حميد الله الحيدر آبادي: راهب في محراب العلم والبحث

هذه سطور عن حميد الله الحيدر آبادي، الذي تستحق حياته أن تُدَرَّس، لتكون قدوةً ومنارةً للنشء الجديد، فحياته تُعلّمنا الكثير من الدروس والعِبَر، تُعلِّمنا معاني الصبر والتضحية، وتُلهمنا بالعزم والتحدّي والإرادة


كان يتقن أكثر من عشرين لغة، وفي التسعينيات من عمره أخذ يتعلم اللغة التايلاندية، حقَّق مئات الكتب، وكتَب عشرات البحوث، وعاش في أروقة العلوم، وأسلم على يديه المئات من المفكرين والأكاديميين، عاش وفيًّا لأُمّته، أبيًّا برسالته وعقيدته، لم يَستسلم للتحديات، ولم يطمع في المناصب، عاش بعيدًا عن الأضواء، رافضًا الجوائز والأوسمة، ومنفقًا نفائس ما يملك في إحياء التراث العربي والإسلامي، وكان شغوفًا بمطالعة الكتب وزيارة المكتبات حتى وصفه الغرب بأنه قارض المكتبات؛ إذ كان بحَّاثًا ولقَّاطًا يبحث ويلتقط ويتتبّع كل ما يجد أمامه من العلوم.

وهذه سطور عن حميد الله الحيدر آبادي، الذي تستحق حياته أن تُدَرَّس، لتكون قدوةً ومنارةً للنشء الجديد، فحياته تُعلّمنا الكثير من الدروس والعِبَر، تُعلِّمنا معاني الصبر والتضحية، وتُلهمنا بالعزم والتحدّي والإرادة، وتُخبرنا بأن العمر إنما يُوزَن بالأعمال، بالخدمات، لا بالشهرة والجاه الذي يتلاشى ويضمحل عما قريب.

وُلِدَ حميد الله الحيدر آبادي عام 1908م في حيدر آباد في أسرة النوائط التي تمتدّ جذورها إلى قريش، وكان أجداده يسكنون البصرة؛ إلا أنهم هاجروا منها أيام الحجاج بن يوسف ليستوطنوا في أنحاء الهند، فكانت أُسرته معروفة بالدين والعلم، وقد برَز منها عدد من رجال الدولة والعلماء والفقهاء والقضاة والصوفية الذين قاموا بخدمات جليلة في العلوم الدينية تحقيقًا وتأليفًا، والأسرة جميعًا كانت تهتم بالعلم وتتمكن من العربية والفارسية والأردية تمكنًا عجيبًا مما يخبر عن مدى وَلع هذه الأسرة الكريمة بالعلوم الدينية، فمن أعلام هذه الأسرة والده المفتي أبو محمد خليل الله الذي كان قاضيًا في حيدر آباد، وكان رائد مؤسسة «نظام مالي خالٍ من الربا» في سلطنة آصفيا النظامية بحيدر آباد، وأخوه حبيب الله الذي قام بترجمة «أنساب الأشراف» للبلاذري إلى اللغة الأردية، كما قامت أخته الشيخة أَمَة العزيز بترجمة شرح صحيح مسلم للإمام النووي إلى اللغة الأردية.

وقد استقى الدكتور حميد الله العلوم من الأساتذة الكبار في أيامه؛ من أمثال: مناظر أحسن الكيلاني، والمولوي عبد الحق، والأستاذ عبد القدير الصديقي، والأستاذ عبد المجيد الصديقي، والمفتي عبد اللطيف، والمولوي صبغة الله، والدكتور سيد عبد اللطيف، وحسين علي ميرزا؛ مما ساعده على تكوين عقلية واعية وشخصية علمية عالية.

فرحلة حميد الله بين أروقة العلوم جديرة أن تُنْقَش على لوحة الزمان بحبر من الذهب، رحلات مستمرة، وتضحية نادرة، وجهد استثنائي فريد حتى تأخَّر عن قطار الزواج وسط هذه الزحمة التي قادته نحو محاريب العلوم، فتبتل فيها تتبُّل الراهب، ليكتب عنه العالم السوري والكاتب الكبير عبد الفتاح أبو غدة في كتابه المشهور «العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج».

وظل حميد الله يستنشق نكهة العلوم بروحه وقلبه، ويصرّ على إحياء العلوم الدينية وتلخيصها، وتخليصها من غبار الاستشراق والتغريب، فوقف يتصدى لحملات الاستشراق التي استهدفت تراث المسلمين والعرب، وأيقظ الأُمَّة، وحث المسلمين على الصحوة العاجلة.

ومما يدل على إصراره ووفائه لأُمّته: رَفْضه التام للحكومة الهندية أعقاب الاستقلال؛ حيث قامت الهند بضم دولة حيدر آباد ضمة قسرية إلى اتحادها، وقتها احتج حميد الله، ورفض أن يعيش في الدولة الجديدة، فسافر إلى فرنسا، وعاش فيها، ومعه جواز حيدر آبادي، يُعبِّر عن شَوقه وحنينه إلى منزله الأول، وحتى بعد عدة محاولات من الدول الإسلامية وفرنسا لمَنْحه الجنسية، لكنه أبى إباء الكرام ليكون مهاجرًا في سبيل الله، عالمًا بلا وطن. حتى تُوفِّي الدكتور في أمريكا ومعه جواز وطنه القديم «دولة حيدر آباد»، وقد قال أبو تمام:

نَقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدًا لأول منزل

المسيرة العلمية

ترك حميد الله أثرًا كبيرًا في مجال العلوم الدينية؛ من أهمها: السيرة النبوية والحديث والتفسير، وقد قام بتفسير القرآن بثلاث لغات عالمية؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وخطفت هذه الأعمال الروائع انتباه المفكرين الغربيين، وأشادوا بهذا الجهد الجبّار ليكون تفسيره الفرنسي أشهر وأوسع تفسير في فرنسا كلها.

وفي مجال التحقيق كانت له إسهامات قيّمة، من أبرزها تحقيقه لصحيفة همام بن منبه، وفي مقدمته الضافية له كلام طويل عن تاريخ تدوين علم الحديث الذي يُفنِّد كثيرًا من انتقادات المستشرقين أمثال جولدزيهر وشاخت الذين أثارا شكوكًا وأوهامًا بشأن مدى صحة وقبول كتب السُّنَّة السَّتة، واعتمد في تحقيقها على نسختين وجد إحداها في برلين أثناء دراسته في ألمانيا، وأخراها في المكتبة الظاهرية بدمشق.

كما حقَّق حميد الله السيرة النبوية لابن إسحاق التي تُعدّ أول مصدر للسيرة النبوية؛ حيث عثر على نسخة خطية لها في المكتبة الظاهرية أيضًا، ونسخة خطية أخرى في مكتبة جامعة القرويين، فأَعَدَّ الدكتور الكتاب بالمُقابَلة بين النسختين، وطُبِعَ في الرباط في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب.

وله كتب أخرى في مختلف فنون التحقيقات؛ منها: المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، قام بتحقيقه مع محمد بكير وحسن حنفي، وطبعه المعهد الفرنسي بدمشق. ومنها: معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر لابن العراق، وصدر ذلك عن مجمع البحوث الإسلامية بإسلام آباد مع تحقيق الدكتور حميد الله.

وبجانب هذا له أعمال في اللغة والأدب مثل كتاب «الأنواء في مواسم العرب» لابن قتيبة؛ قام بتحقيقه بالاشتراك مع «شارل بلا»، وصدر عن دائرة المعارف العثمانية. وكتاب «الذخائر والتحف» للقاضي رشيد بن الزبير، الصادر عن دائرة المطبوعات والنشر بالكويت. وكتاب «النبات» لأبي حنيفة الدينوري. وكتاب «تاريخ تطور الدستور عند المسلمين»؛ الذي بحث فيه عن الوثائق الدستورية في مكة قبل الإسلام ومن العهد النبوي إلى نهاية العصر الأموي. وكتاب «أديان العالم ومقارنتها».

ومن روائع أعماله كتاب «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة»، هذا الكتاب الذي يُعدّ أروع أعماله، وهو في الحقيقة رسالة قدّمها إلى جامعة السوربون للحصول على شهادة الدكتوراه. وقد طُبع بالعربية بالإضافات والتنقيحات.

جمَع فيه الوثائق السياسية الخاصة بعهد الرسول، وفي أيام الخلافة الراشدة. وبلغ عدد الوثائق التي جمعها الدكتور حميد الله 373 وثيقة.

والكتاب ينقسم إلى أربعة أقسام؛ القسم الأول: يشتمل على وثائق الرسول قبل الهجرة.

 والقسم الثاني: يحتوي على الوثائق التي كُتِبَت بعد الهجرة؛ يبدأ هذا القسم بالوثيقة المكتوبة في تحديد الواجبات والحقوق بين المهاجرين والأنصار واليهود، وتُعدّ هذه الوثيقة أول دستور للإسلام. ثم ذكر الوثائق الخاصة بالعلاقات مع الروم والفرس وبين القبائل العربية.

ويحتوي القسم الثالث على الوثائق التي كُتِبَت في عهد الخلافة الراشدة، سجَّل فيها وثائق خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على الترتيب.

ويشتمل القسم الرابع على ملاحق ذكر فيها العهود مع اليهود والنصارى والمجوس، ثم ألحق به الوثائق التي عثر عليها فيما بعدُ.

وفي آخر الكتاب وضع فهارس تشمل الصور والخرائط والجداول.

وطُبع الكتاب باللغة الفرنسية سنة 1935م، ثم نقله إلى العربية وطُبع في القاهرة سنة 1941م، ثم أعيدت طباعته عدة مرات.

وله عدة محاضرات عرفت بـ«الخطابات البهاولبورية» التي قام بها الدكتور في بهالبور مناقشًا ومُتطرّقًا إلى أهم القضايا الإسلامية، ومجيبًا ومُفنِّدًا للشبهات والانتقادات التي طالت قداسة الدين.

 وقد تناولت هذه الخطابات موضوعات شتَّى من تاريخ علم الحديث، والسيرة النبوية، والعقيدة والتصوف وتاريخ الفقه، وغيرها من القضايا الساخنة.

إن حياة الدكتور حميد الله مُلهمة فعلًا، وتُعدّ فصلًا راقيًا من فصول الجهد والإرادة ينبغي لطلاب العلم والنشء الجديد أن يُطالعه حقّ المطالعة.

وقد ترجَّل الفارس عام 2002م؛ بعد هذا العطاء المستمر والقلم النابض الذي وَقَفَه في سبيل خدمة الدين والدعوة الإسلامية.

أعلى