• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الانقلاب الدستوري في تونس: منطلقات وآفاق

هو يُمثِّل لغزًا، حتى يكاد يكون غير قابل للتصنيف ضمن الطيف السياسي السائد في تونس. مُحافِظ اجتماعيًّا؛ يرفض مطالب العلمانيين بالمساواة في الإرث بين الإناث والذكور، لكنَّه مُعادٍ للأحزاب الإسلامية، بل لكل الأحزاب


تمرّ تونس بأزمة سياسية دستورية فريدة من نوعها، منذ ما يقارب السنتين، عنوانها «قيس سعيد»، لكنّه ليس سوى رأس الجبل الجليدي. هو أستاذ سابق في القانون الدستوري، وأمين عام الجمعية التونسية للقانون الدستوري بين 1990 و1995م، ثم نائب رئيس الجمعية منذ 1995م. مدير قسم القانون العام بجامعة سوسة بين 1994 و1999م، ثم في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس بجامعة قرطاج من 1999 إلى 2018م. وكان عضوًا في مجموعة الخبراء في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بين 1989 و1990م، وخبير في المعهد العربي لحقوق الإنسان، وعضو لجنة الخبراء المكلّفة بمراجعة مسودة دستور تونس 2014م.

وهذه السيرة الأكاديمية تدلّ على تضلّعه بالقانون الدستوري؛ فما يتجاوز به نصوص القوانين وروحها، هو قصد متقصّد، لغاية في نفسه. وركوب متن الفصل/المادة 80 التي تنص على الحالات الاستثنائية في السلطة، ما هو إلا جعله الدستور السابق منصة للانقضاض على السلطة، وتشكيل تونس وفق رؤيته الأيديولوجية.

دخل قيس سعيد غِمَار السياسة عام 2019م فترشَّح للانتخابات الرئاسية ليصبح رئيسًا في 23 تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، خلفًا للرئيس السابق باجي قايد السبسي (توفي في 25 تموز/يوليو 2019م)، بانتصار كاسح على منافسه رجل الأعمال نبيل القروي بنسبة 72.71٪ من أصوات المقترعين.

ويقود الرئيس التونسي منذ منتصف عام 2021م، حملة شاملة على المؤسسات الدستورية، الواحدة تلو الأخرى؛ عطّل البرلمان، ورفع حصانة النواب، وتولى رئاسة النيابة العامة، أزاح حكومة هشام المشيشي، وبدأ يسيّر الدولة بمراسيم بانتظار اكتمال الخطوات الآيلة إلى حل البرلمان، وهو ما تمّ في 30 آذار/مارس عام 2022م. ثم علّق العمل بدستور عام 2014م، وطرح دستورًا جديدًا على الاستفتاء؛ فنال قبول ما يقارب 94,6% من المشاركين فيه، وهم لا يتجاوزون 30% إلا قليلًا من العدد الإجمالي للناخبين.

الدستور الجديد، حوّل النظام التونسي إلى نظام رئاسي كامل، بعد أن كان شبه رئاسي، يتنازع فيه رئيس الجمهورية مع رئيس البرلمان (راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة). وعلى هذا، تم إضعاف البرلمان، وإنشاء غرفة ثانية فيه، بالإضافة إلى «مجلس نواب الشعب»، هي «المجلس الوطني للجهات والأقاليم». تتألف الغرفة الثانية من مُنتخَبين من قبل أعضاء المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. وأجرى سعيد انتخابات نيابية مبكّرة بعد إصدار قانون جديد للانتخاب، فجرت الانتخابات على مرحلتين بين 17 كانون الأول/ديسمبر 2022 و29 كانون الثاني/يناير العام الحالي، بنسبة اقتراع هي الأدنى محليًّا وعالميًّا، 11,2% في الجولة الأولى، و11,4% في الجولة الثانية، نتيجة المقاطعة الشاملة لأحزاب المعارضة.

رجل التناقضات والغرائب

هو يُمثِّل لغزًا، حتى يكاد يكون غير قابل للتصنيف ضمن الطيف السياسي السائد في تونس. مُحافِظ اجتماعيًّا؛ يرفض مطالب العلمانيين بالمساواة في الإرث بين الإناث والذكور، لكنَّه مُعادٍ للأحزاب الإسلامية، بل لكل الأحزاب. تتكوّن حلقته الضيّقة من اليساريين الحالمين بنَسْف ليس فقط معالم النظام السابق، بل كل منظومة الانتقال الديمقراطي بعد نجاح الثورة، والاستناد بدلًا من ذلك إلى أفكار تجريبية ذات علاقة بالديمقراطية الشعبية المباشرة.

أكاديمي تقليدي، ومدرّس متفانٍ في تعليم طلابه مبادئ القانون الدستوري، لكنَّه حين وصل إلى السلطة انقلب على الدستور، بمادة دستورية هي الفصل 80، لا يختلف اثنان من الخبراء القانونيين المحايدين على خطأ تأويله لها، والتعثر في تطبيقها شكلًا ومضمونًا، فلا استشار رئيسي الحكومة والبرلمان، ولا توجد ظروف استثنائية حتى يتحوّل رئيس الجمهورية إلى مستبدّ بحكم القانون[1].

يتضمن الفصل 80 من دستور عام 2014م أنَّ «لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة؛ أن يتخذ التدابير التي تُحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نوّاب الشعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال. ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة».

وعلى الرغم من شَغْله في السابق منصب أستاذ في القانون الدستوري والنظام السياسي، إلا أنه ليس له إلا قليل من الدراسات، ولا يحمل درجة الدكتوراه، بل حاصل على دبلوم في القانون الدستوري.

تتلبّسه شخصية الأستاذ، حتى بعد تسنّمه أعلى منصب في الدولة. يخاطب الناس بأسلوب آلي، وبعربية فصيحة، حتى لقبوه بـ«الربوكوب»، الشخصية الخيالية الهوليوودية في فيلم أُنتج في عام 1987م، يسرد قصة شرطي آلي تحت عنوان RoboCop، وشبّهوه به بسبب لغته المتشنّجة ووجهه غير العاطفي أثناء الكلام. كما أطلقوا عليه لقب «سيد نظيف Monsieur Propre»، وهو شخصية خيالية استُعملت كعلامة تجارية لترويج مادة تنظيف أُطْلِقَت في الولايات المتحدة عام 1958م.

تخرج من مؤسسة عامة مرموقة، هي المدرسة الصادقية، مثل عدد من الرؤساء السابقين: زعيم الاستقلال الحبيب بورقيبة (1957-1987م)، والرئيس منصف المرزوقي (2011-2014م)، وأول رئيس منتخب بالاقتراع العام في عام 2014م، الباجي قائد السبسي. من بين مؤيديه الأساسيين: كثير من طلابه السابقين المثاليين. اجتمعوا في 23 كانون الثاني/يناير 2011م في اعتصام القصبة 1، وهي حركة شبابية ونشطاء عازمون على إعادة توجيه الانتقال الديمقراطي الذي بدأ بعد رحيل زين العابدين بن علي.

عرفه عامة الناس حين سمعوه يعلّق بمهارة على القنوات التلفزيونية الرئيسية، إبَّان الخطوات الأولى للديمقراطية التونسية، أثناء صياغة الدستور الذي اعتُمِدَ في عام 2014م.

يُنظر إليه على أنه «نظيف» لا تشوبه شائبة. كان يعيش في حي من الطبقة الوسطى، ومقره الرئيسي في شقة متهالكة في وسط المدينة[2].

صاحب مواقف غريبة؛ ففضلًا عن انقلاب القصر الذي شجَّعه عليه مقرّبون منه، وتحويل النظام السياسي بمرسوم من توقيعه، إلى نظام رئاسي مطلق، قبل تشريعه لاحقًا بعملية تأسيسية مؤطَّرة وصولًا إلى إقرار دستور جديد، وانتخابات نيابية هزيلة لا تمثيل شعبي حقيقيًّا لها؛ إلا أنه قبل ذلك، حاصَر البرلمان، وأغلقه، ومنَع النواب آنذاك الذين أصبحوا سابقين بنظره، من دخول المقرّ.

أمر باعتقال القيادات السياسية المُعارِضَة له بتهمة التآمر على الدولة، دون أن يتمكّن من إثبات أي شيء. وطالت إجراءاته القمعية الصحافيين المخالفين له، معتبرًا إياهم «خونة» و«إرهابيين».

وفي سعيه العلني لتحقيق الأهداف الحقيقية للثورة برأيه، يقتفي أثر بورقيبة وزين العابدين بن علي (حكم بين عامي 1987 و2011م)، بل يشابه أحيانًا كثيرة القذافي المخلوع (حكم بين عامي 1969 و2011م) في ليبيا، بنظرياته المبتسرة عن الحكم الجماهيري القاعدي، والمجالس المحلية، والنظرية التي سوف تُغيِّر العالم والتاريخ.

مهووس بنظرية المؤامرة حتى إنه أثار ضجة في العلاقات النونسية الإفريقية حين حذّر من «ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في البلاد، هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011م، لتوطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس»!

هو رئيس بلد كان رائدًا في ثورات الربيع العربي، فإذا به يبادر إلى رَفْع التمثيل الدبلوماسي مع العلاقات مع النظام السوري صاحب أسوأ سجل في قمع الثورات وانتهاك حقوق الإنسان!

سيناريو الانقلاب

نشر موقع ميدل إيست آيMiddle East Eye ، قبل أشهر من حركة قيس سعيد، وثيقة رسمية مُسرَّبة مؤرَّخة في 13 أيار/مايو 2021م، تضع الخطوط التفصيلية للانقلاب من خلال تفعيل الفصل 80 من الدستور. وقد طُبّق قسم أساسي من الخطة لاحقًا.

في موجبات الانقلاب؛ تسرد المذكرة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي كانت تونس تمرّ بها منذ تكليف هشام المشيشي بتكوين الحكومة، جراء السياسات المعتمدة منها والتأثيرات السياسية للحزام السياسي الداعم لها، من قبيل تأثيرات جائحة كورونا، طبيًّا وماليًّا، ومظانّ القصور والفساد، فضلًا عن التدهور المالي مع وصول نسبة الدَّين العام عام 2021م إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالى 100 مليار دينار (30.3 مليار دولار)، وتعطل سير المرفق القضائي بسبب عدم تجاوب النواب مع مطالب رفع الحصانة عن بعض الأعضاء، وارتكاب أخطاء دستورية من الحكومة، والمصادقة على قوانين لا تخدم مصلحة البلاد والعباد، علاوةً على التعيينات الحزبية في الوظائف المدنية العليا.

هذه الوقائع، شكَّلت، بحسب المذكرة المسرّبة، ظروفًا استثنائية تتطابق مع منطوق الفصل 80، وهو الوضع غير العادي الذي تكون فيه الدولة في حالة خطر داهم مهدّدًا لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، مع تعذُّر السير العادي لدواليب الدولة.

وطبقًا للفصل أو المادة المذكورة، يتسع دور رئيس الجمهورية دستوريًّا؛ بحيث تجتمع كل السلطات بيده، فيكون بذلك مركز سلطة القرار التي تجعله مستأثرًا بمطلق الصلاحيات التي تُخوّله حسب سلطته التقديرية أن يتخذ التدابير الترتيبية أو التشريعية، من أوامر وقوانين، للتصدّي للخطر الداهم، ليتحوَّل بذلك رئيس الحكومة في هذه الحالة الى وزير أول تتقلص دائرة مهامه في صلاحيات تنفيذية ولا تقريرية لكل التدابير التشريعية والترتيبية التي يتخذها رئيس الجمهورية. أما الإجراءات المقترحة وفق المذكرة، وإنفاذًا لمضمون الفصل 80 من الدستور؛ فتتضمن كل إجراءات الحالة الاستثنائية، من حجز حريات ومنع سفر. وهي تختزل سيناريو انقلاب كامل الأوصاف، بالاستناد الظاهري إلى المادة 80 من الدستور[3].

ما حدث فعلًا، في 25 تموز/يوليو 2021م، الذكرى 64 لإعلان الجمهورية التونسية، أن الرئيس قيس سعيد أعلن أنه سيتولى السلطات التنفيذية للبلاد، فبدأ تنفيذ الخطة الموضوعة سلفًا فكريًّا وإجرائيًّا، دون أن تتطابق مع السيناريو المشار إليه، ولا مع مضمون الوثيقة المسرّبة.

فقبل شهر تقريبًا، من الانقلاب، أي من إعلان الحالة الاستثنائيّة، يوم 22 حزيران/ 2021م، استقبل سعيد في قصر قرطاج رضا شهاب المكّي، الملقب بـ«رضا لينين»، أحد أبرز رفاق المشروع الفكري المؤسس للحالة الانقلابية الحالية، وعضو فريق حملته الانتخابية.

تناول اللقاء، حسب بلاغ الرئاسة، «التصورات التي جرى تداولها منذ أكثر من 10 سنوات، والتي أثبتت الأحداث المتلاحقة على المستويين السياسي والاقتصادي ملاءمتها للوضع العام، ليس في تونس فحسب، بل في العالم بأسره»، كما شمل القضايا «المتعلّقة بالنظام السياسي، ونظام الاقتراع اللَّذَيْن لم يُحقّقا الآمال التي سعى إليها الشعب التونسي».

كانت تلك أبرز إحالة من سعيد على مشروع البناء القاعدي، منذ أدائه اليمين الدستوريّة. ومنذ تلك اللحظة، بدأ الاهتمام الإعلامي بمشروع البناء القاعدي، عبر بعض المقالات الصحفيّة والبحثيّة التي حاولت تفكيك المشروع ونقده، فيما حرص الرئيس على عدم تبنّي مشروع البناء القاعدي بطريقة مباشرة؛ سعيًا لتحسين شروط تنزيله داخليًّا وخارجيًّا. كما فضَّل سعيد تمرير مشروعه بالتقسيط والمواربة والتدرُّج، عِوَض عرضه بوضوح على النقاش العامّ، مكتفيًا بإشارات ضمنيّة قابلة للتأويل، كالوعد بـ«ديمقراطية حقيقيّة» و«حقبة تاريخيّة جديدة».

لقد بدأ مشروع البناء القاعدي يتشكّل منذ 2011م، بحسب الورقة البحثية في المفكرة القانونية بالتقاء مدرّس القانون الدستوري قيس سعيد مع مجموعة اليساريّين في «قوى تونس الحرّة»، أبرزهم رضا شهاب المكي وسنية الشربطي، إلا أن هذا المشروع لم يظهر في نصّ واضح ونهائيّ يمكن التعليق عليه، وإنّما ظلّت معالمه قيد التداول والنقاش، مع إضافات وتحسينات.

جدير بالذكر أن «قوى تونس الحرّة»، تقسم قوى الثورة إلى ثلاث فئات: فئة أولى إصلاحية لا تريد القطع مع دستور 1959م، وتسعى فقط إلى الانقضاض على السلطة، لتتحول إلى دائرة قوى الثورة المضادّة، فئة ثانية تطالب بانتخاب مجلس وطني تأسيسي تنبثق عنه هياكل الدولة الجديدة، وهي بذلك تتّجه إلى بناء الدولة بدءًا من أعلى الهرم حتّى الوصول إلى قاعدته، دون مراعاة إرادة الشعب. أمّا الفئة الثالثة، التي تعبّر عنها قوى تونس الحرّة، فهي التي تعتبر أنّ الثورة قادرة على تشكيل هيئاتها الثوريّة، وأنّ لجان حماية الثورة التي تشكّلت في القرى والمدن وداخل الإدارات والمؤسّسات العموميّة والخاصّة إبَّان ثورة الياسمين قادرة على التحوّل إلى لجان مداولة وقرار، هدفها ليس فقط حماية الثورة، بل مواصلتها واستكمال أهدافها؛ في إسقاط لتجارب المجالس العمالية في القرن العشرين في روسيا وألمانيا وإيطاليا والمجر على لجان ثورية في تونس لم يتجاوز عمرها بضعة أسابيع، وكانت وظيفتها الأساسيّة تأمين الأحياء أمام انسحاب قوات الأمن، كانت حاضرة في جُلّ بيانات قوى تونس الحرّة. هذه الأيديولوجيا المثالية المجلسيّة لقوى تونس الحرّة التقت مع مشروع قيس سعيد بخصوص نظام الديمقراطية المباشرة، لتنتج مشروع البناء القاعدي[4].

أما الفكر القاعدي لقيس سعيد، فيجد أوضح تعابيره، في البيان الانتخابي قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2019م، حين كتب يقول موجِّهًا خطابه إلى جمهور التونسيين: «السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقيّة هو إعادة البناء من القاعدة, من المحليّ نحو المركز حتّى تكون القوانين والتشريعات كلّها على اختلاف أصنافها ودرجاتها مُعبِّرةً عن إرادتكم، حاملةً لآمالكم، صدًى لمطالبكم وتطلعاتكم، متّسقةً مع الانفجار الثوري الذي انطلق من المعتمديات والقرى قبل أن يبلغ ذروته في المركز».

واستعمل سعيد عبارة «التأسيس الجديد» تحت شعار «الشعب يريد»، لينطلق في أوسع الآفاق، حين يعتبر أنها «قراءة المرحلة التّاريخيّة لا في تونس فحسب، بل في العالم بأسره. فقد دخلت الإنسانيّة مرحلة جديدة من تاريخها لم يعد بالإمكان تنظيمها بمفاهيم بالية تحوّلت بفعل هذا التطوّر إلى عقبة أمام فكر سياسي جديد صنعته الشعوب وتجاهله الكثيرون ممَّن لا يزالون يعتقدون أنّهم صفوة الصّفوة ونخبة النخبة التي تحدّد بمفردها أقوم المسالك لإدارة شؤون الممالك؛ فالمسلك فتَحه الشعب التونسي، والتونسيّات والتونسيّون ليسوا رعيّة تنتظر دون جدوى حاكمًا يقضي بالسويّة أو يسوق بعصاه ما يتصوّر أنّهم رعيّة وقطيع».

ويشرح سعيد معنى «التأسيس الجديد» المجسّد فيقول إنه «يقتضي أن يكون البناء قاعديًّا، وذلك بإنشاء مجالس محليّة في كلّ معتمديّة من معتمديّات الجمهوريّة، وعددها خمس وستون ومائتان (265) تتركّب من نائب عن كلّ عمادة يتمّ اختياره بطريقة الاقتراع على الأفراد» لا على الأحزاب.

ويصل إلى فكرة أساسية ذات علاقة بالديمقراطية المباشرة، فيؤكد على أنّ وكالة النّائب تبقى قابلة للسحب من ناخبيه، بخلاف الديمقراطية التمثيلية. ويتولى المجلس المحلّي وضع مشروع التنمية المحليّة بناء على مطالب السكان المعنيين عمومًا. ومن المحلّي تنبثق مجالس جهويَّة في كل ولاية بحساب نائب عن كلّ مجلس محليّ يتمّ الاختيار عليه بالقرعة لمدّة محدّدة ليتمّ تعويضه بالقرعة أيضًا حتَّى تكون هناك رقابة داخليّة إلى جانب رقابة السكان والناخبين على وجه الخصوص عن طريق آليّة سحب الوكالة».

ويرى أخيرًا أنه بمثل هذا البناء الجديد، يجد شعار «الشعب يريد» طريقه إلى التجسيد الكامل والحقيقي له، وتُبنَى أُسُس الثقة بين الحكام والمحكومين[5].

 

خلاصة

إن الرئيس التونسي يُمثّل حالة نموذجية من الرؤساء الشعبويين في العالم اليوم. وهو بسبب ذلك، يبدو طاردًا للمؤيدين له والمتحمسين لآرائه وإجراءاته، أكثر من كونه جاذبًا للمؤيدين في الداخل والخارج. ففي البداية، لَقِيَ ترحيبًا من الدول والأحزاب التي تريد التخلُّص من النظام التونسي الذي نشأ عقب ثورة عام 2011م. وراح بعض الإعلام العربي والأجنبي، يسوّق لهذه الظاهرة التي انبثقت فجأة في المشهد، على سبيل المثال، ما كتبته مجلة أمريكية ذائعة الصيت مثل الفورين بوليسي Foreign Policy، تحت عنوان: «قيس سعيد ليس ديكتاتورًا»[6].

لكن المواقف تتغيّر تدريجيًّا، وعدد من حلفائه في الداخل، ينفضُّون عنه تباعًا، مثل جهات في التيار القومي، وفي الاتحاد التونسي العام للشغل الذي كان يؤيده على نحوٍ مطلقٍ. أما المعارضة فلم تقتصر على حزب النهضة، بل هناك مزيج من العلمانيين والإسلاميين، يُنظّمون فعاليات الاعتراض على سياسات الرئيس. وهذا مؤشر على انحسار نفوذه تدريجيًّا لدى الدولة العميقة، دون أن يفقدها تمامًا في الشارع. وهذه مشهدية مُعقَّدة وحساسة. والأفضل حسب متابعين في تونس، أن تحسمها صناديق الاقتراع بدلًا من الفوضى والفتنة.

 

 


 


[1]  https://democraticac.de/?p=80607

[2]  https://cutt.us/7ZmXq

[3]  https://cutt.us/q6Cu8

[4] مهدي العش والصحبي الخلفاوي، وبمشاركة من سامي بن غازي، «الرئيس يريد: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره»، المفكرة القانونية، جويلية/تموز 2022م.

[5] https://cutt.us/x2rg9

 [6] https://cutt.us/3Hvx2

 


أعلى