• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المقاصد الجلية في تشريع الأضحية

إن شعيرة الأضحية تذكيرٌ لعامَّة المسلمين بتلك التضحية التي أقدم عليها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حين أُمِرَ بذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام-، فما كان منهما سوى الامتثال والإذعان لحكم رب العالمين، وما كان جزاؤهما سوى تخليد ذِكْرهما ورَفْع قَدْرهما


تتلهّف قلوب المسلمين كلّ عام احتفاءً واحتفالًا بعيد الأضحى المبارك؛ فتجدهم يتسارعون في شراء الأضحية؛ كلٌّ حسب نيته وقصده. ولا يَخفى على أيّ مسلم عاقل متتبّع لأحوال المسلمين في مثل هذه المناسبات الدينية ما يراه من تهافُتٍ وَصَل إلى حدّ التباهي والتفاخر، بل إلى درجة أن يُحمِّل المسلم نفسه أكثر من طاقته وسعته والتضييق على نفسه، فقط حتى لا يفوته ذبح الأضحية، وإذا لم يظفر بشرائها ظل يتوارى من القوم من سوء صنيعه وبُؤس حالته، وأغلب الناس -إلا من رحم الله تعالى- غافلون أو متغافلون عن مقاصد هذه الشعيرة الفاضلة.

 وكما هو معلوم ومُسلَّم أن تشريع الله -تعالى- لأيّ حكم لا بد أن يتضمَّن مقاصد شرعية ومصالح مرعية دينية أو دنيوية، أو هما معًا، بل إنَّ المصلحة المعتبرة شرعًا عند عامة علماء المسلمين هي المصلحة الدنيوية التي يمتدّ أثرها للآخرة، وهذه المقاصد تجري وتتحقق حتى في جزئيات أحكام الدين وفروعه، ومنها شعيرة الأضحية، وهذا موضوع كلامنا، وعلى الله التكلان.

بدايةً؛ الإجماعُ منعقِدٌ على مشروعية الأضحية؛ لقول الله -تعالى-: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ } [الأنعام: 162، 163]، وقوله -عز وجل-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢]، ولفعل نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، والاختلاف فيها محصور بين كونها واجبة وهو قول الأحناف، أو سُنّة مؤكدة في حق القادر عليها، وهو قول جماهير أهل العلم من الأمصار[1].

ولست أقصد من هذا المقال تعداد أحكام الأضحية؛ فلها موضع آخر، بقدر ما أريد التركيز على الحكمة والغاية من تشريعها.

ولعل من أعظم المقاصد الجلية في تشريع الأضحية ما يلي:

أولاً: إخلاص العبادة لله -عز وجل- وتحقيق معنى الاستسلام والخضوع:

فكما هو معلوم أن الذبح عبادة لا يجوز صَرْفه لغير الله -تعالى-؛ فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، لهذا يقول الحق -سبحانه وتعالى- مبينًا منزلة هذه العبادة: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162لا شَرِيكَ لَهُ } [الأنعام: 162، 163]؛ فقرن -عز وجل- التقرب إليه بالذبائح بالصلاة التي هي شعار الإسلام وعماد الدين، ومحل هذا الاقتران كونها -وجميع العبادات- لا ينبغي ولا يَليق صَرْفها لغير الله -جل وعلا-، وهذا هو معنى العبودية والاستسلام لرب الأنام -سبحانه وتعالى-.

يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية السابقة: «يأمر الله -تعالى- نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه، أنه مُخالِف لهم في ذلك؛ فإن صلاته لله ونُسُكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله -تعالى-: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]؛ أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله -تعالى»[2].

وقال الإمام الطبري في تفسير الآية الثانية من سورة الكوثر: «والصواب قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نَحْرك اجعله له دون الأوثان؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير، الذي لا كفء له، وخصَّك به من إعطائه إياك الكوثر»[3].

ثانيًا: الرغبة في الإقبال على العبادة وإظهار الفرح والسرور بها:

فمن النعم التي أنعم الله -تعالى- بها على عباده أن جعل لهم العبادة المشروعة متنوعة ومتعددة، ولو كانت عبادة واحدة لحصل بها الملل والنفور لكثير من الناس، ولهذا نجد في ديننا الحنيف العبادات القلبية، والعبادات البدنية، والعبادات المالية، والعبادات التي تجمع بينها كلها وهكذا، وفي هذا من التيسير والترغيب في العبادة والإقبال عليها بنشاط وهمَّة وطيب نفس، بل من العبادات التي شرعها الحق -سبحانه وتعالى- ما يوافق حظوظ النفس وشهواتها، وهي في الأصل من عاداتها، ولكن جعلها الله لعباده قُربة يتقربون بها ويُؤجرون عليها، ومنها: التقرب إلى الله بذبح الأضحية، فهي من جهة مختلفة عن العبادات التي يألفها المسلم طيلة السنة، ومن جهة أخرى هي من حظوظ النفس؛ لأنها تدخل في عادات الأكل التي يشتهيها الإنسان وتلذّ بها نفسه.

وإذا كانت تطيب بها نفس المسلم لا شك أنها مدعاة لإظهار الفرح والسرور عند التقرب بها إلى رب العباد، وهذا كرم من المولى -عز وجل-، وفضل منه -سبحانه- وجب علينا استشعاره وإظهاره، وشكر الله على نعمه ومِنَنه التي لا تُحْصَى. وغاية مُنَى العبد أن يتوافق مقصده مع مقصود الشرع، فهذا أبلغ في العبادة وأقرب إلى الامتثال والطاعة والمبادرة والمسارعة إلى الخيرات، وحصول السعادة والفلاح، يقول -عز من قائل-: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس:58].

ثالثا: إحياء سنة سيدنا إبراهيم -عليه السلام-:

إن شعيرة الأضحية تذكيرٌ لعامَّة المسلمين بتلك التضحية التي أقدم عليها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حين أُمِرَ بذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام-، فما كان منهما سوى الامتثال والإذعان لحكم رب العالمين، وما كان جزاؤهما سوى تخليد ذِكْرهما ورَفْع قَدْرهما، يقول المولى -سبحانه وتعالى-: {وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم } [الصافات: 107- 109]، «قيل: جعلناه سُنَّة للآخرين، ولأن الله وصفه بالعظيم، ولم يحصل هذا الوصف لغيره من جهة المعنى أن المفدى لم تكن نفاسته لعِظَم جسمه، بل لعِظَم معناه»[4]، فجعلها الله سُنّة باقية متجددة في هذه الأُمة إحياءً لتضحية هذا النبي الأمة -صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين-، وفي بعض الآثار إشارة لهذا المعنى.

وذبح الأضحية اقتفاء لأثر هذا النبي الكريم واحتفاء بابنه العظيم، وقد قال الله -عز وجل- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} [سورة النحل:123]، وأُمّته تَبَع له في هذا الأمر.

رابعًا: تجديد آصرَة الرحم وتوطيد وشائج المحبة:

جرت عادة المسلمين في مثل هذه المناسبة الكريمة بتبادل الزيارات، وإحياء صلة الرحم بين العائلات، وقد لا يتسنَّى لبعض الناس فِعْل هذا والقيام به سوى في عيد الأضحى، فيكثر التزاور والتراحم بين المسلمين، وتجد الناس يصنعون من صنوف الطعام والشراب ما يُظْهِر جميل الفرح ووفير الإكرام، بقدوم الزائرين والأضياف، وقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضرورة الإطعام من الأضحية من الأهل والأقارب، وهذا من تمام الإيمان وعظيم الإحسان الذي أُمرنا به، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه»[5]، فكيف بالضيف إن كان من رحم المسلم؛ فيكون في هذا الإكرام صلةً وأجرًا، وزيادةً في المحبة وجلب المودة بين أفراد الأسرة الواحدة.

كما يصحب هذا الإكرام من طلاقة الوجه وطيب الكلام ما يَبعث على تجديد الصلة الفينة بعد الأخرى، وتقوية رابطة الإيمان والأُخُوَّة في الله -تعالى-، وبثّ معنى الرحمة في قلوب العباد بعضهم لبعض.

خامسًا: الإحسان إلى الفقراء والمساكين وسدّ حاجتهم:

وهذا من أعظم مقاصد هذا التشريع الرباني في هذا اليوم العظيم، لهذا كان من السُّنَّة الحرص على الأضحية السمينة الثمينة؛ كما جاء عن أنس -رضي الله عنه- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُضحِّي بكبشين أملحين أقرنين، ويُسمِّي ويُكبِّر، ويضع رِجْله على صفاحهما» والحديث متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: «سمينين»[6]. وعن أبي أمامة بن سهل قال: «كنا نُسَمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنُون»[7].

ولا شك أنَّ كونها سمينة تعود بالنفع العميم على الفقراء والمساكين عند التَّصدُّق منها عليهم، وكونها ثمينة تدلّ على طيب نفس باذلها، واقتسام فَرْحة العيد مع غيره من المسلمين الفقراء والمساكين المحرومين الذين لم يجدوا وُسْعًا لشراء الأضحية، ولهذا جاء الأمر الربانيّ بالأكل منها والإطعام كما في سورة الحج، وكذلك جاء الأمر عن نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «فكُلُوا منها ما بَدَا لكم، وأَطْعِمُوا وادّخروا»[8].

هذه بعض ما جاءت به هذه الشعيرة العظيمة من الحِكَم والمقاصد، استحضارها يُضاعِف الأجر والثواب، ومعرفتها تُعِين على الامتثال بشَوْق وترحاب.

بارك الله لنا ولكم في القربات والطاعات، وأعاننا على حُسْن الامتثال والمسارعة إلى الخيرات، والحمد لله رب العالمين.

 

 


[1] ينظر تفسير القرطبي (15/108-109)، ومذهب الإمام مالك -رحمه الله- أنها سنة واجبة في حق القادر عليها.

[2] تفسير ابن كثير (3/381-382).

[3] تفسير الطبري (24/696).

[4] الذخيرة للإمام القرافي (4/143).

[5] الحديث متفق عليه.

[6] ذكره البخاري في صحيحه معلقًا في كتاب الأضاحي.

[7] ذكره البخاري في صحيحه معلقًا في كتاب الأضاحي.

[8] أخرجه الترمذي في سننه، رقم: 1430.

 


أعلى