سجَّل القرآن إسرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه الحديث، فقال تعالى: {وَإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: ٣] ؛ فلاحظ كيف يتعامل الرجل مع زوجته فينظر إليها باعتبارها مأوى وسكنًا، حتى إنه ليبث إليها حديثه الخاص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه
أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغرّ الميامين.
حين نريد الحديث عن أمر عظيم، ونُدير النقاش حوله، ونعقد له المجالس والأبحاث؛
فإنَّنا بحاجة إلى تصدير ذلك بتعريفه وتصويره، لينجلي المفهوم لمبتغيه، وليتكون
لدينا إطار شامل لكل مفرداته وعناصره، وبهذا الإطار نستطيع أنْ نعرف ما يمكن دخوله
في مربع المفهوم أو خروجه منه.
لكننا لا نجد القرآن ينصُّ على تعريف محدد للأشياء، وإنما ينوّع الحديث عنها وربما
وصف بعض عناصرها، ويختار لها سياقات مختلفة، ونراه يضمنها جوانب أخلاقية وأبعادًا
وجدانية، كل ذلك بغرض صياغة صورة كاملة للمفهوم تتسم بالشمول والوضوح، ويعلوه
البهاء والجمال.
والقرآن الكريم ليس لائحة تنظيمية جافَّة تُعبَّأ بالنصوص والبنود، وإنما هو كتاب
إلهي، منهج هداية وإرشاد، يراعي فطرة الإنسان ويتلمّس وجدانه ويحيط أحكامه بالنُّبل
والشِّيم ويزاوج بين شرائعه وأخلاقه، لذلك انتظمت تلك الهدايات في آيات وسور أعجزت
الناس في بيانها وحسن سَبْكها وجميل رَصْفها وسموّ بلاغتها.
وفي هذه المباحث الاجتماعية القرآنية سنحاول رسم صورة للزواج؛ نتلمّس معالمها من
كتاب الله تعالى، نصًّا أو استنباطًا، ونحاول فهمها من خلال السُّنة الصحيحة، والتي
هي في حقيقتها شرح وبيان لما جاء في كتاب الله تعالى، كما قال الإمام أحمد -رحمه
الله-: (قواعد الإسلام أربع: دالٌّ، ودليلٌ، ومبيِّنٌ، ومُستدِلٌّ. فالدال: الله
تعالى، والدليل: القرآن، والمبيِّن: الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى:
﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهم﴾[النحل:44]. والمستدِلّ: أولو الألباب
وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه
صفته)[1].
والسيرة النبوية وهدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم يُعدّان تطبيقًا عمليًّا
لمفاهيم القرآن وأحكامه وتوجيهاته، فلذلك كان الرجوع إليهما محتمًا في فهم القرآن
وتلمُّس معانيه.
ولعله من نافلة القول التذكير بأنَّ القرآن الكريم استعمل أحسن العبارات وأجملها
عندما ناقش موضوع الزواج، وكنَّى ولم يُصرّح حين تطلب الأمر ذلك، في إشارة إلى أنَّ
المسائل المتعلقة بالعورات والمواقعة ونحو ذلك ينبغي تعلُّمها لا إهمالها، وألا
يكون الحياء مانعًا من التفقه فيها، وإنما يمنع فيها نزع جلباب الحشمة والحياء،
ويندب فيها الحديث المتأدب السامي. ولقد أحسن الإمام البخاري صُنعًا حين تعرَّض
لهذه المسألة فقال:
«باب
الحياء في العلم»،
وأورد قول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحْيٍ ولا متكبِّر، وقول عائشة -رضي الله عنها-:
رحم الله نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين، وأورد حديث أم سلمة
قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنَّ
الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم :
«إذا
رأت الماء».
فغطَّت أم سلمة، تعني وجهها، وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ قال:
«نعم،
تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها»[2].
ثم أعقبه بابًا آخر فقال: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال. وأورد فيه حديث علي بن
أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذَّاء، فأمرتُ المقداد بن الأسود أنْ يسأل
النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله، فقال:
«فيه
الوضوء»[3].
فينبغي ألا يكون حياء المسلم مانعًا له عن التعلم والتفقه في المسائل الخاصة.
وأشير أخيرًا إلى أهمية تكامل الموضوعات في مفهوم الزواج الذي بيَّنه القرآن، فلا
يُكتفى بالأحكام الفقهية دون الآداب والتوجيهات، ولا يُكتفى بتلمُّس المعاني دون
النظر في الأحكام العملية، وهكذا. لذلك سأحاول أنْ أنظم عددًا من الموضوعات
المفاهيمية المتعلقة بالزواج في ضوء آيات الكتاب العزيز، حسب ما ييسره الله، والله
المسؤول أنْ يُوفّقنا جميعًا للتجرد من حظوظ النفس ولإصابة الحق، وأن يعينني على
إتمام هذه الموضوعات.
وهذا الموضوع أولها، وهو وصف الزواج في القرآن، ويمكن أنْ يكون إجابة عن سؤال: كيف
وصف القرآن الكريم الزواج؟
الزواج سكن
جعل الله سكون الرجل إلى زوجته آية من آياته الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته
وعظمته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وقال تعالى: {هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إلَيْهَا} [الأعراف: 189]. قال المفسرون: ليأنس بها ويأوي إليها[4]،
يعني أنَّ آدم عليه السلام لما أسكنه الله سبحانه وتعالى الجنة؛ زوَّجه الله ليسكن،
وهذه ملاحظة مهمة فإنَّ آدم -عليه السلام- كان في الجنة، والجنة فيها كل شيء من
النعيم، لكن لم يكن له فيها زوجة، فلذلك كان مستوحشًا، فخلق الله تعالى حواء منه
لتكون له زوجةً وليسكن إليها، عن ابن عباس وابن مسعود أنَّ الله تعالى أسكن آدم
الجنة، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند
رأسه امرأة قاعدة؛ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولمَ
خُلقت؟ قالت: لتسكن إليَّ[5].
فلم يستطع آدم أنْ يسكِّن نفسه بكل ما في تلك الجنة من ملذات ومشتهيات، ولم تطمئن
نفسه حتى خلق الله له حواء فتزوجها، فأنِس بها، وآوى إليها، قال الزمخشري: (ليطمئن
إليها ويميل ولا ينفر، لأنَّ الجنس إلى الجنس أمْيل وبه آنس، وإذا كانت بعضًا منه
كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبّه محبة نفسه لكونه بَضعة
منه)[6].
فعند ذلك قال الله تعالى له: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْـجَنَّةَ
وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35].
ولهذا المعنى يحب الرجل من زوجته أنْ تنشط في خدمته، ليس فقط لأجل حاجته المحسوسة
لتلك الخدمة، بل لأنه يحب قُرب زوجته منه والتصاق بعضٍ من جسدها أو لباسها أو
متاعها ببعض من جسده أو لباسه أو متاعه؛ ليأنس ويطمئن، والمرأة العاقلة تعي ذلك
جيدًا وتفطن له فلا تقصُر يدُها عن الحركة وإصلاح ملبس الزوج وأمتعته، وكل ما يتصل
به؛ إذ تدلها الحاسة الغريزية التي وهبها الله تعالى على ذلك، روت عائشة رضي الله
عنها (أنها كانت ترجِّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو
معتكف
في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه)[7]،
فكونه صلى الله عليه وسلم معتكفًا في المسجد يدل على أنَّ ثمة معنى آخر وراء
الخدمة ووراء الشهوة أيضًا؛ ألا وهو الاستئناس والسكن. وفي موضع آخر قالت: (فَتلْتُ
قلائدَ
بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم بيديَّ، ثم قلَّدَها وأشعرَها وأهداها)[8].
فإياك أنْ يقتصر فهمك للرواية على معنى الخدمة المجردة من المشاعر وحركة النفس من
داخلها، ألا ترى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته حين أراد السواك
الذي كان يحمله عبد الرحمن بن أبي بكر سارعت عائشة إلى ترطيبه بفمها وتطييبه له؛
ليسكن إلى ذلك ولتسكن هي إليه، تقول: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى
الله عليه وسلم وأنا مُسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن
سواك
رطب يستنُّ به، فأبدَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصَره، فأخذتُ السواك
فقصمْتُه، ونفضتُه وطيبتُه، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنَّ به،
فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استنَّ استنانًا قط أحسن منه، فما عدا أنْ
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه ثم قال:
«في
الرفيق الأعلى»
ثلاثًا ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي)[9].
وقد أشار الحافظ في الفتح عند هذا الحديث إلى قوة فطنة عائشة رضي الله عنها[10].
إنها ليست صدفة أنْ يموت النبي صلى الله عليه وسلم في حِجْر زوجته، بينما مئات
الرجال الأشاوس ينتظرون منه إشارة أو كلمة ليقوموا بكل أنواع الطاعة والخدمة
والتطبيب والإيناس والفداء والتضحية لأجل رضاه، إنها ليست صدفة؛ فإنَّ الرجل يكون
أحوج إلى زوجته في هذه المواقف الشديدة ليسكن إليها، ليرتاح رغم الآلام، لتسند رأسه
وظهره على صدرها، لتمسح أوجاعه بيدها، لتلين له السواك بريقها، فيجد البرد
والطمأنينة اللتين تخففان عنه ما ألمَّ به. وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته
وفي صحته على هذا المسلك، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن)[11].
بل سجَّل القرآن إسرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه الحديث، فقال تعالى:
{وَإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: ٣] ؛ فلاحظ
كيف يتعامل الرجل مع زوجته فينظر إليها باعتبارها مأوى وسكنًا، حتى إنه ليبث إليها
حديثه الخاص: شجونه وهمومه وأسراره ومعاناته، وغير ذلك. ولماذا يفعل ذلك وهو يعلم
أنها في كثير من الأحيان لا تقدر أنْ تقدم له إسهامًا محسوسًا متعلقًا بموضوع بثّه
وسرّه؟ إلا أنه يحب أنْ يستدفئ بتفاعلها مع حديثه وتعاطفها مع قصته، ويحب أنْ يتلمس
مشاعرها بقلبه.
ومن هنا قيل: لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر[12]،
ذلك أنَّ النفوس خُلقت متحركة بطبعها ومتهيجة ومستجيبة للمؤثرات المنفعلة داخلها
ومن حولها، وكثير من المخلوقات على هذه الحال، فلا سكون أغزر وأحسن وأجمل من سكون
الزوجين إلى بعضهما، فلله الحكمة البالغة.
ولا يستطيع الإنسان أنْ يستغني عن الزواج في تسكين نفسه بأي نوع من أنواع العلاقات
الإنسانية؛ المشروعة والمحرمة، ولو كان ذلك ممكنًا لاكتفى الأنبياء -عليهم السلام-
بالوحي المُنَزَّل عليهم سكنًا وأُنسًا.
فكيف بتلك الدعوات الآثمة التي تُحرّض على الاستكفاء بالحياة المادية والعلاقات
المتنوعة عن التزويج!
وكما يتحقق السكن بالقرب والمشاعر والخدمة والحديث؛ يتحقق بالمباشرة والجماع، فبهما
تُشبع الحاجة الغريزية التي أودعها الله في النفوس، قال القرطبي: (فأول ارتفاق
الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أنَّ الفَرْج إذا تُحمِّل
فيه هيَّجَ ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج)[13].
وهذه الحاجة الغريزية هي قوة الشهوة التي تهيج؛ فلا تسكن إلا بالجماع، وإلى هذا
المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس
منيئة لها، أيْ تدلك جلدًا في أول دَبْغه، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال:
«إذا
أبصر أحدكم امرأةً
فليأتِ
أهله،
فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه»[14]،
أيْ من غليان الشهوة واضطراب النفس الناتج عنها.
هكذا تسكن غريزة الرجل، ويسكن بصره، ويسكن سمعه، ويسكن وجدانه، وتطمئن نفسه، وهكذا
تصبح الزوجة مأوى، وهذه فخامة المرأة: أنْ يجعلها الله -سبحانه وتعالى- سكنًا
لهؤلاء الرجال الأشاوس الذين منهم القادة والوجهاء، والذين منهم الجبابرة والزعماء
الذين تخضع لهم قامات وكيانات... فتجدهم مرهفي الحس عند نسائهم، مسارعين لأهوائهن،
متوددين لرضاهن! وليس هذا من بدع زماننا، فالتاريخ طافح بأخبارهم.
ولا تستغرب كون المرأة سكنًا لزوجها، فإنما ألفنا النظر إلى مشاهد الحياة المتكررة
والمتضمنة نحوًا من هذا، فنحن نرى الأم وهي مأوى لأولادها -وإنْ كبروا- دون
استغراب؛ فهذه عظمة الأم في الحقيقة، وهكذا خلق الله -سبحانه وتعالى- هذا الكون
بهذا النظام، وجعل هذه الشهوة مفتاحًا لسلوك الحياة السوية.. للحياة الحقيقية.
ولأنَّ التزويج بين الذكر والأنثى انعقد باسم الله، وكما يريد الله تعالى؛ فإنَّ
بركته تحل في ماهيات الزواج، لذلك يحصل السكن، ولا يحصل هذا التسكين بالزنا ولا
بالعلاقات المحرمة، وإنما هي لذائذ مادية مؤقتة سرعان ما تنقضي وتتبدل إلى كآبة
ووجد وإلى اضطراب وحسرات.
وتأمل حال المجتمعات التي أبت أنْ تعقد التزويج باسم الله، وتزاوجوا بعيدًا عن
شريعة الله، تأمل كيف آل بهم الحال إلى تشريد الأبناء وتضييع الأنساب وإبادة
الأخلاق وتسليع المرأة والرجل والمتاجرة بهما.
ليس الزانيان -مهما غيّروا وصفهما- فحسب مَن فقد السكون والطمأنينة، بل المجتمع في
عمومه تحوّل إلى غابة وحشية، يعتدي القوي فيه على الضعيف، وينزو الرجل فيه على
المرأة كالحيوانات؛ أجلَّكم الله.
الزواج لباس
في موضع آخر من القرآن الكريم نجد الله تعالى يصف كلًا من الزوجين بأنه لباس لزوجه،
فيقول الله -عز وجل-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى
نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛
فوصْفُ الزوجين باللباس وصف عجيب، فإنَّ أصل اللباس هو ما يشتمله الإنسان على جسده
من ثياب. وكلام أهل التفسير في هذه الآية يدور حول ثلاث معانٍ متقاربة[15]:
الأول: بمعنى أنَّ كل واحد منهما جُعل للآخر لباسًا لتجردهما عند النوم، وانضمام
جسد كل واحد منهما لصاحبه والتصاقهما؛ بحيث يصبح كل واحد منها في منزلة الثوب الذي
يلبسه، قال الربيع بن أنس: هنَّ فراش لكم وأنتم لحاف لهنَّ. وهذا معروف في لغة
العرب، لذلك استشهد أهل اللغة والتفسير بقول نابغة بني جعدة:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها
تثنَّت فكانت عليه لباسا
فكل واحد منهما لباس للآخر يشتمل به حين المواقعة.
الثاني: بمعنى السكن، فيكون كل واحد منهما لباسًا لصاحبه بمعنى سكونه إليه، وهو قول
مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم، كحال الإنسان إذا اشتمل ثوبًا؛ فإنَّ هذا الثوب
محيط به فكأن اللابس استقر في ثوبه، وأبين ذلك حالًا حين المواقعة، وقد أشار إلى
ذلك عبد الرحمن بن زيد.
الثالث: بمعنى الستر، فكل واحد من الزوجين ستر لصاحبه عما يسوء، لما يُكسبه الزواج
لكل من الزوجين من العفة والشرف ورفيع الأخلاق والتسامي عن الرذائل ودنيء الخلاق،
وستر لهما أثناء الجماع والمواقعة والملاعبة.
ذلك، واللباس يحمل كل هذه المعاني، والعرب تسمي الزوجة لباسًا وإزارًا، لما يتضمنه
من كثرة الالتصاق والمخالطة والسَّتر، والعرب تصف الناس بأنواع اللباس، بحسب موقع
ذلك الوصف، بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته للأنصار عقب حنين:
«الأنصار
شعار والناس دثار»[16].
والشعار والدثار أثواب تُلْبَس؛ فالشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار الذين يكون
فوق الشعار، ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر
الناس[17].
فانظر كيف أعلى من شأنهم بتشبيههم باللباس الملاصق للبدن. ولا نزال نسمع هذا الحرف
في القبائل العربية إلى اليوم، فيقولون: فلان لباس جنب، وفلان عصابة رأس، ويقصدون
بذلك الثقة في صحبته وقُربه، وأنها محل الثناء والإعلاء.
ووصف الزوجين باللباس ينبئ عن روح العلاقة الزوجية وجمالها وامتزاج كل من الزوجين
في الآخر، جسدًا وروحًا ومشاعر.
وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ
هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛ نزلت في سياق
أحكام الجماع في رمضان، فالرفث: الجماع[18]؛
أحله الله تعالى للزوجين في الليل من رمضان، وبيَّن أنه تعالى أحلَّه رحمةً بهم؛
لأنهما لشدة مخالطتهما ببعضهما في هذا الوقت يشقّ عليهما التحرز منه، فلذلك
شبَّههما باللباس لبعضهما، فكل من الزوجين ستر للآخر حين الجماع، وستر له عن
الآخرين، وستر للشهوة أنْ تطفو فتظهر أعراضها للآخرين، وهي حال لا يليق بها إلا
الستر، ومِن ثم جاءت آدابٌ في الاستئذان، كما جاءت تحذيرات من وصف المواقعة لما
فيها هتك الستور، وكثير من شؤون الحياة الزوجية ينبغي أنْ يكتنفه الستر والخفاء
وعدم إظهاره للناس.
وإنما تساهل بعض الناس بهذا تأثرًا بحال النصارى -بعد أنْ حرَّفوا دين الله- الذين
يغلب عليهم التهتك والدياثة والشيوع وإباحة الفروج، وتأثرًا بالدعوة الهدامة التي
تُعلن بأنَّ جسد المرأة حقّ لها ولها حرية التصرف فيه مطلقًا.
نسأل الله العافية لنا ولكم وللمسلمين.
[1] العدة في أصول الفقه 1/135.
[2] أخرجه البخاري ح130.
[3] أخرجه البخاري ح132.
[4] معالم التنزيل 3/313.
[5] جامع البيان 1/548.
[6] الكشاف 2/ 186.
[7] أخرجه البخاري ح2046 ومسلم ح297.
[8] أخرجه البخاري ح1696 ومسلم ح1321.
[9] أخرجه البخاري ح4438
[10] فتح الباري 8/139.
[11] أخرجه البخاري ح297 ومسلم ح301.
[12] معالم التنزيل 1/207.
[13] الجامع لأحكام القرآن 14/17.
[14] أخرجه مسلم ح1403
[15] تفسير الطبري 3/231، تفسير ابن أبي حاتم 1/316، تفسير البغوي 1/207.
[16] أخرجه البخاري ح4330، ومسلم ح1061.
[17] شرح النووي 7/157.
[18] جامع البيان 3/229.