القرب من الله تعالى

وعلامة المحبة أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله تعالى، وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلِّها لله جل ذكره، والنصح فيها، وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها[9]، والبعد عن كل عمل يباعده من الله تعالى ويوجب غضبه.


من أسماء الله الحسنى (القريب). ومعناه: الذي ليس بعيداً، أي قريب الإجابة[1]. ومعناه أيضاً: أنه قريب بعلمه من خلقه، قريب بالإجابة ممن يدعوه[2].    

وقرب الله تعالى نوعان:

قرب عام: وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وهو بمعنى المعية العامة.

قرب خاص: من الداعين والعابدين، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإنابة للعابدين[3].

ولأجل ذلك ينبغي فهم القرب بهذا المعنى من العموم والخصوص، حتى لا يكون هناك تعارض بينه وبين ما هو معلوم من استوائه تعالى فوق عرشه كما يليق بعظمته وجلاله؛ فسبحان من هو عليٌّ في دنوِّه، قريب في علوِّه[4]. فهو جلَّ في عُلاه قريب ممـن دعاه، مجيب لاستغفار التائبين إليه[5].

ومن الأمور التي ينبغي للمؤمن العناية الشديدة بها: منزلة القرب من الله تعالى. وهذه المنزلة العالية لا تُنال إلا بالمجاهدة والمثابرة في العبادة. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  أن الله تعالى قال في الحديث القدسي: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...» (الحديث)[6].

وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الشيخان، قال الله تقدست أسماؤه: «وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»[7]. وفي حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه عن النبي قال: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر»[8].

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الله جلَّت عظمته قريب من عباده المؤمنين تارة باللطف، وتارة بالنصرة، وتارة بالاستجابة، وغير ذلك. وهذا خاص بالمؤمنين، إذ لا يوجد القرب في القرآن الكريم ولا في السنة المشرفة إلا خاصاً، بخلاف المعية العامة التي تكون لجميع الخلق، والتي تكون بالعلم والبصر والقدرة والقهر. ونفهم هذا القرب الخاص في قوله تعالى: {إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْـمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

فهو تبارك وتعالى قريب من الداعين والتائبين، يجيب دعاءهم بما شرع لهم من التوبة، ويثبِّت جنانهم، ويذيقهم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم عما فقدوه، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، وقوله عز من قائل: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وجدير بالذكر أن الأنبياء والصالحين يتنافسون في القرب من ربهم سبحانه، ويبذلون ما يقدرون عليه من الأعمال الصالحة المقرِّبة إلى الله تعالى وإلى رحمته، ويخافون عذابه، فيجتنبون كلَّ ما يوصل إلى عذابه، الذي تنبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.

وهذه الأمور الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة، التي وصف الله سبحانه وتعالى بها هؤلاء المقربين عنده، هي الأصل والمادة في كل خير. فمن تمَّت له، تمَّت له أموره، وإذا خلا القلب منها، ترحلت عنه الخيرات، وتولَّت عنه المكرمات، وأحاطت به الشرور. وعلامة المحبة أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله تعالى، وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلِّها لله جل ذكره، والنصح فيها، وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها[9]، والبعد عن كل عمل يباعده من الله تعالى ويوجب غضبه.

ويقرب الله جلَّ ثناؤه من يشاء من عباده ويدنيهم إليه إدناء تشريف وتكريم. ومن هؤلاء موسى بن عمران عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، ومن أهل التوحيد واليقين. وعلَّة ذلك أنه كان مخلصاً، وفضيلة الإخلاص هي إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهراً وباطناً والوصول في ذلك إلى أعلى المقامات. وهو عليه الصلاة والسلام في طريقه من مدين إلى مصر، ناداه الله تعالى في جانب الطور الأيمن مكلِّماً إيَّاه، حيث أنبأه وأرسله إلى فرعون وملئه، وأَعْظِمْ بهذا التكريم من تكريم أن يكلم رب العالمين بشراً ويقربه ويدنيه حتى سمع صريف القلم في اللوح المحفوظ، ويستجيب دعاءه بأن جعل أخاه رسولاً نبياً[10].

والمقربون هم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. فهم الفائزون حقاً في الآخرة، ودرجاتهم هي الدرجات العليا في الجنة، في جوار الرحمن، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فهم عند احتضارهم تبشرهم ملائكة الرحمة برَوح وريحان وجنة نعيم فتقول: «أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى رَوح وريحان ورب غير غضبان»[11].

على أن من مات مقرَّباً حصل له من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والحبرة والرزق الحسن الشيء الكثير.

أما في الجنة فقد أعد الله جلَّ شأنه للمقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الفردوس؛ «فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة»[12].

فهم متكئون على سرر منسوجة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت، يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق مملوءة من خمر من عين جارية معين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ، بل من عيون سارحة، لا تصدَّع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم، ولا تؤلم بطونهم، كما تفعل خمر الدنيا بأصحابها، بل هي ثابتة من شدة الطرب واللذة الحاصلة. كما يطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار، وبما يشتهون من لحوم ناعمة كأمثال البخت. ولهم فيها حور عين كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه، وذلك جزاء لهم على ما أحسنوا من العمل في الدنيا[13].


 


[1] الزجاجي: اشتقاق أسماء الله الحسنى، ص146.

[2] الخطابي: شأن الدعاء، ص102.

[3] السعدي: الحق الواضح المبين، ص64.

[4] شحاتة: أسماء الله الحسنى، ص527.

[5] أحمد عيسى: توضيح المقاصد: 2/229.

[6] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق: 7/190.

[7] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد: 8/171.

[8] أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم. انظر الألباني: صحيح الجامع الصغير: 1/1173.

[9] السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص536.

 [10] الطبري: جامـع البيــان: 7/5509. وأبو بكــر الجـزائري: أيسـر التفاسـير: 3/314 - 315 (بتصرف).

[11] أخرجه أحمد في مسنده: 2/364. وابن ماجة في سننه رقم (4262). وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات: 3/311.

[12] البخاري: كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله: 3/202.

[13] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 7/521 - 524.

 

 


أعلى