• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
 «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة» للقاضي

قلب الأدلة على الطوائف المخالفة» للقاضي

قد لا يعاني البحث العلمي في هذا الوقت مِنْ تعذُّر الوصول إلى المعلومة أو تعسُّرها، بل المعلومة يمكن العثور عليها بأيسر طريق، وأكبر قَدْر؛ لا سيما مع التقنيات الحديثة: من الحاسب وشبكات المعلومات ومحرِّكات البحث... ونحوها. كما أن الباحث لا يَلقى عََنَتاً ولا شحّاً في تعدُّد القضايا، وتنوُّع النوازل، وتتابُع المستجدات التي يجدر بحثها ومعالجتها؛ إذ لا تزال هذه الإشكالات والوقائع ميداناً رحباً لمن عزم على بحثها، وجدَّ في تحريرها وتحقيقها. لكنْ على الرغم من وفرة المعلومات وضخامتها، والسهولة الـمُفْرطة في مطالعتها، وأيضاً تكاثر المستجدات والحوادث؛ إلا أن الفاحص والناظر في جملة من البحوث العلمية - سواء كانت رسائل علمية أو بحوث مجلات محكَّمة أو مؤتمرات - ليجدُ الهشاشة والهزال فيها، والرتابة الـمُمِلَّة، والتكرار والاجترار، ولسان الحال يقول: ما أرانا نقولُ إلا مُعاراً أو مُعاداً من قولنا مكرورا إضافة إلى الإغراق في النواحي الشكلية والفنية، والاستطراد في المقدمات المعروفة، وأما القضايا العلمية المشْكِلة والمعْنيَّة بالبحث، فإن الباحث قد يختزلها أو يسوق كلاماً عائماً، أو يتنصَّل منها... دعك من حال البحوث التي يتشبَّع أصحابها بما لم يُعطَوْا، أو الذين يحمدون بما لم يفعلوا. ولـمَّا سئل الخريشي (ت 1001 هـ) أن يؤلف كتاباً، فقال: (التأليف في زماننا هذا هو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق)[1]. ومهما كان الواقع قاتماً ومتردياً جرَّاء تلك البحوث، إلا أن ثمة بحوثاً على النقيض من ذلك؛ إذ تجد في هذه البحوث الجادة عمقاً علمياً، وتحريراً متيناً، وسَعة في الاطلاع، وابتكاراً في التصنيف، وجزالة في الأسلوب، ورسوخاً في التحقيق، ودراية فائقة في التخصص. ومن خير النماذج وأروع الأمثلة على ذلك رسالة: «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات» للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي[2]. ومع أن كثرة الصفحات، ووفرة المراجع ليست أهم المعايير - في نظري - لإضافة تزكية على البحث، وتحقيق إيجابيته؛ إلا أن الباحث سطَّر ما يزيد على ستمائة وألف صفحة، ورجع إلى أكثر من ثماني مئة مرجع، ولم تكن هذه الصفحات المئات حشواً ولا استطراداً، كما لم تكن مراجعه تكثُّراً وتعسفاً؛ فالباحث قد رجع إليها فعلاً، وتحرَّى المراجع الأصلية، والمصادر العميقة، وجانب ما كان هشّاً وما ليس مرجعاً معتبراً. ويستوقفك في البحث ابتداءً حُسْن اختيار الموضوع وجدَّته وبكارته، ومفارقته للبحوث المكرورة الرتيبة. وأحسب أن هذا البحث النفيس من واجبات الوقت، ويسدُّ حاجة ملحَّة في الآونة الأخيرة؛ إذ يسهم البحث في مدافعة انهزاميةٍ واضطرابٍ قد عرضا لبعض المتسنِّنة؛ فقَلْبُ الأدلة على أهل البدع يبعث تمام الثقة بالمنهج السلفي، والاعتزاز والاعتصام بطريقة أهل السُّنة والجماعة، بل هذا سبيل المرسلين وأتباعهم؛ فإبراهيم - عليه السلام - حين عارضه قومه، وخوَّفوه من أصنامهم، قال قالباً عليهم حجتهم وتخويفهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: ١٨]. قال ابن القيم: «وهذا من أحسن قلب الحجة، وجَعْل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله، وبطلان مذهبه»[3]. فما يشغب به أهل البدع من أدلة يحتجون بها على أهل السُّنة، فإننا معشرَ أهل السُّنة نوقن أن كل دليل (نقلي أو عقلي) يتشبث به أهل الأهواء ضد أهل السُّنة، هو حُجَّة لنا ودليل على أهل الزيغ والبدعة، وهذا القَلْب من دلائل صِدْق المرسلين - عليهم السلام - وبراهين أهل السُّنة في صحة معتقدهم وسلامة منهجهم طوال القرون الماضية وما يُستَقبَل من أيام حتى يأتي أمر الله. يقول ابن تيمية: «... فهؤلاء كل ما احتجوا به من دليل صحيح؛ فإنه لا يدل على مطلوبهم، بل إنما يدل على مذهب السلف المتبعين للرسل؛ فتبيَّن أن الأدلة العقلية الصحيحة من جميع الطوائف إنمـا تدلُّ على تصـديق الرسول، وتحقيـق ما أخبر به، لا على خـلاف قـوله، وهي من آيات اللـه الدالة على تصديق الرسول التي قال الله فيها: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: ٣٥]، وهي من الميزان الذي أنزله الله، تعالى»[4]. لا عجب أن يعكف الباحث في هذه الرسالة سبع سنين؛ فهو قد اشتغل بمسائل عميقة ومباحث شائكة، هي من مَحَارات العقول، ودقائق المطالب، وخاصة أن الرسالة تجمع بين تخصصين مهمين وعميقين، وهما: أصول الفقه ومسائل الاعتقاد، وهذه مزية أخرى للرسالة؛ فإن من آفات التخصص الدقيق أن يفوِّت دراسة موضوعات مهمة تشتمل على أكثر من فن؛ إذ إن الموضوعات المشتركة والمشتملة على أكثر من تخصص قد تتقاذفها الأقسام بدعوى «عدم التخصص»، وخاصة أن هذا النوع من الموضوعات لا ينفك عن تبعات وأعباء على الباحث... وصاحبنا قد أحكم موضوع قلب الأدلة من خلال مطالعة كتب أصول الفقه، ومدارسة أهل هذا الفن، وأعدَّ باباً مستقلاً عن قلب الأدلة، وحقيقة الاعتراض بالقلب وأقسامه، وحجية الاعتراض بالقلب وضوابطه. عقد الباحث باباً بعنوان: «قلب الأدلة الإجمالية التي استدلَّت بها الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»: ففي الفصل الأول: قَلَب الباحثُ أدلة المخالفين في توحيد الربوبية، سواء التي استدل بها أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو أدلة مسألة حلول الحوادث. وفي الفصل الثاني: قَلَب الباحثُ أدلة المخالفين في مبحث أسماء الله الحسنى. ثم في الفصل الثالث: ساق الباحث أدلة المخالفين من نفاة الصفات الإلهية وتعقَّبَها بالقلب عليهم، مثل: استدلالهم بالتنزيه، وتقديمهم العقل عند توهُّم تعارض العقل بالنقل، ومسألة دليل التركيب والتجسيم... ومثال ذلك أن المتكلمين استدلوا بحلول الحوادث ونفيها عن الله - تعالى - على إثبات أن الله هو الصانع، وهو في الحقيقة نفي للصانع؛ فإن الذي يصح أن تنفى عنه الصفات، أو يقال: إنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ فمن كان كذلك فهو ممتنع الوجود؛ ولذا قال بعض السلف: المعطِّل يعبد عدماً[5]. وأما الباب الثالث: فعنوانه: «قلب الأدلة التفصيلية التي استدلَّت بها الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»: استوعب الباحثُ فيه القلب والاعتراض على المخالفين في مسألة: أول واجب على المكلَّف، ودليل التمانع، ومقالة قِدَم العالم عند الفلاسفة، كما قلب الأدلة على نفاة صفات الله - تعالى - الذاتية والفعلية، وساق أمثلة تفصيلية في هذا الشأن، ومثال ذلك: دعوى المتكلمين بوجوب النظر، وعدم صحة إيمان العوام، احتجاجاً بعدم التقليد. يقول الباحث تميم: «وحين ننظر إلى حال ومقال المتكلمين وأهل النظر، فإننا نجد أنهم قد نالوا من التقليد المذموم أوفر الحظ وأجزل النصيب؛ فالذم بالتقليد ينقلب عليهم؛ ذلك أن القواعد النظرية التي أوجبوها لم تدل عليها حجة معتبرة... وإنما تلقَّوها عن أسلافهم الفلاسفة والمعتزلة؛ فحين يأتي الكلام عن الاستدلال بنصوص الوحي المعصوم في أبواب الإلهيات تجد الردَّ والتزهيد وأنها تحتمل التأويل، لكن حينما يكون الكلام على القواعد الكلامية والفلسفية، فإنك ترى التمجيد تجاهها والتقديس وأنها قد صقلتها الأذهان على تطاول الأزمان!»[6]. أما الباب الرابع: فهو في قلب الألقاب التي أطلقها المبتدعة على أنفسهم، أو على أهل السُّنة: ففي الفصل الأول من هذا الباب: قَلْبُ ألقاب الذم التي أطلقها المبتدعة على أهل السُّنة، وبيانُ أنهم هم الأحق بها، مثل تسميتهم أهل السُّنة بالمشبهة والمجسمة، ونَبْزِهم أهل السُّنة بالحشوية والنابتة والجهلة... وأما الفصل الثاني: فهو قلب ألقاب المدح التي أطلقها المبتدعة على أنفسهم، مثل دعواهم أنهم أهل العدل والتوحيد، وأهل الحق والبرهان، وأهل السُّنة... ومن ذلك: إطلاق لقب المشبِّهة على أهل السُّنة، والحقيقة أن لقب التشبيه والتمثيل ينقلب على طوائف المعطلة؛ إذ إنهم شبَّهوا أولاً ثم دفعوا ذلك بالتعطيل ونفي الصفات، وكذا شبهوا الخالق - عز وجل - بالناقصات والمعدومات؛ «ولهذا قال بعض أهل العلم: إن كل معطِّل مشبِّه، ولا يستقيم له التعطيل إلا بعد التشبيه»[7]. «كما أن لقب المشبهة ينقلب على كثير من متأخري الأشاعرة والماتريدية ممن وقع في تشبيه المخلوق بالخالق، وذلك من جهة ما دخل عليهم من التصوف الغالي، والذي لم يُعهد مثله عن أسلافهم؛ حيث أضافوا إلى أوليائهم وأقطابهم كثيراً من خصائص الربوبية: كعلم الغيب أو التصرُّف في الكون، كما أضافوا إليهم بعض مقامات العبودية التي تفرَّد الله - سبحانه - باستحقاقها: كالاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله... ونحو ذلك، فكانوا أحق بلقب المشبهة؛ إذ شبَّهوا المخلوق بالخالق في ألوهيته»[8]. وكذا دعوى الأشاعرة والماتريدية أنهم أهل السُّنة والجماعة؛ فقد قلَبَها الباحث عليهم من عدة وجوه؛ حيث لم يحققوا ضابط أهل السُّنة فيهم، بل تحقق نقيضه؛ فقد فرَّطوا في مصادر التلقي (الكتاب والسُّنة والإجماع)، فسلَّطوا على القرآن طاغوت التأويل، وطاغوت المجاز، وطاغوت تقديم العقل على النقل... وأن نصوص الكتاب والسُّنة ظنية الدلالة.. وعدم الاحتجاج بأحاديث الأحاد، كما أن الأشاعرة خالفوا إجماعات السلف في غالب أبواب الاعتقاد؛ فخالفوا أهل السُّنة في قواعد الشريعة وأصول الدين؛ ثم ساق الباحث شهادة أئمة السُّنة بخروج الأشاعرة من أهل السُّنة، ومن ذلك ما أخرجه ابن عبد البر عن ابن خويز منداد (ت 390هـ): «أهل الأهواء عند مالك وأصحابنا هم أهل الكلام؛ فكل متكلِّم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تُقْبَل له شهادة في الإسلام أبداً ويُهجَر ويؤدَّب على بدعته...»[9]. وبعد أن خاض الباحث غمار مسائل عويصة، وحرر مباحث معضلة، واستوعب وأحكم كتب السلف، وغاص في أعماق مراجع أهل البدع (الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة) والفلاسفة، وأجاد فهمها وأحكم نقضها، عندئذٍ ختم بحثه بهذه الكلمات: «وبعدُ: فهذا ما اقتضاه الخاطر المكدود، على عُجَرِه وبُجَرهِ، وعَلاَّته وهنَّاته، وعجزه وضعفه، فما كان فيه من صواب، فمِنَ الكريم الوهاب، وما فيه من زلل ونقصان، فمِنَ النفس الأمارة والشيطان، وأسأل الله منه الصفح والغفران»[10]. وهكذا فالبحث الجاد والعلم النافع يورث تواضعاً وإخباتاً، وعلى هذا جرت مناقشة هذه «الموسوعة» بهدوء وخمول، وفي قاعة صغيرة، لم يحضرها إلا أربعة: الباحث ولجنة المناقشة. [1] السحب الوابلة لابن حميد: 2/884.   [2] رسالة تقدَّم بها الباحث إلى قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود، ونال بها درجة الماجستير بتقدير ممتاز سنة 1430هـ. ولا تزال الرسالة حبيسة الأدراج و(الأقراص).   [3] إغاثة اللهفان: 2/254.   [4] مجموع الفتاوى: 6/292.   [5] قلب الأدلة: 1/405 - 406.   [6] قلب الأدلة: 2/934.   [7] الصواعق المرسلة: 1/244.   [8] قلب الأدلة = باختصار: 3/1311 - 1312.   [9] جامع بيان العلم: 2/195.   [10] قلب الأدلة: 3/1470.  

أعلى