ومن سيرة بلال وثباته نتعلم الثبات على الحق، ولو كثر المبدلون والناكصون، وندرك أن عاقبة الصبر نصرا عزيزا، وفوزا كبيرا
الحمد لله العليم الحكيم؛
يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار
المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو البر الرحيم، الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيء إلا بعلمه، ولا يقضى شأن إلا بأمره، وله
الحجة البالغة على خلقه ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ النبي
الأمين، والرسول الكريم، والمبلغ عن رب العالمين، والناصح للناس أجمعين، صلى الله
وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وسلوه الثبات على الحق إلى الممات؛ فإن قلوب العباد بين
أصبعين من أصابعه عز وجل يقلبها كيف يشاء، فإذا شاء أزاغ القلب، وإذا شاء أقامه ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ
لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].
أيها الناس:
الثبات على الحق، وتحمل الأذى فيه؛ منَّة يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده.
وفي أول الإسلام رجال حملوا هذا الدين، وفتنوا فيه، وعذبوا عليه، وأخرجوا من ديارهم
بسببه؛ فما لانت شكيمتهم، ولا وهنت عزيمتهم؛ لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان،
فتلذذوا بكل عذاب في سبيله.
ومن أولئك الأفذاذ الأبطال
في الإسلام: بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه، ولد بمكة، وكان من الموالي، وتقدم
إسلامه جدا بدليل أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
«فَمَنْ
مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو
بَكْرٍ وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ»
رواه مسلم.
وجاء في قصة إسلامه
وتعذيبه ما روى الْوَضِينِ بْنُ عَطَاءٍ قال:
«اعتزل
أبو بكر رضوان اللَّه عليه ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في غار، فمرّ بهما
بلال رضي اللَّه عنه وهو في غَنَم لعبد اللَّه بن جُدْعان... فأطلع رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلم رأسَه من الغار، فقال: يا راعي، هل من لَبَن؟! فقال بلال: مالي
فيها إلا شاة منها قُوتي، فإن شئتُما آثرتُكما اليوم بلَبنها، فقال: ائت بها، فجاء
بها فاعتَقَلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وحَلَب في القعب -وهو قدح يروي
الثلاثة- وشرب هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه، ثم سقى بلالًا رضي اللَّه عنه، وأرسلها
وهي أَحفَلُ مما كانت، فقال: يا غُلام، هل لك في الإِسلام؟ وقرأ عليه القرآن فأسلم،
فقالا: اكتُم إسلامَك. وانصرف بغَنَمه وقد أَضْعفَ لبنُها، فقال له أهله: لقد رعيتَ
اليوم مَرعى طَيِّبًا فعليك به، فعاد إليهما ثلاثةَ أيام يسقيهما اللبن، ويَتعلّم
الإِسلام. ودخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مكة، فاختفى في دارٍ عند المروة،
فدخل بلال رضي اللَّه عنه يومًا إلى الكعبة وقريش في ظاهرها وهو لا يعلم، فجعل
يَبصُقُ على الأصنامِ ويقول: خابَ وخَسِرَ مَن عَبَدكم من دونِ اللَّه تعالى،
فطلبَتْه قُريشٌ فهرب، فدخل دار سيِّده عبد اللَّه بن جُدْعان فاختفى فيها، فجاءوا
إلى الباب، ونادَوْا عبدَ اللَّه بنَ جُدعان، فخرج إليهم فقالوا: صبوتَ؟ فقال:
ألمثلي تقولون هذا؟ عليَّ نَحْرُ مئةِ ناقةٍ للّاتِ والعُزّى إن كنتُ صَبَوْتُ،
قالوا: فإن أسوَدَك صنع كذا وكذا، فدخل فأخرجه إليهم، وقال: شَأنُكم به، افعلوا به
ما أحببتُم، فخرج به أبو جهل بن هشام وأُميَّةُ بنُ خَلَف إلى الرّمْضاءِ، وبسطاه
عليها، وجعلا على عُنُقه رَحًى، وقالا: اكفُر بمحمّدٍ، وهو يقول: أحدٌ أحَدٌ. ومرَّ
بهما أبو بكر فقال: واللَّه ما تُدْرِكان بعذابه ثأرًا، فقال له أُمية: هو على دينك
فاشتَره منّا...».
ومما جاء في تعذيبه وثباته
رضي الله عنه ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ:
«إِنَّ
أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا
سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ
وَأَوْقَفُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ آتَاهُمْ كُلَّمَا
أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ
بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ».
وقَالَ عَمْرَو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه:
«مَرَرْتُ
ببلال وهو يعذّب في الرمضاء لو أَنْ بِضْعَةَ لَحْمٍ وُضِعَتْ لَنَضَجَتْ، وَهُوَ
يَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، وَأُمَيَّةَ مُغْتَاظٌ عَلَيْهِ
فيزيده عذابا فيقبل عليه، فيدغت في حلقه -أي يخنقه- فيغشى عليه، ثم يفيق».
وقال حَسَّانُ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه:
«حَجَجْتُ
فَرَأَيْتُ بِلالا فِي حَبْلٍ طَوِيلٍ، تَمُدُّهُ الصِّبْيَانُ... وَهُوَ يَقُولُ:
أَحَدٌ أَحَدٌ، أَنَا أَكْفُرُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى وَهُبَلَ وَسَافَ وَنَائِلَةَ
وَبَوَانَةَ، فأضجعه أمية في الرمضاء».
وعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
«كَانَ
بِلالٌ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ قَالَ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فَيَقُولُونَ
لَهُ: قُلْ كَمَا نَقُولُ. فَيَقُولُ: إِنَّ لِسَانِي لا يَنْطَلِقُ بِهِ وَلا
يُحْسِنُهُ».
وَرُوِيَ أَنَّ بِلالا قَالَ:
«أَعْطَشُونِي
يَوْمًا وَلْيَلَةً ثُمَّ أَخْرَجُونِي فَعَذَّبُونِي في الرمضاء في يوم حارّ».
وقال عروة بن الزبير:
«كان
بلال من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه، فما أعطاهم قط
كلمة مما يريدون».
وصبر بلال رضي الله عنه
على شدة العذاب، وهو ثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه، حتى اشتراه أبو بكر فأعتقه،
وفي هذا يقول عمر رضي الله عنه:
«أَبُو
بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي: بِلاَلًا»
رواه البخاري.
ولما أذن الله تعالى
بالهجرة إلى المدينة هاجر بلال مع المهاجرين، فلما كانت غزوة بدر وانتصر المسلمون
على المشركين تحقق لبلال قصاصه ممن عذبوه، وأولهم أمية بن خلف، قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«فَأَبْصَرَهُ
بِلاَلٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ:
أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ
فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا،
خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى
يَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا، قُلْتُ لَهُ:
ابْرُكْ، فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ
بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ»
رواه البخاري.
وشهد النبي صلى الله عليه
وسلم لبلال بالجنة ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ
الفَجْرِ:
«يَا
بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي
سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ،
قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا،
فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ
لِي أَنْ أُصَلِّيَ»
رواه الشيخان.
وظل بلال مؤذنا للنبي صلى
الله عليه وسلم حتى توفي وولي الخلافة أبو بكر رضي الله عنه فاشتاق بلال للجهاد
فقال لِأَبِي بَكْرٍ:
«إِنْ
كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِي، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ، فَدَعْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ»
رواه البخاري. وجاء في رواية أن أبا بكر ناشده أن يبقى معه فبقي حتى ولي الخلافة
عمر رضي الله عنه فأذن له في الجهاد. فرضي الله عن بلال وأرضاه، ورضي عن الصحابة
أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131-
132].
أيها المسلمون:
مكث بلال مرابطا في الشام، فلما زار عمر الشام قابله بلال، روى أَبو الدَّرْدَاءِ
رضي الله عنه قَالَ:
«لَمَّا
خَطَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَادَ إِلَى الْجَابِيَةِ، سَأَلَهُ بِلَالٌ
أَنْ يُقِرَّهُ بِالشَّامِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَخِي أَبُو رُوَيْحَةَ
الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَنَزَلَ دَارِيَّا فِي خَوْلَانَ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ
خَوْلَانَ، فَقَالَ: قَدْ أَتَيْنَاكُمْ خَاطِبَيْنِ، وَقَدْ كُنَّا كَافِرَيْنِ
فَهَدَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَمْلُوكَيْنِ فَأَعْتَقَنَا اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَفَقِيرَيْنِ فَأَغْنَانَا اللهُ، فَإِنْ تُزَوِّجُونَا فَالْحَمْدُ
لِلَّهِ، وَإِنْ تَرُدُّونَا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ, قَالَ:
فَزَوَّجُوهُمَا»
رواه أبو نعيم.
ومات بلال بالشام زمن عمر،
ولما احتضر سمع امرأته تقول:
«واحزناه،
فقال: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه»،
فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، كما كان وهو يعذب في مكة يقول أحد أحد،
يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. فلله دره، ما أشد صبره، وما أعظم ثباته في حياته
وعند مماته.
ومن سيرة بلال وثباته
نتعلم الثبات على الحق، ولو كثر المبدلون والناكصون، وندرك أن عاقبة الصبر نصرا
عزيزا، وفوزا كبيرا. فبلال رضي الله عنه صبر على الأذى في مكة، معتزا بإيمانه،
شامخا في ثباته، لا يجد كلمة أشد إغاظة لأهل الكفر من كلمة التوحيد، فكان يرددها:
أحد أحد، يريد توحيد الله تعالى ونبذ شركهم. ثم عتق بلال وهاجر، وعوفي من البلاء،
وارتاح من العذاب، واغتنى من الفقر، وحاز الأجر والشرف، وفوز الآخرة أعظم وأكبر.
بينما مات معذبوه شر ميتة في غزوة بدر، وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فهنيئا لمن تزيا بالثبات
على دينه، وتسلح بالصبر على ما يصيبه، وابتغى الآخرة دون العاجلة، ونظر إلى العاقبة
دون الحال الحاضرة؛ فإن الله تعالى يغير من حال إلى حال، ويعز الأذلة الضعفاء
وينصرهم، ويذل الأعزة الأقوياء ويهزمهم ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
وصلوا وسلموا على نبيكم...