• - الموافق2024/05/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الجمل والاوراق النقدية

رضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ما كان أعقلَهم وأَلَبَّهُم وأحرصَهم على علوّ الهمة واهتِبال الفرص، وأعلمَهم بما ينفعهم.


الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعدُ:

خُذْ ورقة نقدية من الفئات الكبيرة، وقدِّمها إلى جَمَل! وقرِّبها من فمه! قَرِّبها أكثر! ماذا سيحدث؟ سيأخذها الجمل بيده ويضعها في جيبه ليشتري بها مستقبلًا ما لذَّ وطاب؟!

لا! لن يحدث شيء من ذلك أبدًا..

فما الذي سيحدث إذًا؟ الذي سيحدث بكلِّ بداهةٍ أن الجمل سيلتهم الورقة النقدية الثمينة كأيّ ورقة أخرى..

إلى هنا لا جديد في الأمر، فكلنا يعرف ذلك! فما المقصود إذًا؟

هل سألت نفسك يومًا: لماذا يُقْدِم الجمل على هذا التصرف؟!

أنا متأكد أنك تعرف الجواب! إنه جهل الجمل، وضعف عقله، وعدم تقديره لقيمة ما حوله، فهذه الورقة النقدية الثمينة لا تعني شيئًا عنده أكثر من أنها ورقة! ولا فرق بينها وبين سائر الأوراق عنده..

وفي البشر مَن يشبه هذا الجَمَل.. نعم.. فيهم مَن لا يُقَدِّر قيمة ما حوله.

إذا أردت الدليل فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار.

كم من الفضائل تراها متاحة حولك ويزهد فيها الناس رغم القدرة على فِعْلها وعدم الكلفة في أدائها!

ألم تشاهد مَن لا يحضر للصلاة إلا بعد أن يُنادَى بإقامتها، مع فراغه وقُدرته! حارمًا نفسه من فضيلة التبكير والصف الأول!! ألم تَرَ في كلّ مسجد مَن قد يدخل مبكرًا لكنَّه يذهب هناك في طرف الصف، أو في مؤخرة المسجد! تاركًا القُرْب من الإمام والصفوف الأولى رغم فضلها!!، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ والصبح، لأتوهما ولو حبوًا»[1].

وفي حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟!»؛ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ. وَيَتَرَاصُّونَ في الصف»[2].

فانظر إلى هذه الفضائل وزُهْد الكثير من الناس فيها! انظر إلى فضل النداء، وهو الأذان وقَدره وعظيم جزائه! وفضل الصف الأول! وفضل التهجير -وهو التبكير إلى الصلاة؛ أيّ صلاة كانت- وكيف أن الناس لو علموا مقدار فضل هذه الأعمال لتسابقوا إليها، لتحصيل فضلها، ولتشاحّوا فيه، فلم يُوافق أحدٌ منهم على إيثار غيره بها، ولو لم يجدوا طريقًا يُحصِّلون به هذا الفضل إلا أن يقترعوا عليه لاقترعوا.

ولو علموا فضيلة شهود صلاتي العشاء والفجر في جماعة، ولم يستطيعوا السير إليهما بأقدامهم لأتوا إليهما حَبْوًا على اليدين والركبتين.

هل يدرك المتأخرون عن العبادة مقدار شؤم تأخُّرهم عنها وتقاعُسهم عن أدائها؟! فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا؛ فَقَالَ لَهُمْ: «تقدَّمُوا فائتمُوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله»[3].

هل يدرك الغافل أنه يستطيع في أقل من دقيقة في صباحه، ومثلها في مسائه أن يكسب الجنة؟! نعم الجنة! ببضع كلمات فحسب، فعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنة»[4].

أبواب المنافسة والمسابقة مُشْرَعة أمام الجميع، ولا تضيق عن أَحَد؛ فصاحِب المال له مجاله، وصاحب الصحة في البدن له ميدانه، ومَن لا مال عنده ولا قوةَ في البدن فله أيضًا مضماره، أرأيت هذا اللسان كم يكسب لك! حتى وأنت مدقِع لا مال عندك! حتى وأنت عاجز لا حراك بك! فضلاً عن أن تكون ساربًا في كلِّ فَجٍّ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ من الأموال بالدَّرجات الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ، يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ، أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ، خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ». فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثلاثًا وثلاثين»[5].

وفي رواية أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لهذا الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ لهم: «أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً. وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً. وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً. وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً. وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ. وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ. وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعها في الحلال كان له أجر»[6].

وتحكي لنا رواية مسلم هذه الزيادة المُعبِّرة: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا؛ فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذلك فَضْل الله يؤتيه مَنْ يَشَاءُ»؛ فانظر لهذا التسابق بين الصحابة إلى الخير، والنّهل من مَعِين الحسنات، إدراكًا منهم لقيمة هذه الأعمال.

أضف إلى ذلك ما لهذا الذكر من الأثر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «من سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كانت مثل زبد البحر»[7].

دقيقتان أو ثلاثٌ تَفتح لك أبواب الجنة الثمانية! تدخل من أيها شئتَ! فاجتهد على الإحسان والإخلاص، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي؛ فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ؛ فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ». قَالَ فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ؛ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ. قَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا. قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ (أَوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»[8].

هل أَعيتك الخطايا والذنوب! وأثقلت كاهلك المعاصي! أين أنت من هذا الذِّكر، خفيف المؤونة عظيم الأثر؟! دونك ماحي الذنوب ومُسْقِط الخطايا، فعَنْ أَبِي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»[9]. حَرِّك لسانك وأَحْضِرْ قلبك، وأَبْشِرْ بكلِّ خيرٍ.

وفي حديث أَبي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»[10].

جبال من الحسنات تفوتنا! كان كَسْبها علينا يسيرًا، فعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ! أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ»< فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ؛ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا في قراريط كثيرة[11].

من المؤكد أن موقف ابن عمر -رضي الله عنهما- أثار انتباهك إلى مدى الأسى والحُرْقَة وعمق التفكير في الفرص الكبرى الفائتة عليه! «وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ» لحظات انتظار وترقُّب! «فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا في قراريط كثيرة»؛ لحظة أسًى وتحسُّر! هل نعيشها حين تفوتنا الفُرَص؟!

رضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ما كان أعقلَهم وأَلَبَّهُم وأحرصَهم على علوّ الهمة واهتِبال الفرص، وأعلمَهم بما ينفعهم.

عَنْ أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «من قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ على كل شيء قدير، في يوم، مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحِيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان، يومه ذلك، حتى يُمسي. ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك. ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يوم، مائة مرة، حُطَّت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر»[12].

ما أكثر أبواب الخير التي يقترب منها الإنسان ويتمكن، ومع ذلك يَزْهد فيها ويتركها.. كمثل مَن يرد الماء ولا يشرب رغم ظمئه. ومَن يجلس على المائدة ولا يأكل رغم جُوعه.. وهذا لا يُتَصور من عاقل يعرف أن الطعام يُشْبِع، ولا من ظمآن يدرك أن الماء يُروي:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

إن من الحكمة والعقل والفطنة والكياسة وبُعْد النظر لمن تقدم به العمر، وطعن في السن، أو بدت عليه بوادر المرض أو العجز؛ أن يستكثر من الأعمال الصالحة والسُّنن لتُكْتَب له بقية حياته حين يعجز عنها.

لئن كان كيِّسًا فَطِنًا عاقلاً مَن يجمع المال ليضعه في استثمار يُدِرّ عليه وقت عَجْزه عن العمل؛ فإن هذا أكيس وأعقل وأبعد نظرًا وتخطيطًا بمراحل، مع أنه لا تعارُض بين التخطيطين.

إن العلاج لمثل هذا الحرمان يتحقق بعدة أمور؛ منها:

  أن ندرك مكانة كل عمل صالح في الإسلام، ونتعلم ونتفقّه في مبلغ فضله على غيره، حتى نضع كلّ عمل من الأعمال الصالحة في موضعه اللائق به، استباقًا للخيرات، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، فهناك الكثير من النصوص الشرعية؛ كتابًا وسُنّة، تضع كل عمل صالح في موقعه الصحيح في سُلّم أولويات الفضل ورصيد العائد منه، وغيابُ هذا العنصر قد يُتْعِب الإنسانَ في عملٍ يحوز غيره من الناس أضعاف أجره بأقل منه جهدًا، وهاك هذا المثال: عن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم  خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم! قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته»[13].

فهَلَّا قلّبت صفحات أبواب فضائل الأعمال في أيّ كتاب متخصّص؟! لتنتقي أكثرها أجرًا وأعظمها أثرًا وأخفّها أداءً!

  أن نُعزّز في قلوبنا تعظيمَ الله -عز وجل- وإجلالَه، وتعظيمَ نصوص كتابه، وتعظيمَ رسوله صلى الله عليه وسلم  وسُنّتِه، وأحكامَ شرعه، فبهذا تَندفع النفوس نحو العمل الصالح، وتُكثِر منه وتُخْلِص، وتنتقي منه ما يُحقّق هذا التعظيم والإجلال.

  وَضْع هذا الحديث العظيم نُصْب العينين، هذا الحديث الذي يرويه حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فيقول: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[14]، فالفقه في الدين -وهو معرفة مراتب العبادات وأحكامها- علامةُ خير واصطفاء، ومفهوم هذا الحديث أنَّ مَن لم يرد الله به خيرًا فإنه يَصْرفه عن التفقُّه في الدين.

 أن نستعين بالله -تعالى- على تلك الأعمال، فما تقاعس وخُذِلَ إلا مَن خذَله الله وتركه فلم يُعِنْه.

فشَمِّر -رعاك الله- وبَادِر، واستعِنْ بالله، فلا مُعِين إلا هو سبحانه وتعالى.


 


[1] أخرجه مسلم: 1/ 325 الحديث: (437).

[2] أخرجه مسلم: 1/ 322 الحديث: (430).

[3] أخرجه مسلم: 1/ 325 الحديث: (438).

[4] أخرجه البخاري: 5/ 2323، الحديث: (5947) و 5/2330 الحديث: (5964).

[5] أخرجه البخاري: 1/ 289، الحديث: (807)، ومسلم: 1/416، الحديث: (595).

[6] أخرجه مسلم: 2/ 697، الحديث: (1006).

[7] أخرجه مسلم: 1/ 418، الحديث: (597).

[8] أخرجه مسلم: 1/ 209، الحديث: (234).

[9] أخرجه البخاري: 5/ 2352، الحديث: (6042).

[10] أخرجه البخاري: 4/1923، الحديث: (4753)، ومسلم: 1/ 554، الحديث: (807).

[11] أخرجه مسلم: 2/ 653، الحديث: (945).

[12] أخرجه مسلم: 4/ 2071، الحديث: (2691).

[13] أخرجه مسلم: 4/ 2090، الحديث: (2726).

[14] أخرجه البخاري: 1/ 39، الحديث: (71)، ومسلم: 2/719، الحديث: (1037).

أعلى