بين التنظير والواقع
كنت دائماً على اعتقاد
جازم أن التنظير لا بد أن يتعلق بالواقع، وإلا شابهنا تنظير المبتدعة الذين
يخترعون الصور الذهنية ويجادلون عنها.
فالتنظير المجرد عن
الواقع ليس من الإسلام في شيء بل هو الجدل المقيت الذي منه حذر النبي صلى الله
عليه وسلم وأمر بتركه فقال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان
محقاً»[1]. وهذا الجدل هو الذي
أوقع أمتنا في نكبات ومصائب على مرِّ الأزمان.
ففي عصر الصحابة لم يكن
(الواقع) بحاجة إلى شرح التوحيد وتقسيمه بالأسلوب المتعارف عليه الآن، لأن الإيمان
خالطت بشاشته قلوبهم وكانوا أهل لغة يفهمون ما لهم وما عليهم من النبع الصافي
(الكتاب والسنة).
ولما كثر الجدل ونبتت لنا
نابتة المبتدعة يحصرون التوحيد في صورة واحدة اختلفوا عليها، وينظِّرون على هذا
لهدم الدين، استقرأ لهم العلماء كتاب الله وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبينوا أن التوحيد يدخل فيه كل معانيه التي بسطت في كتب الاعتقاد، فتنظير العلماء
وقتها كان نصرة لمذهب السلف وردّاً على الشبهات والأهواء التي تطايرت بالقوم
قأهلكتهم.
والناظر في كتب شيخ
الإسلام ابن تيمية يرى تنظيراً لتقرير توحيد الأسماء والصفات وقواعد الرد على
المبتدعة من معطلة ومشبهة؛ فهذا تنظير احتاجه الواقع ولم ينشئه الشيخ ابتداء من
تلقاء نفسه.
وفي عصر الشيخ محمد بن
عبد الوهاب، احتاج الواقع لتنظير آخر، وإن كان له سبق في كتب السلف، ولكن احتيج
لإبرازه والتأكيد على منهج السلف فيه، وهو توحيد الألوهية وما يضاده من شركيات
ونواقض الإسلام.
إذن التنظير وإثارة
العلوم عند أهل السنة ليست منفصلة عن الواقع وليست مجرد فكرة في الذهن أو بسط
لأفكار لا حاجة للتنظير عليها ولا يحتاجها الواقع؛ وإنما فقط تثير جدلاً وتوسِّع
الهوة والخلاف بين المسلمين مما يسيء لواقع أمتنا كثيراً.
فإذا انفصل التنظير عن
الواقع وما يحتاجه الواقع، ينشأ وضع مذموم يشعرك أن العالم في وادٍ والمتحدث في
وادٍ آخر، وهذا لا شك أنه من أسوأ البلايا التي لو وقع فيها الداعية فشلت دعوته،
وهو كذلك منافٍ للعلم والفقه والحكمة.
ويجدر ها هنا الإشارة إلى
أن التنظير لمسائل الطهارة وأحكام الصلاة والاعتقاد... إلخ، لا تدخل معنا في هذا
الباب؛ لأنها تنظير يحتاجه الواقع أيما احتياج؛ فلو صلح القلب بالعقيدة يصلح عمله،
وأول ما يسأل عنه العبد في القبر الصلاة، فهو تنظير يحتاجه المرء بعدد أنفاسه،
والسعيد من فُتِح له باب الفقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يُرِد الله
به خيراً يفقه في الدين»[2]. فمما لا شك فيه أن
الدين عقائد وعبادات وكلها من الفقه وكلها يحتاج إليها الواقع دائماً بلا شك أو
مرية؛ وإنما الحديث عن غير هذا فتنبه.
وهناك صور عديدة ومتنوعة
لمسألة التنظير المنفصل عن الواقع، فمنها ما هو تنظير باطل، ومنها ما هو حق وضع في
غير موضعه، ومنها ما هو حق ولكن خارج محل النزاع، ومنها ما هو غير ذلك؛ ولذلك
يَحسُن ضرب بعض الأمثلة، والقارئ اللبيب يمكنه أن يطَّرد على هذا المنوال.
فلدينا صورة من
التنظير الجدلي الذي لا فائدة تعود على المكلف منه في دنياه ولا آخرته، مثل جدال
اليهود في مسألة مفضولة لا أهمية لها في لب العلم والعمل ونجاة الإنسان يوم
القيامة، وقد أمر الله - تعالى - ألا يُلتفَت لهم ولا ينشغل المرء بمِرائهم؛ لأنه
لا يترتب على معرفة ذلك كبير أهمية. قال - تعالى -: {سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ
إلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}
[الكهف: 22].
فهذا أمر الله لنا بعدم
الالتفات للنتظير الجدلي مع بيان الحق والإعراض عن الجاهل.
ويحسن أن يلفت الإنسان
نظرَ المجادل بهذا النوع إلى ما هو أنفع له مثلما ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم
على السائل عن الساعة؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك - رضي
الله عنه -: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟
قال: «ما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب
الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت».
لكن ننتقل الآن إلى نوع
آخر؛ فهذا رجل دخل على عاصٍ مذنب مصرٍّ مستكبر، فحدثه عن رحمة الله وأنه غفور
رحيم، فأُخبر أن هذا موضع ترهيب لا ترهيب، فوجد عاصياً آخر تائباً قد أقلع وندم،
فحدثه عن شدة العقاب وحرارة الجحيم!
فكيف يتصور المرء حجم الفساد الناجم عن مثل هذا الحديث؟
ونوع آخر: أُدخل رجل على
قارون في ملئه وعنده من يأمره بالصدقة وعفة القلب عن الدنيا و «ألا يستغني بماله
تكثُّراً ولا يستكثر منه تملُّّكاً»[3] واستكباراً، فقال
للناصح: حسبك! أما سمعت قوله - تعالى -:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}
[الأعراف: 23]، ثم أسهب في الرد مبيناً مساوئ الزهد البدعي لصوفي.
وهذا تحدث بكلام جيد متين
واستدل واتبع منهج السلف في الاستدلال، لكن في غير موضعه؛ فهو يعترض على قول صحيح
في موضعه بإيراد صحيح في غير موضعه ويجادل في المكان الخطأ والزمان الخطأ، فلا
تزيد كلماته قارون إلا غروراً وطغياناً وإعراضاً وسفاهة؛ فما بالك لو كان فعله هذا
مع فرعون لا قارون!
وعندما ثارت ثورات الشعوب
الإسلامية في مصر وتونس وسورية وليبيا هذا العام، وجدنا من يخرج علينا لائماً
ومندداً بالثوار (الخوارج البغاة) داعياً لطاعة أُولِي الأمر المؤمنين أولياء الله
الصالحين، مبتهلاً إلى الله أن يهلك هؤلاء (الخوارج البغاة) الذين خالفوا المنهج
القويم ولم يتبعوا سبيل المؤمنين، سائلاً ربه أن يجعل قتلاهم في الجحيم!
ويشعر القارئ بالانبهار
من هذا المتحدث عندما يظن أنه يتحدث عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة
الراشد، أو على أقل تقدير أحد خلفاء الأمويين أو العباسيين، بل لو قال هذا في
خليفة يحكم بما أنزل الله في مجمل حكمه وينصر شرع الله ويستعلن بحب دين الله، ولو
فسق وفعل ما فعل بعد ذلك لكان مقبولاً. فأين هؤلاء من الإمارة الفاجرة التي وصفها
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: (لا بد للناس من إمارة (برة كانت أو
فاجرة). فقيل: يا أمير المؤمنين! هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال:
يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهَد بها العدو، ويقسم بها الفيء)[4].
وكأنه لم يعرف ما أحدثه
هؤلاء من تبديل شرع الله وشن الحرب على الإسلام والمسلمين ونصرة غيرهم عليهم،
وكأنه لم يعرف أن هؤلاء كرروا في أكثر من مناسبة أن بلادهم ليست إسلامية وأنها
بلاد عَلمانية! وكأنه لم يعرف ما كان يحدث في سراديب هذه البلاد من تعذيب للمؤمنين
فقط لأنهم مؤمنين!
فما علاقة هذا التنظير بواقعنا الحالي؟
مثال آخر: لا بد أن كل
متابع للأحداث في مصر الآن يعرف أن التيارات بحمد الله قد انقسمت لقسمين لا ثالث
لهما: تيار إسلامي وتيار علماني.
وبغض الطرف عن أعيان
وأفهام من يدين بالعَلمانية فقد يكون بعضهم معذوراً أو غير معذور؛ فمنهم من يظن
أنها لا تخالف الإسلام؛ وإنما الأعيان يصلح ردُّ الحكم فيهم إلى أهل العلم
الراسخين؛ فحديثنا عن الفكر نفسه وليس عن الأشخاص.
العَلمانية أول مبادئها
الذي تنادي به باختصار أن الشعب حاكم مشرِّع، وأن تحكيم الشرائع الدينية لا (يصح)
في الوقت الحالي؛ لأن في ذلك (ظلم) للأقليات؛ فهل يشك عاقل أن هذا الفكر هو فكر
مناقض للتوحيد؟ لا يختلف في ذلك اثنان من أهل السنة لا من السلف ولا من المعاصرين[5]، بل من ينتمي لغير أهل السنة أيضاً لا يخالف ولمفتي مصر الذي ينتمي
للصوفية كلام صريح مفاده: أن العلمانية مضادة للتوحيد!
فهل يشك عاقل أن هذا
الفكر لا بد أن يحارب ويبيَّن عواره؟ هل يشك عاقل أننا بحاجة لبيان أهمية الحكم
بما أنزل الله في هذه المرحلة الحرجة؟ هل يشك عاقل أننا بحاجة لبيان أن القوانين
الوضعية وفرضها على الأمة مناقض للتوحيد؟ هل يشك عاقل أننا بحاجة لتوحيد الصف
والجهود ضد هذا التيار وأن التعاون على ذلك من باب البر والتقوى؛ لا سيما أنَّا في
مرحلة بناء نحاول فيها تقليل الخسائر إلى أقصى حد والقرب من شرع الله؛ فما لا يدرك
كله لا يترك جله.
لكن نجد من يخرج علينا
بكلام مفادُه: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر، ومجرد معصية، وأن الأمة
ليست مستعدة للدعوة إلى الحكم بما أنزل الله؛ لأن فيها - أي الأمة - بدع ومخالفات!
ثم يطنبون في التنظير لمسألة أخرى مستدلين باتفاق الجميع على عدم كفر القاضي الذي
يحكم بما أنزل الله في المجمل ثم يزل في قضية لشهوة أو هوى؛ فإنه إن لم يستحل فهو
عاصٍ ولم يقع في الكفر! ويَصُفُّون أقوال السلف الواحدة تلو الأخرى التي تبيح ذلك
في حالات الاضطرار والحاجة وأشباهها. وكذلك الواصفة لمن فعل ذلك - بهوى أو شهوة -
أنه عاصٍ وليس بكافر!
فهل هذا الاستدلال له محل من الإعراب في قضيتنا؟
وهل الواقع الحالي يحتاج
لهذا التنظير أم أن هذا التنظير لا علاقة له بواقعنا الحالي؟ بل هو مفسد له، وهو
يد تصافح يد أعدائنا وفكرهم المناقض للتوحيد، قصد فاعلها أو لم يقصد، ولعله لو
امتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً
أو ليصمت»[6]، لكان خيراً له، ولكن
قدَّر الله - تعالى - أن يكون الخير أعمَّ فيصبر أهل الحق ولو رماهم الرماة من كل
حدب وصوب، ولو خذلهم من أبناء جلدتهم من خذلهم؛ فإني أشهد أنه حق ما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من
خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك»[7]، وكلٌ يناله نصيبه من الكتاب.
أماالمصيبة الكبرى أن
صاحب هذا التنظير يرى أن العَلمانية... مجرد معصية لا تناقض التوحيد!
فما أجمل ما قاله ابن
القيم:
إذا كان هذا نصح عبد لنفسهِ
فمن ذا الذي منه الهدى يتعلمُ
وفي مثل هذا كان قد قال من مضى
وأحسن في ما قاله المتكلمُ
فإن كنت تدري فتلك مصيبة
وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظمُ
ولم تقف الكارثة الجارفة
عند هذا الحد، ولكن أن يكون ما سبق مقدمةً، وبناء عليها فواجب الوقت هو الدعوة إلى
نبذ البدع، وبما أن العلمانية لا تناقض التوحيد فالدعوة إلى نبذ البدع حالياً هي:
التحذير من السلفيين والإخوان في مصر وفضحهم!
[1] حسنه الألباني عن أبي أمامة الباهلي.
[2] السلسلة الصحيحة.
[3] ابن القيم طريق
الهجرتين.
[4] انظر: السياسة
الشرعية لابن تيمية.
[5] انظر: مأجوراً غير
مأمور كتاب فتنة التكفير للشيخ الألباني تعليق الشيخ ابن العثيمين، ورسالة تحكيم
القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ورسالة الحكم بغير ما أنزل الله
للسدلان، وغير ذلك من الرسائل والكتب القيمة للعلماء الأجلاء.
[6] رواه البخاري
ومسلم.
[7] رواه البخاري
ومسلم.