• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هل تراجع الدور الأمريكي الدولي مع الحرب الأوكرانية؟

في هذا السياق المشحون لم يكن غريبًا أن يمتدّ هذا النقاش المجتمعي إلى داخل المؤسسة الأمنية الأمريكية، وهو ما يناسب طبيعة وتكوين وميل المؤسسات الأمنية إلى التخطيط لأسوأ السيناريوهات؛ تلك السيناريوهات التي ترصد وجود مخاطر جسيمة بالفعل على الغرب الذي تقوده ال


دخلت الحرب الروسية الأوكرانية مرحلةً جديدةً من التفاوض في الأسابيع السابقة؛ إذ كشفت التدخلات الدبلوماسية الأخيرة التي قام بها جو بايدن عن أن الإدارة الأمريكية قد أجرت مناقشات مع أوكرانيا؛ لدفعها نحو المفاوضات، وعن أن واشنطن قد انخرطت في محادثات سرية مباشرة مع روسيا تحسبًا وحذرًا من تصعيد نووي روسي.

في هذا السياق بدأ مستشار الأمن القومي «جيك سوليفان» في وقت سابق من هذا الشهر مناقشات مع أوكرانيا بشأن إنهاء الصراع؛ حثت أمريكا خلالها كييف على إظهار انفتاح أكبر على الدبلوماسية؛ لأنها لا تستطيع تحقيق نصر كامل في ساحة المعركة.

إجراءات كلها تصبّ في خانة واحدة؛ هي أن بايدن قد بدأ مؤخرًا بالفعل يَستخدم آليات الدبلوماسية بشكل متزايد في محاولة منه لتقليل النفقات الاقتصادية وضغط عملية التسليح الأمريكي.

رؤية بايدن في الحد من التسلح:

على ما يبدو فإن هذه الإجراءات تأتي منبثقة من رؤية مسبقة لدى بايدن الذي كان قد قطع التزامًا بـالحدّ من التسلح عند بروزه مرشحًا رئاسيًّا باعتبار ذلك جزءًا بارزًا من برنامجه الانتخابي، وهو الإطار الحاكم التي يمكن أن يُفْهَم به توجُّهه الاستراتيجي الإجمالي الذي يَسْعَى له خلال فترة حُكْمه.

 توجُّه بايدن الذي وعد به عضّدته بعض الحقائق المقلقة لواشنطن مع زيادة أزمة تغيُّر المناخ والأزمات الأخرى الاقتصادية الغربية والأمريكية، والتي تفاقمت بسبب الآثار السلبية لوباء COVID-19، والتي ضاعفت حاجة البنتاغون للقيام بفحص وتقليل جميع نفقات الدفاع الرئيسية.

توجُّهات وحقائق يمكنها أن تُفسِّر لنا الأسباب التي دفعت لاستخدام سياسات أكثر تحفظًا، والقيام بأدوار إقليمية أمريكية أخفّ وجودًا من الناحية العسكرية -لا سيما في الشرق الأوسط- بعدما كان حماس الولايات المتحدة قد ضعف بشدة عن القيام بتلك الأدوار في فترة التراجع الاستراتيجي السابق لواشنطن، الذي أحدثه وجود ترامب في سُدَّة الحكم لتواصل أمريكا سَيْرها هذا الطريق الذي تَفْرضه إملاءات الواقع.

على ضوء ذلك تُظهر هذه الاستراتيجية مؤشرات متتالية من التراجع الأمريكي المخالِف لحالها سابقًا قبل أكثر من سبعين عامًا؛ حين ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها قوة عالمية منفتحة خلال الحرب العالمية الثانية، وشكَّلت القواعد العسكرية الخارجية حَجَر الأساس لسياستها وقدرتها على إبراز قوتها العسكرية وممارسة نفوذها السياسي، ولكن يبدو أن الخط العام الحالي والقادم في الأولويات الاستراتيجية لواشنطن خاصةً بالنسبة للمناطق الأساسية -أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط- باتت تسمح فقط بوضعية قاعدية أكثر تواضعًا مرتكزة على القدرات والخبرات العسكرية المحددة، مع توسيع نطاق التعاون مع الحلفاء في كل محور.

هزات القلق الغربية

تزامنت هذه التوجهات والإجراءات الأمريكية مع ارتفاع وتيرة هزات القلق في المجتمعات الأوروبية بشأن الحرب في أوكرانيا، وهو قلق لا علاقة لها بالخوف من الجيش الروسي التقليدي، بل خوف من أن تضطر موسكو مع الوقت إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية بُغية الحسم، وهو خوف أوروبي يتعلق أيضًا بخطر نقص الطاقة؛ بسبب قطع إمدادات الغاز الروسي.

إنه خوفٌ يقود فقط إلى الرغبة في وقف إطلاق النار في أوكرانيا؛ حذرًا من المجهول الذي لا يمكن توقُّع مداه، صاحَب ذلك القلق حالة موازية من النقاش النشط داخل المجتمع الأمريكي، ولدى النخب السياسية حول الرغبة في تقليل الأنشطة العسكرية الأمريكية العالمية والوجود الخارجي، سواء كان ذلك بسبب الإرهاق من خوض حروب ممتدة أو لأسباب مالية واستراتيجية كلية.

الخوف الأمريكي من أسوأ السيناريوهات؟

في هذا السياق المشحون لم يكن غريبًا أن يمتدّ هذا النقاش المجتمعي إلى داخل المؤسسة الأمنية الأمريكية، وهو ما يناسب طبيعة وتكوين وميل المؤسسات الأمنية إلى التخطيط لأسوأ السيناريوهات؛ تلك السيناريوهات التي ترصد وجود مخاطر جسيمة بالفعل على الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.

وقد ترجمت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2022م هذه التخوُّفات، وركَّزت بوصلتها حول ما اعتبرته تهديدات كبرى على الولايات المتحدة؛ تمثلها كل من روسيا والصين (مع نظرة عرضية على إيران وكوريا الشمالية).

الخوف الأمريكي الحالي عقب التدخل الروسي الأخير من أن تتطور الأمور إلى مواجهة دائمة بين روسيا والغرب واستمرار خطر ظهور أشكال جديدة من الصراع النشط، وهي المواجهات التي سيكون لها تأثيرات سلبية فيما ترى دوائر متعددة لصنع القرار الأمريكي أنه ينبغي حاليًا أن تكون الطريقة المثلى في إدارة هذا الصراع هي الوصول للهدف بغير أسلوب القتال الموسَّع بعدما صعَّد الطرفان نزاعهما السياسي والاقتصادي بشكلٍ مطردٍ منذ بدء الصراع في أوكرانيا في فبراير 2022م، والذي كانت أبرز مظاهره  تعبئة بوتين لروسيا، واتهام الولايات المتحدة بالسعي للهيمنة على أوروبا وعزل روسيا، فيما رَدّ الغرب بتعزيز وجوده العسكري في المناطق الأمامية لحلف الناتو، وشنَّ حربًا اقتصادية تعادل الحرب ضد روسيا، وهي الحرب التي تضمَّنت وقف استيراد الغاز وغيره من الواردات من روسيا.

غير أنَّ ما يمكن ملاحظته في سياق هذا التصعيد المتبادَل أنه في غضون شهر من الآن، ومع دخول الشتاء القاسي سيتضرر الاقتصاد الأوكراني تمامًا، وستزيد نفقات الغرب على دعم أوكرانيا عدة مرات، على خلفية التضخم المرتفع وأزمة الميزانية في الغرب، ومع زيادة العوامل المناخية من تساقط الثلوج، ستُدَمِّر روسيا على مستوى التصعيد العسكري المعدات الأوكرانية بنجاح أكبر، وبحلول نهاية الشتاء سيكون الخط الأمامي الروسي مختلفًا تمامًا عن الخط الحالي. 

 أما عن حسابات الصراع في المحور الصيني؛ فإن القوة الاقتصادية المتنامية لها، وتصاعد قوّتها خاصةً في مجال الفضاء، وتنامي قدراتها في الحرب الإلكترونية والمعلوماتية؛ تجعلها تُمثِّل خطرًا هائلاً على أمريكا، خاصةً إذا التزمت واشنطن بالدفاع عن تايوان -التي لا تُعدّ حليفًا رسميًّا للولايات المتحدة-، ويزداد الأمر صعوبةً مع كون نظام التحالف الأمريكي في شرق آسيا ليس قويًّا وشاملاً، كما هو الحال في أوروبا رغم تحالف كلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ووجود قواعد أمريكية على أراضيهم، لذلك تسعى الولايات المتحدة أيضًا في هذا المحور باتجاه تخفيف التوتر حول تايوان تحسبًا لحدوث أسوأ السيناريوهات في تلك الساحة المهمة من النفوذ الأمريكي الدولي.

صراع سياسي واقتصادي مستمر

وهكذا تستمر أوجه صراع قوى النظام العالمي الحالي بين الغرب بقيادة أمريكا والتحالف الروسي الصيني، والتي من المرشَّح أن تتواصل خلال الأعوام القادمة، وإن دلَّت المؤشرات على تراجع ظاهر في الحضور الأمريكي الدولي مؤخرًا، فبعدما كان حديث بايدن في (مارس) الماضي عن أن الغرب يُخطّط لخوض حرب طويلة نرى الآن ما يحدث من السير في اتجاه التهدئة والبحث عن حلول دبلوماسية، على خلفية أن تسليح أوكرانيا مع الضغط الاقتصادي على روسيا لم يؤدّيا إلى نتائج إيجابية كبيرة، فبالكاد أثَّرت العقوبات على قيمة الروبل، بينما يبدو أن أوروبا تتجه نحو الركود بعدما أوقف بوتين إمدادات الغاز عن أوروبا، هذا الركود أصاب أيضًا الولايات المتحدة بنسبة أقل، وهو ما يَشِي بحدوث تراجع جديد للحضور الأمريكي على المسرح الدولي.

تراجع لعل دافعه الأبرز هو الاقتصاد جرّاء زيادة التضخم والركود المالي؛ الأمر الذي لم تشهده أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وستكون هذه المشكلة ضاغطةً بقوة على الأمريكيين خاصة الفئات الأكثر ضعفًا مما سيكون له انعكاسه السياسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.

ويبدو أن هناك نوعًا آخر من الحروب ستتجه له واشنطن بشكل أكبر في المستقبل القريب؛ يتمثل في جانب القوة بتعزيز الردع تجاه القوى الكبرى، خاصةً مع تصاعد القدرات النووية الروسية، وستركز الولايات المتحدة على الصراعات والمواجهات السياسية والاقتصادية دون قتال أو توسّع عسكري غير مأمون العواقب؛ حتى لا يزيد بسبب ذلك تراجعها من حيث النفوذ على مناطق متعددة من العالم؛ الأمر الذي يُمهِّد لبروز أدوار قوى إقليمية أخرى في كل محور من محاور النظام الدولي.

أعلى