(إفريقيا الفرنسية) في الخطاب الفرنسي المعاصر

لعل مسألة إفريقيا والتاريخ، تعدُّ من أكبر المآسي والعُقَد التي تكبِّل الإفريقي الذي (لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية)؛ فهل لأن إفريقيا لم تدون تاريخها، وظلت تعتمد على الشفهي اتهمت بأنها ليس لها تاريخ، ومن ثَمَّ أفسحت المجال للآخر ليكتب تاريخها وَفْقَ إراد

 

هل الإنسان دائم التغير، أم هو هو نفسه؟

هذه هي الإشكالية التي اختلف حولها الفلاسفة، وتعددت بشأنها المواقف. وسنسعى من جهتنا إلى توظيف هذه الإشكالية الفلسفية، لمقاربة إشكالية تاريخية تتعلق بطبيعة حضور إفريقيا في الخطاب الفرنسي المعاصر، وذلك من خلال تقديم قراءة في خطابات متفاوتة زمنياً، واحدة الهوية - الأورو فرنسية. لذلك سنتوقف عند ثلاث لحظات مختارة: لحظة جول فيري، ولحظة ساركوزي، ثم لحظة هولاند. فكيف إذن، تحضر إفريقيا في الخطاب الفرنسي؟ وإلى أي حدٍّ استطاعت فرنسا التخلص من ذاكرتها الكولونيالية، ومخاطبة إفريقيا باعتبارها قارة ودولاً كاملة السيادة الوطنية؟

أولاً: لحظة الاعتقال

يعدُّ جول فيري رمز اللحظة الأولى، فهو وليد القرن 19 والشخصية البارزة في الساحة السياسية آنذاك، باعتباره سياسياً فرنسياً ووزيراً للمستعمرات الفرنسية... إلخ. في سعينا لمساءلة فيري عن ماهية الخطاب أو الطرح الأيديولوجي الذي يحمله، فإنه يقول: «لسنا فلاسفة وإنما رجال عمل نريد لمستعمراتنا التوسع والقوة، ولذلك يجب علينا التصرف عملياً وفعلياً». إنها مقولة تعبِّر أصدق تعبير عن الروح الإمبريالية التي كان فيري من أشد المتحمسين لها، باعتبارها - كما يرى هو نفسه - استجابة فعلية للتحولات والحاجيات التي طرحتها الثورة الصناعية، بشريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، ويعني ذلك أن المستعمرات تمثل للإمبريالية فضاءً شاسعاً للتصدير والاستثمار. أما من الناحية الأخلاقية، فإن فيري يجسِّد كذلك الوجه الثاني للعملة الإمبريالية، وفي هذا الصدد يحمل فيري بكل افتخار، الادعاء القائل بـ «المركزية الغربية»، ذلك أن (القانون الإلهي) كرَّم وفضَّل الرجل الأبيض، وكلَّفه بحمل رسالة تمدينية إلى الشعوب البدائية، القاصرة عن تدبير شؤونها، ومدِّها بمبادئ (العبقرية الفرنسية)! وقد عبَّر فيري عن ذلك قائلاً: «نشْر حضارتنا ونقْلها عمل جليل يشرِّف المؤسسة الكولونيالية»، وليس غريباً هذا الأمر ما دام الله خلق نوعين من البشر: نوع يوجد في الشمال، خُلِق ليسيطر ويقود النوع الثاني من البشر الموجود في الجنوب على حدِّ تعبير فيري.

ثانياً: لحظة الإفراج مع بقاء التهم

إذا انتقلنا من العصر الكولونيالي إلى القرن 21 حيث الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وغيرها من الشعارات الرنانة؛ فسنقف على لحظة الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي، الذي اعتمد في خطاب له حين زيارته الأولى لإفريقيا[1] على (التراث الكولونيالي) في صياغة مضامين الخطاب وبنيته المفاهيمية؛ فالإنسان الإفريقي حسب ساركوزي، شخص تعوزه المبادرة والتحدي وروح التغيير والتطور، مقابل الركون إلى الطبيعة والاكتفاء بالذات، لقد عدَّ ساركوزي الصورة التي اختزلتها الذاكرة الإفريقية عن المستعمِر، بوصفه غازياً جباراً... إلخ، سَلَب إفريقيا هويتها ودنَّس روحها وأشبع غريزته من خيراتها... هو عند ساركوزي قول يفتقد لـ «الفهم والتحليل العقلاني»، ذلك أن الخدمات الجليلة والإنجازات الباهرة التي قدمها (العقل الأوروبي) لإفريقيا ترفع عنه كلَّ الزلات والانزلاقات التي صدرت عنه، فكون (الأوروبي) رسولاً لـ (رسالة حضارية) إلى إفريقيا، قصد إلى تهذيبها وتلطيف غرائزها، وكون (الأوروبي) سفيراً وهب نفسه في سبيل مدِّ الشخصية الإفريقية بالحضارة وفك عزلتها وجهلها، مقابل تربيتها على الانفتاح وتخليصها من الخرافة والأسطورة... أمام كل هذه (المبادرات) مع ساركوزي لا يبقى مجال لنعت وقذف (الأوروبي) بالمتسلط؛ بل هو إنسان نبيل قدم ليهدي إفريقيا إلى الصواب ويخرجها من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، ويهديها قيمة الحب باعتبارها أسمى قيمة في الكون.

ولعل مسألة إفريقيا والتاريخ، تعدُّ من أكبر المآسي والعُقَد التي تكبِّل الإفريقي الذي (لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية)؛ فهل لأن إفريقيا لم تدون تاريخها، وظلت تعتمد على الشفهي اتهمت بأنها ليس لها تاريخ، ومن ثَمَّ أفسحت المجال للآخر ليكتب تاريخها وَفْقَ إرادته ومشيئته؟ إن خطاب ساركوزي إذن، ليس إلا انبعاثاً واستمراراً للنظرة العنصرية، فجاءت أحكامه وخلاصاته متطابقة تماماً مع النسق الفكري الكولونيالي.

ثالثاً: مصالحة أم مصلحة؟

على النقيض من الأطروحة الكولونيالية، حاول الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، أن يؤسس لتصور جديد في السياسة الخارجية الفرنسية:؛ إذ أكد في جولةٍ له بإفريقيا[2] على أن (إفريقيا الفرنسية) قد ولَّت، ودعا إلى تأسيس علاقة بين الطرفين كمجالين قائمين بذاتهما، قِوامها المساواة والتضامن و (الصدق). إن سياسة هولاند محاولة لتجاوز (سياسة إعطاء الدروس الأخلاقية) أو فرض النموذج الفرنسي؛ فهي تتطلع لفتح صفحة جديدة مع إفريقيا، أساسها نسيان الماضي والتركيز رأساً على المستقبل، ويكون ذلك من خلال اعتبار الأفارقة أصدقاء فرنسا حسب هولاند.

من جهة أخرى، نجد أن سياسة هولاند تعترف بالتحولات والإنجازات التي حققتها إفريقيا، ومن ضمنها الإشادة بالتجربة السنغالية في مجال الديمقراطية والحفاظ على الأمن والاستقرار، فإفريقيا عند هولاند تحتل مكانة الشريك الإستراتيجي، لأنها بكل اختصار أمن فرنسا القومي، ولعل ذلك ما حمل هذا الأخير على القيام بتدخلات عسكرية في شمال مالي ضد الوحدات الجهادية هناك. ويمكن تفسير إعادة الصياغة هذه في الخطاب الفرنسي ومراجعة أشكال التموقع في إفريقيا، بالمنافسة الصينية الشرسة؛ فالصين أضحت تلعب دوراً اقتصادياً هاماً، أضعف من النفوذ والتمركز الفرنسي بالمنطقة، أما إذا كان هولاند يريد من شركائه الأفارقة علاقات أساسها الاحترام والحقيقة، فإن مراقبين يرون أن هولاند رغم قوله بطيِّ الماضي، لم يبدِ رغبته في التراجع عن القانون الذي سبق ووضعه سلفه ساركوزي، القاضي بتمجيد الاستعمار الفرنسي في الخارج، كما لم يقدِّم اعتذاراً للأفارقة كما هو الشأن مع اليهود الذين قدمتهم فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية للنازية.

على ضوء القراءة التي أدلينا بها توّاً حيال الخطاب (الغربي/ الفرنسي) تجاه إفريقيا على اختلاف زمنيته، فإننا نعتقد إجابة على الإشكالية التي افتتحنا بها مداخلتنا، أن التصور الفلسفي المَاهَوِي الذي يرى وجود ماهية ثابتة للشخص؛ أي أن الشخص هو هو نفسه أقرب إلى الواقع، وحجيتنا في ذلك، ذاك التطابق الواضح والاستمرارية التي تبينت لنا من خلال النماذج المدروسة، وإن كانت لحظة هولاند توحي في ظاهرها وتعبيراتها بأن هناك انعطافاً مَّا وتحولاً في أسلوب تواصل الشخصية (الغربية/ الفرنسية) مع بقية الشعوب لا سيما الإفريقية، ربما كان المحرك الاقتصادي وحماية المصالح الفرنسية بالمنطقة حاملاً قوياً لهولاند لتشكيل سياسته الإفريقية، في إطار المنافسة الصينية والتركية بالقارة السمراء، وحتى إذا سلَّمنا - جدلاً - ببراءة مسعاه، فإننا نقول: طالما هناك تيارات فكرية وحزبية متباينة الرؤى والاتجاهات، واستمرار الأحكام الكولونيالية الجاهزة في المقررات التعليمية بأوروبا بوجه عام، علاوة على موجة اليمين المتطرف الآخذة في الاستفحال، فلا يمكن الاطمئنان بتاتاً لبعض اللحظات (العَرَضية) فسرعان ما تتلبد السماء الغربية بالغيوم والرياح الكولونيالية لتعاود نسج خطاب الأجداد، ومن ثَمَّ أمكننا هنا الحديث عن مفهوم السيرورة وليس الصيرورة.

 


[1] ألقي الخطاب بمدينة دكار السينغالية في يوليو 2007م.

[2] انظر خطاب الرئيس فرنسوا هولاند بدكار، أكتوبر 2012م.


أعلى