الشاعر عصام الغزالي أحد هؤلاء الشعراء الذين شدُّوا الرحال إلى المسجد الحرام، وهناك فاضت مشاعره، وجرى الشِّعر العذب على لسانه في قصيدة عنوانها: «ضيوف الله»
ما أعظم الحج من فريضة جامعة! وما أبهى المسجد الحرام من بيت تهوي إليه أفئدة
المؤمنين! وما أجَلّ الله -سبحانه وتعالى- مِن مَلِك عظيم ينادي في عباده قائلاً:
{وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:
196]!
ويخاطب خليله إبراهيم -عليه السلام- قائلاً: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
[الحج:
27].
لقد استجاب المؤمنون من كل حَدب وصوب لدعوة ربهم، فقصدوا مكة والمدينة حُجَّاجًا
ومُعتمِرين، وكان الشعراء -القدامى والمعاصرون- بما أُوتوا من عواطف جيَّاشة ومشاعر
نبيلة في طليعة أهل الإيمان، وكان بدهيًّا في ظل هذه التجربة الشعورية الإيمانية أن
تفيض ألسنتهم بأصدق الشعر وأعذبه.
والشاعر عصام الغزالي أحد هؤلاء الشعراء الذين شدُّوا الرحال إلى المسجد الحرام،
وهناك فاضت مشاعره، وجرى الشِّعر العذب على لسانه في قصيدة عنوانها:
«ضيوف
الله»،
وهي قصيدة رائعة؛ لما تتَّسم به من نُبْل المضمون وجمال الأداة.
إن عنوان القصيدة:
«ضيوف
الله»،
عنوان مُوحٍ، فإذا كان الحُجاج والمعتمرون -والشاعر منهم- ضيوفًا على الله؛ صار
فضلاً من الله -سبحانه- أن يُكرمهم، ويمحو خطاياهم، فيعودوا كيوم ولدتهم أمهاتهم،
وذلك فضلاً عما في إضافة الضيوف إلى الله مِن تشريف وتعظيم لهم.
وإذْ وُفِّق الشاعر في اختيار عنوانه؛ فقد وُفِّق أيضًا في استهلال قصيدته؛ حيث
يقول:
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى
فلما شددنا إليه الرحالا
تجلَّى علينا فجُزْنا المجالا
ركعنا خُشَّعًا نُلبِّي الجلالا
وهرولتُ في الموج، والليل زالا
ذهولاً .. وشوقًا .. ودمعًا توالى:
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى[1]
فالشاعر الذي عاين الجمال في البيت الحرام، كان لزامًا أن يُعظِّم سيِّد البيت
-سبحانه-، صاحب الآلاء العظيمة والنعم الوفيرة، وهو هنا لا يُصرِّح باسم الله
-تبارك وتعالى-؛ وذلك لأن السياق دالّ عليه دلالة ناصعة، فضلاً عن هيمنة المَلِك
العظيم على فِكْر الشاعر ومشاعره، فمن أجله شدَّ الرحال، وأقبل على البيت، فطاف
بالكعبة المشرَّفة، وسعى بين الصفا والمروة.. ومِن ثَم فهو بكيانه وبيانه متَّجه
إلى الله دالّ عليه.
لقد تجلى الله -سبحانه- على الحجيج؛ فإذا بهم يتحررون من رِقّ الطين الآسِن إلى
فضاء الروح الطاهر، فأضحوا مُلبِّين خاشعين راكعين ساجدين.
والشاعر هنا يُصوِّر نفسه -بعدما زال الليل المظلم بخطاياه- مهرولاً في بحر الطاعة،
وقد صفَت روحه وذهل عقله، واشتاق قلبه، وإذا بالدمع الغزير يتوالى، وإذا باللسان
يلهج بالبيت المحور الذي تدور حوله القصيدة كلها:
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى
نعم لقد خلّف الشاعر الطين، وأطلق لروحه العنان، فلا هو يدبّ على الأرض، ولا هي
تحتويه، وقد كحَّل عينيه بنور الإيمان، وأمسك بيمينه حبل الهداية، معتصمًا بالله
القوي المتين، وإذا بشلال الحمد يتدفق من لسانه، وإذا بالحنين يغرد: لبيك اللهم
لبيك.
وأطلقتُ روحي وخلفتُ طيني
فلا الأرض تحتي ولا تحتويني
تدفقتُ حمدًا ولبَّى حنيني
وكحلتُ عيني بنور اليقينِ
وأمسكْتُ حبل الهدى باليمينِ
ومن يعتصم بالقوي المتينِ
ينادي .. يدك النداء الجبالا
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى
لقد أقبل وفد الحجيج على الله دامعة عيونهم، يسابقون المدى، ويمتطون البحار، أقبلوا
على الله فأقبل الله عليهم ودنا منهم، وهناك أفضوا إلى ماء زمزم؛ فشربوا وارتووا،
فسبحان مَن فجَّر الصخر بالماء العذب الزلال:
على دمعنا يا عيوني أتينا
ذرعنا المدى وامتطينا اللُّجينا
وكنا مع الله .. لما نوينا
إلى الله سرنا العصاة الهوينى
وسرعان ما كان أدنى إلينا
وفضنا إلى زمزم فارتوينا
فمن فجَّر الصخر ماء زلالا؟!
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعال
وهنا يطرح الشاعر عددًا من الأسئلة جوابها واحد هو: الله -سبحانه-، وكأنما أراد
الشاعر أن تلهج ألسنة الحُجّاج والمعتمرين بذِكْره، فهو ربّ الضيوف، وفاتح باب
التوبة، ومَن بذِكْره يأنس العاكفون، وهو واهب النور، وناشر الطيب بين صفوف
المؤمنين، وهو -سبحانه- الذي ألبس الكون هذا الجمال والبهاء، فله المجد والكبرياء؛
تعالى سبحانه علوًّا كبيرًا:
ومن صاحب البيت رب الضيوف؟!
ومن فاتح البيت قبل الوقوف؟!
ومن كلمة الذكر أُنس العكوف؟
ومن واهب النور جلّى حروفي؟!
ومن ناشر العَرف بين الصفوفِ؟!
له المجد في كبرياء عطوفِ؟!
ومن ألبس الكون هذا الجمالا؟!
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى
وفي المقطع الأخير من هذه القصيدة نلمس المفارقة التصويرية بين حالتين؛ حالة الحجاج
والمعتمرين في ساحات الأنوار، وحالتهم حينما يعودون إلى ديارهم وأزواجهم وأولادهم،
فيلهون ويتعالون، ويغفلون عن تلاوة القرآن الكريم والعمل بما فيه، فإذا بهم
يتعثرون، ومِن ثَم يجيئون إلى الله شاكين قسوة قلوبهم، تائبين باكين لتفريطهم
وذنوبهم، وهو -سبحانه- يتوب عليهم، ويُطهِّرهم ويُزكّيهم ويغفر ذنوبهم، فتعالى
سبحانه علوًّا كبيرًا:
وما بالنا حين عُدنا لَهَوْنا؟!
فما عدتُ أمشي على الأرض هونا
تلونا .. ولم نتَّبع ما تلونا!
وعادت حياتي قشورًا .. ولونا
إذا ما طلبنا التزكي .. زكونا
فما بالنا إن عثرنا شكونا
وجئناه .. نبكي لديه المآلا
تعالى .. علوًّا كبيرًا .. تعالى
وفي هذا المقطع تتجلى واقعية الشاعر حيث لمس جانبًا إنسانيًّا مهمًّا في حياة
الناس، وهو تقلُّب النفوس البشرية.. فمن غفلة وبُعْد إلى ذِكْر وقرب، ومن كسل وفتور
إلى همة ونشاط، ومن معصية وذنب إلى طاعة وتوبة.
والقصيدة في مجملها تُمثِّل صورة كلية نبصر فيها اللون في ظلام الليل، وهو هنا رمز
للحظات المعاصي التي جاوزها الشاعر في رحلته إلى الله، كما نبصر النور يفيض في
جنبات البيت الحرام، ونشمّ رائحة أهل الإيمان الذكية، ونسمع نداء المؤمنين الذي
يَدُكّ الجبال، وأصواتهم حين يلهجون بالتلبية والتسبيح والتهليل، وتلاوة القرآن
الكريم، فنشعر بمزيد من الإخبات والخشوع.
كما نلمس الحركة في هرولة الشاعر في بحر الطاعة ذي الأمواج المتتابعة التي يسابق
بعضها بعضًا كما يتسابق المؤمنون في طريقهم إلى الله، وكذا نلمسها في توالي دموع
التوبة، وانطلاق الروح، وتدفُّق شلال الحمد، وتفجُّر الماء الزلال من عين زمزم
الماء الطهور المبارك.. كل ذلك يُحرّك في نفوسنا أشواقًا ساكنة، وعواطف كامنة نحو
البيت الحرام، كما يدفعنا دفعًا إلى مزيد من ذِكْر الله والعبادة.
ولقد أبدع الشاعر أيضًا في بعض الصور الجزئية بالقصيدة، منها: وكحلت عيني بنور
اليقين، ذرعنا المدى وامتطينا اللُّجينا، له المجد في كبرياء عطوف.. ولك أن تتخيل
اليقين كحلاً، واللُّجين دابة تُمتَطى، والكبرياء ملكًا عطوفًا.
واللغة في القصيدة سهلة طيِّعة لا غموض فيها ولا غرابة، كما نلمس بالقصيدة صدق
العاطفة وحرارة الوجدان منذ أول أبياتها إلى منتهاها.
وفي القصيدة تأثُّر بالقرآن الكريم في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران:
103]،
وذلك في قول الشاعر:
وأمسكت حبل الهدى باليمين
ومن يعتصم بالقوي المتين
كما نلمس تأثُّرًا بالحديث القدسي الشريف، الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه عن ربه -عز وجل- قال:
«إذا
تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقربت منه
باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة»[2]،
وذلك في قول الشاعر:
إلى الله سرنا العصاة الهوينى
وسرعان ما كان أدنى إلينا
وبمعاودة النظر في هذه القصيدة؛ نجد أنها جاءت من مشطور المتقارب، وهي تتألف من
خمسة مقاطع، وقد حوى كل مقطع ثمانية أبيات، وقد اختلف حرف الرَّويّ في كلّ مقطع؛
فمن اللام المشبعة بالفتح في المقطع الأول، إلى النون المشبعة بالكسر في المقطع
الثاني، ثم النون المشبعة بالفتح في المقطعين الثالث والخامس، فالفاء المكسورة في
المقطع الرابع، ولا يخفى ما في الإشباع بالفتح خاصةً من انسجامٍ مع رحابة الجو
النفسي داخل هذه القصيدة.
والشاعر في كثير من أبيات القصيدة يلزم ما لا يلزم في القافية، كما في المقطع
الثالث؛ حيث تنتهي الأبيات بالكلمات: نوينا، الهوينى، ارتوينا..، وفي المقطع
الأخير تلونا، ولونا..
كما نلمس جمال الجناس الناقص في قوله: فلا الأرض تحتي ولا تحتويني، والطباق
السَّلبي في قوله: تلونا ـ ما تلونا، ورد العجز على الصدر حيث تبدأ القصيدة وتنتهي
-وكذا كل مقطع من مقاطعها- بشطر واحد.
ومما يُضْفِي على القصيدة أيضًا جمالاً يُرى ويُحَسّ: التكرار؛ فمن ذلك تكرار البيت
المحور: تعالى علوًّا كبيرًا تعالى، كما نلمس أيضًا تكرار الصدارة في المقطع الرابع
من هذه القصيدة حيث يكرر اسم الاستفهام مَن: ومن صاحب البيت..، ومن فاتح الباب..،
ومن واهب النور... زيادةً في التأكيد واستكثارًا من الذِّكر واستشعارًا لحلاوة
الوصال.
والحمد لله أولاً وآخرًا.
[1] عصام الغزالي، دمع في رمال، قصيدة ضيوف الله، بدون دار نشر، ط2، 1429هـ -
2008م، 31، وانظر القصيدة كاملة 31-33.
[2] رواه البخاري (أبوعبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256هـ)، صحيح البخاري،
كتاب التوحيد 97، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربّه 50، دار ابن
كثير، دمشق، ط1/1423هـ - 2002م، ص1863، حديث رقم 7536.