إن الغاية من الصيام ليس قهر النفس وحملها على أمرٍ لا تقوى عليه، بل هو تدريب لها على الطاعة والعبادة واكتساب الأخلاق الحميدة، ومعالجة ما علق بها من انحرافات عقدية أو سلوكية
يعتبر شهر رمضان ركنًا تكليفيًّا من الله -تعالى- لعباده المؤمنين؛ ليزدادوا
إيمانًا، وليرتقوا إليه مقامًا عليًّا، يقول الله -تعالى-: {يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. هذا نداءٌ من الله -تعالى-،
وتكليف منه -سبحانه- للذين آمنوا ورَضوا بأوامره ونواهيه، ليحقّقوا منه تقوى الله
-تعالى-. والمؤمن، وهو المنادَى مِن قِبَل الله -تعالى- بالتكليف، مدعوّ إلى كبح
جماح نفسه عن شهوتي بطنه وفرجه في نهار رمضان ابتغاءَ مرضاة الله، وإلى ترك ما
تهواه نفسه وتميل إليه مع قدرته عليه. ثم إنه
«خطاب
الحق لهم بمقياس المحبة لكل ما يأتي منه -سبحانه- من تكليف»[1].
هذا التكليف فيه صفقة بين الله -سبحانه- وعباده المؤمنين، يعود نفعها عليهم في
الآجل والعاجل على المستوى الروحي والمستوى المادي. ثم إنه تكليف تُطيقه النفس
البشرية، ولا يصل إلى درجة المشقة التي يحصل بها الضرر؛ فهو -سبحانه- لا يكلفنا
بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، يقول الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢8٦].
إن الذي يبعث في النفس الطمأنينة، ويدفع الإنسان إلى التمسك بالتكاليف الشرعية
والاهتداء إليها، النظر في مقاصدها المبنية على تحقيق مصالح العباد في المعاش
والمعاد، وكلّ التكاليف كما أشار الشاطبي
«ترجع
إلى حفظ مقاصد الشريعة في الخلق»[2].
ويمكن القول:
إن هذه التكاليف الشرعية متناسقة ومتراصّة تحفظ على العباد مصالحهم في الدين
والدنيا. والمقصد من الصيام تحقيق تقوى الله -تعالى-؛ التي تحصل بترك المفسدات
المعنوية والمادية، والمؤمن قادر على أن يُحقّق تقوى الله استفادةً من هذه الأيام
المعدودات، وباستطاعته أن يستمر بقية حياته على العبادة، وأن يقاوم حظوظ النفس
وشهواتها.
إن الغاية من الصيام ليس قهر النفس وحملها على أمرٍ لا تقوى عليه، بل هو تدريب لها
على الطاعة والعبادة واكتساب الأخلاق الحميدة، ومعالجة ما علق بها من انحرافات
عقدية أو سلوكية، فيعقد المؤمن العزم على مواصلة السمو بالروح إلى أعلى الدرجات.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«الصِّيَامُ
جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ. وَإِن
امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ
-مَرَّتَيْنِ-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ
عِنْدَ اللَّهِ -تعالى- مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ
وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ
بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا»[3].
وقال -عليه الصلاة والسلام-:
«مَنْ
لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ
يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ»[4]؛
لأن الصوم المتلبّس بقول الزور أو ما يتعلق به من مفسدات الصوم، صومٌ لا حاجة لله
به.
إنَّ الداعي إلى القول
«إني
صائم»
-سواءٌ أَسرَّها الصائم في نفسه أو خاطَب بها غيره-، هو تذكير الغير أو النفس بأنه
في عبادة الله -تعالى-، فلا يُعامله من جنس عمله، ولا يرضى لنفسه أن ينقطع عن جوّ
العبادة، فيرقى صابرًا محتسبًا بقوله:
«إني
صائم»،
كما ينزجر الآخر عند سماع قول:
«إني
صائم».
ما أجمل شهر الصيام! إذ يستطيع العبد أن يضبط النفس وأن يحلم على الناس ويصفح عنهم؛
يفعل ذلك ابتغاء ما عند الله من فضل وأجر كبير. فتسود الأخلاق الحميدة في المجتمع
فتستجلب المنافع وتدفع الشرور والفتن، وتقوى شوكة المؤمنين، وينتشر الصلاح والإصلاح
بين الناس، رُحماء فيما بينهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤمِنِينَ أَعِزَّةِ عَلَى
الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
إن من كرم الله -تعالى- ورحمته بالعباد أن هيَّأ لهم ما يُعينهم على الصيام؛ حيث
تُفتح أبواب الجنة رغبة في دخولها بما يقومون به من تنوع العبادات، وتُغلَق أبواب
النيران رهبةً منها بما يكفُّون أنفسهم عن ارتكاب المعاصي، وتُصفَّد مردة الشياطين،
فيسهل عليهم دَفْع شهوات النفس وهواها، فيرتقون إلى حفظ صيامهم من كلّ ما يُبطله أو
يفسده.
تترتب على صيام رمضان آثار إيجابية وفوائد تعود على صاحبها بالنفع في الدنيا
والآخرة، فيرقى أكثر فأكثر فيصبغ حركاته وسكناته لله -تعالى-، ومن بين القيم
التربوية التي يَجنيها المؤمن من الصيام نذكر:
- دوام مراقبة الله -تعالى-:
يترك الصائم طعامه وشرابه وجميع محبوبات النفس؛ تلبيةً لنداء رب العالمين واستجابةً
له: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}[البقرة: 183]،
وإيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وابتغاء ما عند الله من عطاء {وَمَا عِندَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36]، فبقدر ما يسمو الصائم في درجة الإحسان في عبادة
الصوم يُضاعف الله -تعالى- له من الثواب الذي
«لا
يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله، ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يَكِله إلى غيره»[5].
قال ابن القيم:
«الصيام
لِجام المتقين، وجُنَّة المحارِبين، ورياض الأبرار والمقربين، وهو لربّ العالمين من
بين سائر الأعمال؛ فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من
أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، فهو سرّ
بين العبد وبين الله لا يطّلع عليه سواه، والعباد قد يطّلعون منه على تركه المفطرات
الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده؛ فأمرٌ لا يطّلع عليه
بشر، وذلك حقيقة الصوم»[6].
- سلامة القلب من الأدران:
إن للصيام تأثيرًا مباشرًا على قلب المؤمن؛ لأن القلب إذا ما تلذذ بلطائف الرحمن،
أصبح مُحِبًّا لأنواع العبادات، وسَلِم من الآفات، فتنساق وراءه الجوارح، كما قال
رسول اللهصلى الله عليه وسلم :
«ألا
وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا
فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ»[7].
فإذا سلِم القلبُ من الشرك والشُّبَه ومن التصورات المنحرفة والمضللة، وسلِم من
الشرور والشهوات، لا تراه إلا مُقبلاً على الحق. لهذا يجب على الإنسان أن يعتني
بقلبه؛ لأن القلب سريع التقلُّب، فقد يمرض فلا يعقل ولا يُبصر الأشياء على حقيقتها
ويُصابُ بالشقاوة، فيحيا الإنسان بجسده دون قلبه.
إن العبد الفَطِن يجعل من رمضان فرصة لتطهير قلبه مما علق به من الأمراض، ولا يجد
الإنسان أفضل في هذا الشهر من النظر في كتاب الله -تعالى- وتدبُّر آياته، فهو
البلسم لكل الجراحات والدواء الشافي لكل الأمراض. يقول الله -تعالى-: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
[يونس: 57]،
فـ«هذا
القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادّة عن الانقياد للشرع، وأمراض
الشبهات القادحة في العلم اليقيني...»[8].
قال ابن القيم:
«فَلَيْسَ
شَيْءٌ أنْفَعَ لِلْعَبْدِ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ، وأقْرَبَ إلى نَجاتِهِ مِن
تَدَبُّرِ القُرْآنِ، وإطالَةِ التَّأمُّلِ فِيهِ، وجَمْعِ الفِكْرِ عَلى مَعانِي
آياتِهِ..»[9].
-تربية النفس على الطاعة: يُعدّ شهر رمضان فرصة للعبد المؤمن ليُدرّب نفسه ويُلزمها
الطاعات التي تُوطّد علاقته بربه، فيُقبل على أنواع العبادات من الحفاظ على الصلوات
في أوقاتها وتلاوة القرآن وحفظه وتدبره والإحسان إلى أصحاب الحاجات وصلة الرحم وحفظ
الجوارح من مساوئ الأفعال والأعمال إلى غير ذلك من الطاعات، فيجد العبد من نفسه
إرادة قوية على فعل الخير، فينسجم ظاهره بباطنه، وتُعيد النفس نشاطها بعد الضعف،
ويستفرغ وُسْعه فيما يرضي الله -تعالى-. قال ابن القيِّم -رحمه الله-:
«وللصوم
تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها
المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة
لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحّتها، ويُعيد إليها ما استلبته
منها أيدي الشهوات»[10].
بالصوم تُدفَع الشهوات وتُكْسَر حدّتها، فلا يجد المؤمن الراحة إلا في الطاعة، ولا
يجد الأُنس إلا بذكر الله -تعالى- والخضوع لأمره ونهيه والانكسار بين يديه.
- التربية على الأخلاق الفاضلة: كثيرة هي الأخلاق التي يكسبها العبد المؤمن في شهر
الصيام، شهر القرآن الكريم؛ حيث يجعلها سلوكًا واقعًا. وأول هذه القِيَم والأخلاق
الإذعان الكلي والخضوع الكامل لله -تعالى- في الأمر والنهي، والشعور المستمر
بالحاجة إليه في كل شيء.
مدح الله -سبحانه- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم لبلوغه أكمل الأخلاق والصفات
الحميدة فقال -سبحانه-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
[القلم:
٤]؛
«وما
أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه -صلى الله عليه وسلم- بمكارم الأخلاق...
فكان له منها أكملها وأجلّها، وهو في كلّ خصلة منها، في الذروة العليا»[11]،
ومما يدل على أهمية الأخلاق في الإسلام كثرة الآيات التي تمدح المتصفين بها ثم
الجزاء المترتب عليها.
والمؤمن لا يريد أن تذهب حسناته سُدًى، لذلك يَضبط جوارحه من مساوئ الأفعال
والأقوال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
«أَتَدْرُونَ
ما المُفْلِسُ؟»
قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ. فقالَ:
«إنَّ
المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ،
ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ
هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ
قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه؛ أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ
في النَّار»[12].
نسأل الله -تعالى- أن يتقبّل منّا ومنكم صالح الأعمال.
[1] تفسير الشعراوي (خواطر فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي حول القرآن الكريم)
2/778، أخبار اليوم، مصر.
[2] الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي 2/265، تحقيق الشيخ عبدالله
دراز، دار الحديث، القاهرة، طبعة 1428هـ /2006م.
[3] فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
(773-782هـ)، 4/103، تحقيق عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، دار المعرفة بيروت، من دون
تاريخ النشر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] فتح الباري بشرح صحيح البخاري 4/116.
[5] فتح الباري بشرح صحيح البخاري للعسقلاني 4/110.
[6] زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي بكر
ابن القيم الجوزية الدمشقي (ت 751هـ)، 2/69، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب
العلمية، بيروت، 1417هـ/1998.
[7] فتح الباري بشرح صحيح البخاري للعسقلاني 1/126.
[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة الشيخ عبدالرحمن ناصر
السعدي (1307-1376هـ) ص: 376-377، منتدى الثقافة، الطبعة الأولى 1435هـ 2014م.
[9] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبدالله محمد بن
أبي بكر بن أيوب؛ ابن قيم الجوزية (691—751هـ)،1/432،
تحقيق محمد حامد الفقي ومحمد عبدالرحمن الطيب، المكتبة التوفيقية.
[10] زاد المعاد لابن القيم 2/69.
[11] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص:885.
[12] صحيح مسلم 8/18، دار الجيل بيروت، دار الآفاق الجديدة بيروت سنة 1334هـ من
حديث ابي هريرة رضي الله عنه