لماذا يميل البعض إلى تصديق نظرية المؤامرة؟ - مقال رأي-

ذكرت دراسة (Lantian et al 2017) أن نظريات المؤامرة تجذب الأشخاص الذين لديهم حاجة مزمنة للشعور بالاختلاف عن الآخرين، وتجعل الشخص يمتلك معلومات غريبة وغير تقليدية ونادرة؛ ومن ثَمَّ تسمح له بالشعور بالتميُّز مقارنة بالآخرين، وبذلك تلبي حاجة الشخص إلى التفرد


من منا لم يستمع يوماً إلى حكاية مؤامرة عميقة يرويها أحدٌ مَّا لنا أو تتداولها وسائل التواصل أو يطرحها الإعلام للعامة، حتى أصبح مصطلح (نظرية المؤامرة) لا يغيب عن الأحاديث اليومية، وأصبحنا نجهل طبيعة تلك الحكايات ولا نعلم إذا كانت وهْماً أم حقيقة؟

في الحقيقة جميعنا قد يصل بنا الحال بعد التعمق في تلك النظريات إلى تصديقها بعيداً عن العلم والمنطق، وهذا متوقع فلا أحد محصَّن عن الوقوع فريسة لنظريات المؤامرة.

وتزدهر نظرية المؤامرة في أوقات الأزمات، وحالياً من المرجح أن تعدَّ أزمة (كوفيد19) الراهنة التي مسَّت العالم كله، بيئة خصبة جداً لترويج نظرية المؤامرات، فالمؤامرات التي تم تداولها في ظل أزمة (كوفيد 19) كانت واسعة الانتشار وخَلَقت كثيراً من الشكوك لدى كثير من الأشخاص، وطرحت كثيراً من التساؤلات، منها:

هل هذا الفايروس بالخطورة التي يروَّج لها؟ هل نحتاج حقاً للبس الكِمَام واتخاذ كلِّ هذه الإجراءات الاحترازية؟ هل تم خلق هذا الفايروس بشكل مُتعمَّد من قِبل شخص أو مجموعة؟ هل تم تطوير هذا الفايروس بهدف بيع لُقاح بمبالغ ضخمة من قِبل الدول المتقدمة؟ هل اللقاح آمن أو له مضاعفات خطيرة جداً؟

وما زلنا في صدد التعامل مع مزيد من تلك النظريات التي تُطرَح من قِبل بعض الأشخاص ممن لديهم هوس نظرية المؤامرة وأنهم أشخاص مُستهدَفون!  (Douglas, 2020)

وأثق تماماً أن نظريات المؤامرة تتجاوز سلبياتُها خلق بضعة شكوك إلى آثارٍ سلبيةٍ على الصحة العامة؛ لأنها تدفع بالأفراد إلى الاستهانة بخطورة الفايروس وتجاهل نصائح المتخصصين في مجال الصحَّة العامة، بالإضافة إلى ضررها على الصحة النفسية وزراعة الشك والخوف، وعيش وَهْم هذه المؤامرات، الذي قد يؤدي إلى انعكاسات خطيرة جداً على الأفراد والمجتمعات، إذا لم يتم التعامل معها بشكل جدِّي.

قد تتساءل باعتبارك مهتماً في مجال علم النفس، وقارئاً لهذا المقال: ما هي العواقب النفسية لتصديق تلك المؤامرات؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم أن نعرف الأسباب والدوافع وراء تبنِّي هذه النظريات وتصديقها والإيمان بها، ففي دراسة (Douglas, 2017) ذكر الباحثون أن هناك عدداً من الدوافع التي تجعل الشخص يميل إلى تصديق المؤامرات أو حتى اختلاقها؛ فقد تكون تلك الدوافع معرفية تنتج عن الرغبة في تلبية الفضول للمعرفة عندما لا تتوفر المعلومات الكافية لديهم، وإيجادِ معنى للأحداث غيرِ الواضحة بالنسبة لهم، ويمكن أن تكون وسيلة ليستخدمها الشخص في الدفاع عن معتقداته، أو قد تكون ناتجة عن دوافع وجودية، فتوفر لهم المؤامرة التي يصدقونها الشعورَ بالأمن والاستقلالية وقوة السيطرة وقدرتهم على التحكم بالأمور، بالإضافة إلى وجود دوافع اجتماعية تتمثل في الرغبة بالحفاظ على الإيجابية والتخلص من الشعور بالذنب بلوم الآخرين على النتائج السلبية للأحداث وتعدُّ وسيلة دفاعية لمن يشعرون بالضعف وقِلة الحيلة.

وذكرت دراسة (Lantian et al 2017) أن نظريات المؤامرة تجذب الأشخاص الذين لديهم حاجة مزمنة للشعور بالاختلاف عن الآخرين، وتجعل الشخص يمتلك معلومات غريبة وغير تقليدية ونادرة؛ ومن ثَمَّ تسمح له بالشعور بالتميُّز مقارنة بالآخرين، وبذلك تلبي حاجة الشخص إلى التفرد.

وبالعودة للإجابة عن التساؤل السابق أقول: إن نظرية المؤامرة تعدُّ إدماناً سلوكياً يؤثر في طريقة الشخص في إدراك الأحداث من حوله؛ فبدلاً من محاولة التغلب على المشاعر السلبية، فإنه يلجأ إلى الإيمان بالمؤامرة ويخلق مزيداً من المواقف السلبية، ويعدُّ الأشخاص الأقل سِناً أكثر عُرضة لتصديق هذه المؤامرات والإيمان بها، فتشير (Douglas, 2021) في مقابلة صوتية إلى «أنه كلما تقدمتَ في العمر، قل إيمانُكَ بنظريات المؤامرة والعكس».

ويؤثر هذا الإدمان على الشخص فيجعله في حالة ارتياب وقلق وخوف دائمٍ دون سبب، وفقدانٍ للسيطرة، ويصل به إلى الشعور بعدم الانتماء والعُزلة، والشعور بالاغتراب النفسي والاستياء من المجتمع... وغير ذلك من التبعات السلبية المؤثرة بشكل مباشر على الصحة النفسية للفرد الذي يميل إلى تصديق نظريات المؤامرة، ويمكن أن يسبب إدمان نظرية المؤامرة ضرراً نفسياً واجتماعياً طويل المدى للفرد. (Cherry 2020)

وللتغلب على إدمان نظرية المؤامرة، لا بد من اللجوء للعلاج والإرشاد النفسي، وأعتقد أن التعامل مع هذا النوع من الاضطراب قد يكون من المفيد جداً فيه الاستعانة بتقنيات وفنيات العلاج الانفعالي العقلاني؛ لمحاولة تغيير طريقة تفكير المسترشد ودحض الأفكار غير العقلانية وتبنِّي أخرى أكثر عقلانية ومنطقية، ومن المهم للمرشد تبصير المسترشد بحقيقة هذه المؤامرات وأنها مجرد وهْم، حتَّى يصبح على يقين من أن مَن حوله لا يهدفون إلى إيذائه وليسوا ضدَّه، وأن يكون قادراً على تحليل المعلومات والتمييز بين نظريات المؤامرة الخاطئة والتهديدات الحقيقية.

وعلى المرشد أن يعلم أن علاج هذا النوع من الاضطراب ليس بالأمر السهل وأن يكون صبوراً في هذا التدخل العلاجي؛ لأن غالبية المصابين به لا يعترفون بوجود خلل مَّا لديهم، وقد يرفضون الخضوع لأي علاج، فعليه أن يحاول الوصول إلى النقطة التي تجعل المسترشد يعترف بالمشكلة وتأثيرها السلبي عليه ويصبح فيها راغب في المساعدة والعلاج. 

وفي الختام: في ظل المواقف والخبرات المختلفة التي نمرُّ بها، نحن في حاجة إلى تحكيم الوعي لا تغييبه عن مواجهة الحقائق والوقائع، مع التأكيد على عدم تداول مثل تلك الأفكار المضللة ونشرها، والثبات لا الهروب عن مواجهة الأخطاء والسلبيات التي تعترض طريقنا بتصديق أوهام ومؤامرات أبعد ما تكون عن الصِحة والمنطق.

المراجع:

American Psychological Association. (2021, Jan11). Speaking of Psychology: Why people believe in conspiracy theories, with Karen Douglas, APA Journal Dialogue, Episode 124. https://www.youtube.com/watch?v=5MgBnl-fe4A

Cherry, k. (2020, September19). Why People Believe in Conspiracy Theories. Verywell Mind. https://www.verywellmind.com/why-people-believe-in-conspiracy-theories-4690335

Douglas, k. (2020, May29). Psychological Science and COVID-19: Conspiracy Theories. News wise. https://www.newswise.com/coronavirus/psychological-science-and-covid-19-conspiracy-theories

Douglas, k., Sutton, R., & Cichocka, A. (2017). The Psychology of Conspiracy Theories. Current Directions in Psychological Science, 26 (6), 538–542.

https://doi.org/10.1177%2F0963721417718261

Lantian, A., Muller, D., Nurra, C., & Douglas, K. (2017). “I Know Things They Dont Know!" The Role of Need for Uniqueness in Belief in Conspiracy Theories. Social Psychology,48 (3), 160-173. https://doi.org/10.1027/1864-9335/a000306

 

 


أعلى