• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التوازنات الصعبة

تبقى بُؤَر التوتر التي تزداد عددًا رهينة بمقاومة الزعامات المحلية للتدخلات الخارجية التي إن سمح لها فهو بداية الانزلاق لصراع بالوكالة، فتدخُّل أمريكا في تايوان، وعودتها لزيادة قواعدها العسكرية في الفلبين نذير شر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

لقد كانت إرادة الله أن يخلق آبانا آدم، وأن يجعله وذريته خلفاء في هذه الأرض، وأن يُسلّط عليهم إبليس وأعوانه، وأن تكون حياة الأمم والشعوب، بل حتى الأفراد والجماعات، تسير وفق ناموس ثابت أساسه الصراع الأبدي الذي يَحفظ التوازن، ويسمح لأصحاب المشاريع أن يصلوا لمبتغاهم؛ قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال تعالى: {ولَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]؛ فعند الله عِلْم، وله حِكْمة في كل أمر؛ فله الفضل والمنة.

وحيث إننا نعيش إحدى فترات التدافع العام الذي يتميز بالصراع الشامل على جميع الأصعدة؛ السياسية والعسكرية والاقتصادية، والأهم هو تصدُّر وهيمنة صراع الهويات على المشهد؛ فالدين والمُثُل والمبادئ والخلفيات الفكرية والثقافية حاضرةٌ بقوة مع انتهاء فترة كلٍّ من المد الإلحادي والدول القومية؛ فالاتحاد الأوروبي -الذي يتكون من دول قومية تدعي العلمانية- كشف عن وجهه الحقيقي أنه نادي أوروبا المسيحية تحت رعاية الفاتيكان، والروس يحاولون إعادة الحياة للكنيسة الأرثوذكسية لتستند عليها دولتهم الجديدة التي ترى نفسها امتدادًا لروسيا القيصرية، ومِثلها الجمهورية التركية الجديدة التي تحاول الدخول إلى القرن التركي من الباب السلجوقي والعثماني، وما يَعنيه ذلك من استرجاع التاريخ المغيّب والهوية التي تم مَسْخها.

ولذا يُتوقع أن يقوم الصراع المستقبلي في المنطقة على الأُسُس القديمة، وبمرور سريع على شريط الأحداث؛ نتوقف عند حرص الغرب الشديد على ضمّ فنلندا والسويد لحلف الناتو، وتكرار حرق وتمزيق نُسَخ من القرآن الكريم في السويد، وبصورة استفزازية، وموقف الغرب من ضم أوكرانيا لحلف الناتو، ومن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وردود فعل الروس على لعبة العرائس السياسية التي تجري أمامهم؛ فمن ناحية تحوُّل فنلندا والسويد من سياسة الحياد طوال السنوات الماضية، وابتعادهما عن الصراعات الأوروبية لفترات طويلة إلى رغبتهما الشديدة للدخول في حلف الناتو، والذي أراه أن الحكومات الأوروبية، في مُجملها، أصبحت واقعة تحت تأثير أمريكا؛ فدخول الدولتين في الحلف يُدْخِل أمريكا القطب الشمالي، مما يُشكِّل تهديدًا لأمن روسيا.

 ومن ناحية أخرى فهو يُدْخِل فنلندا والسويد في بؤرة الصراع، وبالتالي فهناك قلق وخوف؛ فالسويد سبقت الجميع في لبرلة المجتمع الذي ذهب بعيدًا في الشذوذ، وفقدان المُثُل، ولذا نجد أن هناك مَن يحاول استعادة القيم للمجتمع؛ فزوجة رئيس وزراء السويد تقابل زوجة أردوغان وهي ترتدي الصليب، ومسلسل حرق القرآن يهدف جزئيًّا لإثارة العداوة بين السويديين والمسلمين، وبالتالي إحياء الحمية الدينية النصرانية، وهناك احتمال آخر، وهو أن المُعارِضين لدخول بلادهم للحلف يحاولون استفزاز تركيا لمنع دخول السويد للحلف، وفي كلتا الحالين، فهو فِعْل مشين يمارسه فاقدو المبادئ الذين أَمِنُوا العاقبة لضعف الأمة وهوانها على الناس.

وأما بالنسبة لقمة الناتو؛ فأهم نقطة هي انضمام السويد وأوكرانيا، ولذا فقد تعرَّضت تركيا لضغوط كبيرة حاولت التملص منها، فوافقت على انضمام أوكرانيا، وربطت الموافقة على انضمام السويد بدخول تركيا الاتحاد الأوروبي، وبينما أيَّدت أمريكا والسويد الانضمام!! فقد اعترضت ألمانيا، وفي النهاية هي مناورات سياسية، وكما رمى بايدن الكرة في ملعب الكونجرس في بيع طائرات إف16 لتركيا؛ فقد رمى أردوغان الكرة في ملعب مجلس النواب التركي بقصد التعطيل ومزيد من التشاور مع الروس الذين مع امتعاضهم العلني من الموقف التركي من الموافقة على انضمام أوكرانيا للحلف، وهو موقف غير مؤثر؛ لأن أمريكا وألمانيا ترفض انضمام أوكرانيا، وتستبدله بدعم عسكري مستمر ووعد بالانضمام، ولكن المزعج للروس هو موضوع السويد.

ويمكن تلخيص الموقف الروسي من مقررات المؤتمر في تصريح المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا؛ بأن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي أو تطبيق ما يُعرَف بالنموذج الإسرائيلي للتعاون بين الجانبين؛ لا يمكن أن يُساعد في تسوية الوضع بأوكرانيا، وهو تصريح مُهِمّ يُبيّن قلق الروس من كيان إسرائيلي جديد في أوكرانيا يتمتع بالحماية والرعاية الغربية.

وأما بخصوص انضمام السويد لحلف الناتو؛ فقد أشارت موسكو إلى أن تركيا عضو في حلف الناتو، ولديها التزامات في هذا الصدد، وبالتالي لم يكن لديها أوهام حول أن تركيا ستمنع انضمام أعضاء جدد للناتو، لكنَّ موسكو كانت تراهن على أن تركيا يمكن أن تلعب دورًا لصالح روسيا، لذلك وجَّهت نصيحة لأنقرة بأن لا تتوهم انضمامها للاتحاد الأوروبي، وأنه لا أحد من الأوروبيين يريد رؤية تركيا في أوروبا.

وفي المحصلة مازالت المناورات جارية؛ فأردوغان يصرح بأن بوتين سيزور أنقرة في أغسطس، وبوتين يتلكأ في تمديد اتفاقية الحبوب الضرورية لأوروبا، والغرب يريد استمرار الحرب في أوكرانيا واستنزاف روسيا وحصارها، ولكنَّ عيون الحلف على الشرق الأوسط؛ فقد ذكروا تمتين التعاون مع العراق والأردن وتونس وموريتانيا التي يبدو أنها مرتكزات غربية لصراعات قادمة.

وإذا دقَّقنا في أحداث السودان يتبين فشل مؤتمر الإيجاد في أديس أبابا، وأن عنتريات آبي أحمد ومثله الرئيس الكيني كانت فارغة، وأن عودة القاهرة للساحة السودانية يشي بحالة التجاذب الإقليمي والدولي حول السودان الذي قد يتحول إلى منطلق لبدء الصراع على إفريقيا، ولا يُستبعد أن يدفع زعيما إثيوبيا وكينيا ثمن تبنّيهم المشروع الغربي في السودان.

وحتى نعرف حالة التجاذب العالمي؛ فهناك حفاوة غربية أثناء زيارة رئيس وزراء الهند لكل من أمريكا وفرنسا على الرغم من سياسة الهند المعلنة بتأييدها عالم متعدد الأقطاب، وعلى الرغم من علاقاتها الوطيدة مع روسيا، ولكنَّ التوتر مع الصين يعطي الهند قيمة في موازين القوى في منطقة المحيطين الهادي والهندي التي تشهد حاليًّا مرحلة اصطفاف وتنافس، والدليل ما جرى أثناء مؤتمر الآسيان (دول جنوب شرق آسيا) الذي عُقِدَ في عاصمة إندونيسيا؛ حيث حضر كل من وزراء خارجية أمريكا وروسيا والصين، ومع حرص الوزراء الثلاثة على التقرب من أعضاء الرابطة ولبس أزيائهم التقليدية؛ فقد كان التوجه العام هو حرص الأعضاء على تجنُّب أن تعود المنطقة مكانًا لحروب الوكالة.

وتبقى بُؤَر التوتر التي تزداد عددًا رهينة بمقاومة الزعامات المحلية للتدخلات الخارجية التي إن سمح لها فهو بداية الانزلاق لصراع بالوكالة، فتدخُّل أمريكا في تايوان، وعودتها لزيادة قواعدها العسكرية في الفلبين نذير شر، واهتمام الناتو بالعراق والأردن وتونس وموريتانيا علامة احتمال نشوب صراع على النفوذ في الشرق الأوسط الكبير، فلنا عبرة مما جرى في العراق وسوريا، مع العلم أن أمريكا نفَّذت مشروعها الإجرامي في المنطقة وقت أن كانت متفردة بالقوة والنفوذ العالمي، ولم تكن إيران وروسيا إلا أتباعًا ومستأجرين؛ فتفريغ المنطقة من السُّنة مشروعهم، وتدمير الموصل وحلب تم بمكرهم وتدبيرهم، ولا يغرّنا معسول قولهم؛ فهم دائمًا كما قال تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلًّا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} [التوبة: 8].

ولا مخرج لنا إلا بالعودة إلى الله، والتمسك بحبله المتين، وتلمُّس المخارج، فصراع النفوذ على المنطقة يُدْخلها في وَضْع حَرِج تحتاج فيه الأمة إلى مَن يجيد لعبة التوازنات الصعبة، ومن يخاف على مستقبل الأُمّة، ويُحذِّرها من أسباب الهلاك والعقوبة؛ فعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي # دخل عليها فَزِعًا، يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلَّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث. (متفق عليه).

 

 

أعلى