النفس
المؤمنة المتسامحة من أصفى النفوس وأسعدها، تحمل روحاً محبة للخير، تبذل الإحسان
للخلق، بين جوانحها قلبٌ يحب السعادة للآخرين، ويرجو الخير لكل المسلمين، يتألم
لآلام إخوانه، ويسعد بفرحهم، ويرجو التوفيق للجميع، يتبسم في وجوه الخلق، لا يبخل
عليهم بماله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يحنو على اليتيم، ويخاف الله في الأرملة
والمسكين، وعد الله جلَّ وعلا صاحب هذه النفس أن يكون من أهل الجنة، فقال صلى الله
عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة جلَّ شأنه في الحديث القدسي، عن عياض ابن حمار
المجاشعي - رضي الله عنه - قال: “وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ
مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي
قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ” [مسلم 2865].
فما أعظمها نفس تسعى في منافع الناس، يفرح
عندما يوسع الله على إخوانه، ويسعد عندما تمتد يده بالعطاء، ويهنأ عندما يطعم
مسكيناً، أو يكسو فقيراً، يبذل الإحسان لا يرجو بذلك إلا وجه الله، مستحضراً قوله
تعالى: {إنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان: 9]. وهذه النفس هي التي يُقابَل صاحبها
بالإحسان يوم القيامة، فـ {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقد أخبرنا النبي صلى الله
عليه وسلم بشيء من ذلك، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ
النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِراً، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا
عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ
مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ» [متفق عليه].
أعظم مثال للتسامح البشري:
يحلو لكثير من المنهزمين نفسيّاً أن ينظر
لبعض الحكم المنقولة عن النصارى ويذكر مواعظهم في العفو، رغبةً في وجود تلك
النفسية المتسامحة، التي يظنون أنهم تفردوا بها، وتميزوا عن غيرهم، وهذا ليس
بصحيح؛ فهم لم يقرؤوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوه، ولو عرفوه لعلموا
عظيم تسامحه، وصفاء نفسه صلى الله عليه وسلم.
فها هو عبد الله بن أبي رأس النفاق، يؤذي
النبي صلى الله عليه وسلم، فينخذل عنه بثلث الجيش يوم أحد ويرجع بهم إلى المدينة،
ويرمي أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، حتى قال: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، ومع كل هذا الإيذاء
والعداء الظاهر والخفي، رفض قتله، وقال صلى الله عليه وسلم: (دَعْهُ! لَا
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) [متفق عليه].
بل العجب في تسامح النبي صلى الله عليه وسلم
عند موته، فقد بذل ثوبه ليكون كفناً له، وصلى عليه، واستغفر له، ونزل قبره وهو من
ناصبه العداء، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ،
وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
قَمِيصَهُ، فَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ
اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ
خِيَرَتَيْنِ قَالَ {اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم
مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] [البخاري 1269].
وإن الإنسان ليتملكه العجب، وتأخذه الدهشة
من هذا التسامح العجيب، ونسيان الإساءة، وبذل الخير، عند من لا يستحقون إلا الجفاء
والمقاطعة، بل وما هو أشد من ذلك!!
وشيء آخر من تسامحه صلى الله عليه وسلم، ونفسه
المحبة للناس وهدايتهم، فقد كان الصحابي مخرمة رجلاً في خُلقه شدة، ولا يريد النبي
صلى الله عليه وسلم أن يغضبه، بل يعامله بشيء فيه عطف وحنو بالغ، وكان رجلاً كفيف
البصر، سمع بقدوم أثواب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف عامله النبي صلى الله
عليه وسلم وكيف أرضاه، وهذا ليس بواجب عليه، بل يعلمنا كيف تكون النفس المتسامحة
وكيف تعطي الجميع وبلا حدود، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ
مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ
مِنْهَا وَاحِداً لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ
الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ: ادْعُهُ لِي،
فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ
بِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ
هَذَا لَكَ! يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ
شِدَّةٌ. [البخاري 3127] وفي بعض الروايات صار يعرض عليه محاسن هذا الثوب، حتى رضي
مخرمة، وكل هذا ليس بفرض ولا واجب، ولكنها النفس العظيمة، المحبة لهداية الخلق،
الرحيمة بهم صلى الله عليه وسلم.
وعن سَهْل بْن سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، -قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا
الْبُرْدَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا-
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ
إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ اكْسُنِيهَا. فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ! سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ
أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ
إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ”
[البخاري 2093] فهذا مثال رائع للنفس الكريمة المحبة للآخرين، تعطي الثوب للغير
وهي محتاجة إليه، وفي هذا الحديث منهجه أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً،
نفس عظيمة ما أروعها!.
موقف الإمام أحمد ممن آذوه:
وعلى خطى النبي صلى الله عليه وسلم مضى
الصحابة والتابعون يسامحون ويعفون ويحسنون، وممَّن سار على هديهم في التسامح:
الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل - رحمه الله - فقد سامح مَنْ آذوه في المحنة،
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - في مناقب الإمام أحمد: (وعن عبد الله بن أحمد
قال: وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميتَ في حلٍّ مِنْ ضربه إياي.. ثم قال: وما على
رجل ألَّا يُعذب الله بسببه أحداً). [سير أعلام النبلاء 11/257].
وكان يقول: (كل من ذكرني ففي حلٍّ إلا
مبتدعاً –يعني ابن أبي دواد-، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني: المعتصم - في حلٍّ.. ثم
قال أبو عبد الله: وما ينفعك أن يُعذب الله أخاك المسلم في سببك). [سير أعلام
النبلاء 11/261].
وقال له إسحاق بن إبراهيم: اجعلني في حلٍّ
من حضوري ضربك. فقلت: قد جعلت كل من حضرني في حلٍّ. [سير أعلام النبلاء 11/266].
ولما أمر الواثق بقطع قيود الإمام أحمد،
فلما قطع، ضرب بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: لمَ أخذته ؟ قال: لأني نويت
أن أوصي أن يُجعل في كفني حتى أخاصم به هذا الظالم غداً. وبكى، فبكى الواثق وبكينا.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حلّ، فقال: لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراماً
لرسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لكونك من أهله.
فقال له: أقم قبلنا فننتفع بك، وتنتفع بنا،
قال: إن ردك إياي إلى موضعي أنفع لك، أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم عليك، فقد
خلفتهم على ذلك، قال: فتقبل منا صلة؟ قال: لا تحل لي، أنا عنها غني. [سير أعلام
النبلاء 11/ 315]. رحم الله هذا الإمام الكبير، فما أعظم نفسه المتسامحة!
موقف ابن تيمية مع خصومه:
عاش ابن تيمية –رحمه الله- يحمل النفس
المتسامحة، ولذلك كان يشعر بالطمأنينة والسعادة، مع ما كان يعيش فيه من صعوبات
كثيرة، يقول تلميذه ابن القيم -رحمه الله-: «وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً
منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدهما، ومع ما كان
فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً
وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف
وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب
ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل
لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ
قواهم لطلبها والمسابقة إليها».
ويضيف ابن القيم - رحمه الله -: «وسمعت شيخ
الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل
جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت
فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول
في محبسه الأخير في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكري هذه
النعمة. أو قال ما جزيتهم عني ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في
سجوده وهو محبوس: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ما شاء الله، وقال لي
مرة: «المحبوس من حُبس قلبه من ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه». ولما أُدخل إلى
سجن القلعة، وصار داخل السور نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 31].
قال ابن القيم - رحمه الله -: وحدثني بعض
أقارب شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء
يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل
يتمثل بقول الشاعر، وهو لمجنون ليلى في قصيدته الطويلة:
وأَخْرُجُ
مِن بينِ البيوتِ لَعَلَّنِي
أُحَدِّثُ عَنْك النفسَ
بالسرِّ خالياً
[الوابل الصيب ص 93 و94].
وقد وضع ابن تيمية قاعدة للتسامح في حياته
السلوكية والعملية، تتلخص هذه القاعدة في قوله: (أحللت كل مسلم عن إيذائه لي)
وتفصيلها ما جاء في مجموع الفتاوى قال: (فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ
أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ؛ فَإِنِّي قَدْ
أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ، وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ،
وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي، وَاَلَّذِينَ
كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي) [مجموع الفتاوى 28/ 55].
أمثلة من تسامح شيخ الإسلام ابن تيمية:
1- كان الشيخ الصوفي البكري من أشد الصوفية على شيخ
الإسلام ابن تيمية، ففي محنة الشيخ مع الصوفية سنة 707هـ حول قضية الاستغاثة طالب
بعضهم بتعزير شيخ الإسلام، إلا أن الشيخ البكري طالب بقتله وسفك دمه!
وفي سنة 711هـ تجمهر بعض الغوغاء من الصوفية
بزعامة الشيخ البكري وتابعوا شيخ الإسلام ابن تيمية حتى تفردوا به وضربوه، وفي
حادثة أخرى تفرد البكري بابن تيمية ووثب عليه ونتش أطواقه وطيلسانه، وبالغ في
إيذاء ابن تيمية!
وحينما تجمع الجند والناس على ابن تيمية
يطالبون بنصرته، وأن يشير عليهم بما يراه مناسباً للانتقام من خصمه البكري الصوفي؛
أجابهم شيخ الإسلام بما يلي: (أنا لا أنتصر لنفسي)!!
ولما اشتد طلب الدولة للبكري وضاقت عليه
الأرض بما رحبت هرب واختفى في بيت ابن تيمية وعند شيخ الإسلام لما كان مقيماً في
مصر، حتى شفع فيه ابن تيمية عند السلطان وعفا عنه!! [العقود الدرية 1/305].
فهذا مثال من تسامح هذا الإنسان العظيم،
فالبكري قابله بالظلم والتكفير والاعتداء والعدوان والبهتان، وابن تيمية قابله
بالعفو والإحسان والكرم، إن في ذلك آية عظيمة لكل منصف سليم القلب.
2- ومرة أخرى يجتمع على شيخ الإسلام بعض الفقهاء والقضاة
بمصر والشام، وحملوا عليه حملة سيئة، فأفحم الجميع بالحق، وألزمهم الحجج، فلما
أفلسوا وشوا به إلى الحكام. وبعد أن وشى به بعض العلماء وكذبوا عليه وألّبوا
الحكام والأمراء عليه وتزلفوا لدى الكبراء في ابن تيمية؛ سُجن وعذب، وتولى كِبر
ذلك الجُرم الشيخ الصوفي نصر المنبجي، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير تلميذ
المنبجي، وجماعة من الفقهاء والعلماء، الذين ناصروا الحاكم بيبرس في انقلابه ضد
السلطان ناصر ابن قلاوون.
ولكن شاء الله أن تزول إمارة بيبرس ويضم
السلطان ناصر ابن قلاوون دمشق ومصر إلى حكمه، ولم يكن همّ السلطان إلا الإفراج عن
شيخ الإسلام المسجون ظلماً وزوراً. فأخرجه معززاً مكرماً مبجلاً، ويصل الشيخ إلى
البلاط الملكي فيقوم له السلطان تكريماً واحتراماً ويضع يده بيد ابن تيمية ويدخلان
على كبار علماء مصر والشام...!
ويختلي السلطان ناصر قلاوون بشيخ الإسلام
ابن تيمية ويحدثه عن رغبته في قتل بعض العلماء والقضاة بسبب ما عملوه ضد السلطان،
وما أخرجه بعضهم من فتاوى بعزل السلطان ومبايعة بيبرس، وأخذ السلطان يحث ابن تيمية
على إصدار فتوى بجواز قتل هؤلاء العلماء، ويذكره بأن هؤلاء العلماء هم الذين سجنوه
وظلموه واضطهدوه، وأنها حانت الساعة للانتقام منهم! وأصرَّ السلطان ناصر بن قلاوون
على طلبه من شيخ الإسلام كي يخرج فتاوى في جواز قتلهم!
فقام ابن تيمية بتعظيم هؤلاء العلماء
والقضاة، وأنكر أن يُنال أحد منهم بسوء، وأخذ يمدحهم ويثني عليهم أمام السلطان
وشفع لهم بالعفو والصفح عنهم ومنعه من قتلهم، فقال للسلطان : (إذا قتلت هؤلاء لا
تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل!) فيرد عليه السلطان متعجبا متحيراً: لكنهم
آذوك وأرادوا قتلك مراراً ؟! فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله
ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي! وما زال ابن تيمية بالسلطان يقنعه
أن يعفو عنهم ويصفح، حتى استجاب له السلطان فأصدر عفوه عنهم وخلَّى سبيلهم!! [موقف
ابن تيمية من الأشاعرة: 1/160].
3- لقد شهد له كبير خصومه ومن الذين هاجموه وآذوه، شهد له
بعد عمله التسامحي الفريد الذي عمله معهم في أثناء غضب السلطان ناصر بن قلاوون
عليهم، لقد كان قاضي المالكية القاضي ابن مخلوف أحدهم ولما أفرج عنه قال عن ابن
تيمية: (ما رأيت كريماً واسع الصدر مثل ابن تيمية، فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنه
عفا عنا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر
عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا)... هذا هو ابن تيمية، هذه هي أخلاقه مع
خصومه! [شيخ الإسلام ابن تيمية لأحمد فريد 1/17].
4- ولم يكتف شيخ الإسلام بالإحسان إلى خصومه في حياتهم بل
بعد مماتهم، يقول ابن القيم: (وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال –يعني خصال
الفتوة- من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول:
وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو
لهم. وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر
لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه ولا يكون
لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام فسروا به،
ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه - رحمه الله -) [مدارج السالكين جـ2/345].
وسبحان الله، من هذا التسامح وهذا العطاء
والإحسان، يقول ابن تيمية معبراً عن نفسيته المتسامحة: (وأنا والله من أعظم الناس
معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما
عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله له، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة
إلا بالله، هذه نيتي وعزيمتي، مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين
المؤمنين، ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين) [مجموع الفتاوى 3/271].
إن التسامح عندما يستحكم في النفس تعتاد الإحسان في كل
الأمور، في العبادات والمعاملات، في صغائر الأمور وعظائمها، فيحسن المرء في عبادة
ربه، ومعاملة خلق الله، فيحسن إلى الوالدين، والزوجة والبنات، والإخوة والأخوات،
والجيران والأصدقاء، بل قد يصل به الإحسان إلى من يبغضه، فيقابل إساءته بالإحسان،
ويمتد الإحسان ليشمــل الحـــيوان والنبات فـ (في كل ذي كبد رطبة أجر) [متفق
عليه]، وهذه مرتبة عظيمة في دين الله. نسأل الله أن يرزقنا التسامح والإحسان في أعمالنا
وأخلاقنا، والإخلاصَ في الأقوال والأعمال، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم
الوكيل، والحمد لله رب العالمين.