاه الذي يُعدُّ أكبر مساجد الصين من حيث المساحة ومن أكثرها تعبيراً
عن شخصية مسلمي الصين.
ورغم هذا التاريخ الطويل
للإسلام في الصين، لا يوجد إحصاء دقيق لعدد مسلميها يستطيع الباحث أن يطمئن إليه،
فبينما ترتفع المصادر الإسلامية بالعدد إلى ما فوق حاجز المائة مليون، فإن المصادر
الرسمية تشير إلى أن الإسلام ينتشر اليوم بين عشر قوميات يُقدَّر عددها بنحو عشرين
مليون نسمة، وهي: الويجور، والهوي، والقازاق، والقرغيز، والتتار، والأزبيك،
والطاجيك، ودونغشيانغ، وسالار، وباوآن، ومعظمهم يتوزعون في شينجيانج، بينما البقية
الباقية فينتشر بعضها في مدن وقرى سائر المقاطعات والبلديات والمناطق ذاتية الحكم،
بما فيها تايوان وهونغ كونغ وماكاو.
الأرض الجديدة:
بعد قيام الثورة الشيوعية
عام 1949م فرض الصينيون سيطرتهم على المنطقة كلها، وعمدوا إلى محو هوية الإقليم المسلم،
فغيَّروا اسمه من تركستان، ومعناها أرض الترك، إلى «شينجيانج»، وتعني «الأرض
الجديدة»، ومع أن الحكومة أعلنت أن الإقليم متمتعٌ بالحُكم الذاتي ثقافياً وإثنياً
ودينياً ولغوياً، إلا أن ذلك كان مجرد إجراء صوري، فشؤون الحكم يديرها الصينيون من
قومية الهان الذين يحتلون ما يوازي 90% من الوظائف الإدارية، كما لجأت السلطات إلى
تغيير أسماء المدن والشوارع، وجلبت آلاف الأسر من قومية الهان اللادينية إلى
تركستان بقصد تغيير التركيبة الديموجرافية، وبعد أن كان المسلمون في تركستان
الشرقية يشكِّلون أكثر من 90%، منهم 78% من قومية الويجور التي يبلغ عدد أبنائها
7.2 مليون نسمة حالياً، والصينيون من قومية الهان 6% فقط – بحسب إحصاء سنة
1942م؛ ارتفعت نسبة الصينيين وباتوا يشكِّلون – بحسب إحصاءات 2001م - نحو 40% من
السكان، وقد أصبح أتباع عرقية الهان يسيطرون على غالبية المصانع والشركات، خاصة
بعد اكتشاف آبار البترول بغزارة في المنطقة، فاضطر الإيجوريون إلى امتهان أعمال
متدنية، مثل: الخدمة في المنازل، والحِرَف الصغيرة الأخرى.. كذلك قامت السلطات
بإنشاء عدد كبير من السجون في المنطقة، وحظرت على من يقضي فترة عقوبته من عتاة
المجرمين العودة إلى بلده، وألزمته بالعيش في تركستان، وكان من تداعيات هذه
السياسة ارتفاع نسبة الجريمة في تركستان الشرقية بصورة كبيرة.
وخلال سنوات الثورة
الثقافية (1966 – 1976م) تعرَّض المسلمون للتنكيل والتشريد؛ فأُغلقت مساجدهم،
وتمَّ تحويل الكثير منها إلى مستودعات للبضائع أو مراكز تجارية، وباتت العبادة
تؤدَّى سراً خوفاً من الملاحقة والاضطهاد، وبعد زوال هذه الثورة استردَّ المسلمون
مساجدهم ومنشآتهم، ففي شينجيانج وحدها أُعيد فتح أكثر من 1900 مسجد، وشهد المسلمون
سلاماً نسبياً لم يستمر طويلاً بسبب السياسات الحكومية التي تعمل على محاربة
الانتماء الديني لشعب تركستان المسلم، وذلك بالتضييق على أفراده في ممارسة شعائرهم
الدينية، حتى إن مجرد بناء مسجد قد يدفع المسلمون ثمناً له عشرات الشهداء والجرحى،
ومثال ذلك ما حدث في أبريل 1990م في قرية بارين جنوب كاشغر عندما أراد المسلمون
بناء مسجد فاعترضتهم السلطات الشيوعية، واشتبكت معهم، وأطلقت عليهم الرصاص، ثم
قصفت القرية بالمدافع والطائرات، فبلغ عدد القتلى بضع مئات، واعتُقل أكثر من 1000
شخص، ولا يزال بعض من أُلقي القبض عليهم في السجون حتى اليوم. وتشير تقارير منظمة
العفو الدولية إلى حرمان أفراد الشعب التركستاني من ممارسة حقوقهم المشروعة؛
كالتعليم، وحرية التعبير والانتقال، إلى جانب الاعتداء البدني عليهم بالمطاردة
والاعتقال والقتل أحياناً.
وممَّا يفاقم من أزمة
مسلمي تركستان أن القوانين تحظر تلقي التعليم الديني لأقل من 18 عاماً، فيُمنع
التلاميذ في المدارس والجامعات من تأدية الصلاة وصوم رمضان وحمل المصاحف أو
امتلاكها، فتنشأ الأجيال الجديدة بعيدةً عن الإسلام سوى ما تتلقاه من النزر اليسير
في محيط الأسرة، وإمعاناً في طمس الهوية الإسلامية تم إلغاء اللغة الإيجورية التي
تُكتب بالحروف العربية، وكان يستخدمها مسلمو تركستان.
صيغة عادلة:
كانت الحكومة الصينية
تفرض تعتيماً صارماً على ما يحدث في شينجيانج حتى تفجَّرت أحداث يوليو 2009م، وهي
الأعنف من نوعها، حتى إنها اضطرت الرئيس الصيني إلى قطع اجتماعاته في قمة مجموعة
الثماني والعودة سريعاً إلى بكين لاحتواء الموقف، ورغم تضارب الأنباء حول أسباب
الأحداث التي تزعم المصادر الرسمية أن عناصر الأمن رصدت ثلاثة من الإيجور يحملون
سكاكين طويلة ويطاردون إيجورياً آخر فقامت بإطلاق النار عليهم فقتلت اثنين منهم
وأصابت الثالث، وثمة تقارير إخبارية أشارت إلى أن الأزمة بدأت من شائعة انطلقت في
أحد مصانع مدينة شاوغوان الجنوبية بأن العمال الإيجوريين اغتصبوا فتاتين من قومية
الهان تعملان في المصنع، فهجم العمال الهان على زملائهم الإيجوريين فقتلوا اثنين
منهم وجرحوا العشرات، فثار الإيجور في أورمتشي عاصمة الإقليم وأحرقوا إطارات
السيارات ودخلوا في مصادمات مع الشرطة التي استخدمت الرصاص الحي وقنابل الغاز
المسيل للدموع لتفريق التجمعات الغاضبة، وفي اليوم الثالث بدأت حشود من عرقية
الهان بمهاجمة منازل الإيجور وممتلكاتهم ومساجدهم، فأعلنت السلطات حظر التجوال،
وشددت قبضتها على العاصمة بالآلاف من جنود الجيش.
وأياً كانت الحقيقة وراء
نشوب الأزمة ومساراتها المتشعبة، فإن تداعياتها وطريقة معالجتها تمثل أنموذجاً
لتعامل السلطات الخشن مع مسلمي تركستان، وقد دعت السيدة ربيعة قدير إلى إجراء
تحقيق دولي واتهمت الحكومة الصينية باستغلال الظرف العالمي الذي تجتاحه حمى مواجهة
الإرهاب، للتعمية على ما تمارسه بحق المسلمين. وتؤكد ربيعة أن لديها شهادات من
أبناء الإيجور بأن حصيلة القتلى تصل إلى المئات، وليس 184 كما تقول إحصاءات
الحكومة الصينية. وربيعة قدير لمن لا يعرف، ناشطةٌ مسلمةٌ من شينجيانج تعيش في
الخارج منذ سنوات، وتتزعم منظمة مؤتمر الإيجور العالمية التي تنادي باستقلال
التركستان، وتتهمها الصين بالعمالة للغرب.
مرة أخرى، وفي أواخر
فبراير الماضي، تجدد العنف في تركستان عندما هاجمت مجموعة من الملثمين الذين
يحملون الأسلحة البيضاء المارةَ في أحد شوارع مقاطعة يتشنج، فقتلت 10 أشخاص، ثم
تدخلت قوات الشرطة فقتلت ثلاثة من الملثمين، ولم تفصح السلطات حتى الآن عن هوية
المهاجمين أو أسباب المذبحة التي يضعها المراقبون السياسيون إلى جوار أخواتها في
سلسلة الاضطهاد والعنف اللذين يمارسان ضد مسلمي الإقليم منذ سنوات طويلة.
ومن اللافت أن العالم
الإسلامي - باستثناء بعض الدول - لا يُظهر أي لون من التضامن مع مسلمي تركستان،
حتى دول الجوار مثل: كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وباكستان؛ ترفض
اللاجئين الإيجور، ونحن بالطبع لا نطالب العالم الإسلامي بالتدخل عسكرياً أو قطع
العلاقات مع الصين احتجاجاً على ما يحدث في التركستان، ولكن على الأقل من الممكن
أن تتحرك الدول الإسلامية الفاعلة على المستوى الدبلوماسي مع الجانب الصيني للتخلي
عن تلك الممارسات العنيفة بحق المسلمين، وينبغي أن تعمل المؤسسات والهيئات
الإسلامية الكبرى لتفعيل القضية على المستوى الدولي للفت الانتباه إلى تلك المأساة
الكئيبة التي يعانيها مسلمو الإيجور منذ عشرات السنين.
ويؤكد كثير من المحللين
والمراقبين أن مثل هذه الأحداث الدامية مرشَّحةٌ للتكرار ربما بعنف أشد وقسوة أعظم
ما لم يتم حل أزمة مسلمي الإيجور بشكل نهائي بعيداً عن سياسة العصا الغليظة،
والقبضة الحديدية، وعبر مفاوضات وحوار جاد بين السلطات الرسمية ومسلمي تركستان؛
للتوافق على صيغة عادلة تحميهم من الممارسات الحكومية العنيفة، وتسمح لهم
بالمشاركة بفاعلية في إدارة شؤون بلادهم، وتحافظ على هويتهم الإسلامية بتخفيف
القيود المفروضة عليهم دينياً وثقافياً واجتماعياً، وتعمل على تحسين مستويات
المعيشة لأبناء الإقليم المكتظ بثرواته الطبيعية الضخمة.
:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.