وصايا الآباء للأبناء... خواطر وتنبيهات

وصايا الآباء للأبناء... خواطر وتنبيهات

لا شك أن الوصية في الدين والتناصح بين الناس عبادة جليلة مهجورةٌ في كثير من البيوت، ومنسية عند كثير من الأُسر، وشأن الوصية مهم وجليل، ولكن أعجب ما في الأمر أن وسائل الإعلام المعاصرة: من إذاعة وتليفزيون وصحافة وغيرها، قزَّمت من شأن الوصية، وأضعفت من دورها؛ حتى انزوى دورها في نوافذ ومجالات الدنيا فقط، فنشأ الصغير وشابَ الكبير على الوصية بالدنيا عملاً وحرصاً وأمناً، وصار الأب والأم كثير منهم لا يوصي أبناءه إلا بشيء من شؤون الدنيا، وقديماً عاب الله على أقوام لا يذكرون إلا الدنيا ولا يسألون ربهم سواها، فقال - جل وعلا -: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ 200 وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 200 - 201].

 وهذا ذم في الحقيقة وعيب لمن لا همَّ له إلا الدنيا. قال سيد قطب - رحمه الله - عند هذه الآية: «إن هناك فريقين: فريقاً همه الدنيا، فهو حريص عليها، مشغول بها. وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولادٍ حسنٍ! لا يذكرون من أمر الآخـرة شـيئاً... وورد عن ابن عبـاس - رضـي اللـه عنهما - أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس. ولكن مدلول الآية أعم وأدوم. فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع. فالنموذج الذي همه الدنيا وحدها يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا - إذا قدَّر العطاء - ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق.

وفريقاً أفسح أفقاً، وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله، يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة، بل يَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون. وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب.

إن هذا التعليم الإلهي يحدد لمن يكون الاتجاه؛ ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك لله الخيرة، ورضي بما يختاره له الله، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة. ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب»[1].

وفي مقابل صورة الدنيا والوصية بها والحرص عليها، فقد ذكر الله لنا وصية لقمان لابنه بوصايا جامعة تربوية نافعة. قال - تبارك وتعالى -: {يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16 يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 17وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ 18 وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 16 - 19].

فهي كما نرى وصايا جامعة، في العقيدة كما في الآية الأَوُلى في إشارتها لوحدانية الله وقدرته المطلقة فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، وهو اللطيف الذي يُجرِي رحمته تحت أستار الخفاء، وأنه هو الخبير الذي خَبَر مخلوقاته في شتى شؤونهم: عدداً وقدراً وحياة وموتاً، فيوصي ابنه بتعظيم الله والإيمان بقدرته غير المحدودة، ومن ثَمَّ طاعته واتباع منهجه المعظم.

وفي الآية الثانية يوصيه بأمهات العبادات من إقامة الصلاة والخضوع فيها والخشوع، وألا يكتفي بالصلاح في نفسه حتى يدعو غيره، وأن يحمل مشعل الإصلاح في مجتمعه فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصبر على ذلك إن مسَّه مِن ورائه أذى من الخلق.

ثم يوصيه في الآية الثالثة بالبعد عن مساوئ الآداب العامة في المجتمع؛ وذلك بعدم احتقار الغير ولا التكبر على الناس، والاعتدال في عواطفه ومشاعره، وعدم الفخر المطغي ولا التكبر المزري وألا يكون معجباً بنفسه مزرياً على الآخرين، والتخلص من هذه المساوئ لا بد له من علم وعدل؛ علم بالنفس والآخرين، والعدل مع النفس ولآخرين.

ثم يوصيه في الآية الرابعة بالتوسط والاعتدال ومراعاة أعين الناس وسمعهم، فلا يمشي مشية المضطرب العجول ولا مشية المائع الكسول، وألا يُحدِث تلوثاً سمعيّاً ولا ضوضاء يؤذي الناس بصوته العالي، ولا يشق عليهم بصوته الخفيض غير المسموع، بل التوسط في الأمور والاعتدال في الأخلاق مفتاح لمحبة الخالق وقبول المخلوقين.

أمثلة للوصايا المعاصرة:

صار كثير من الآباء يحرصون على وصية أبنائهم بالدنيا، فنشأ كثير من الصغار على حفظ أمثال شعبية وأقوال قديمة على أنها مسلَّمات وقواعد في الحياة، فبعض الآباء يذكر ابنه بين الحين والآخر بأن من معه قرش فإنه يساوي قرشاً، فيغرس فيه من صغره الميزان المالي لوزن الناس، فلا غرابة أن يُعجَب بخاله فلان دون عمه الآخر لأنه طبق المثل الذي حفظه من أسرته على أقاربه، وكان الأَوْلى أن تنصرف عناية الآباء إلى إرشاد أبنائهم إلى الميزان الأخروي في النظر للأمور {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

 وآخر يوصي ابنه بأن البلد بلد شهادات وأوراق، فيجدُّ في سرقة الإجابات والظهور على أكتاف الأقران، رغبة في تحصيل الشهادة من أي وجه كان... وهكذا.

وآخر يوصي ابنه ويسمعه كثيراً يذكر أن الأقارب عقارب، فينشأ مبتور الصلات الاجتماعية كارهاً لأقاربه، وآخر يذكر الزوجة أو النساء عموماً أمام أولاده بأوصاف غير مقبولة، وبكلمات حق يُريد بها باطلاً، كأن يقول لهم - مثلاً - عن النساء: ناقصات عقل ودين، هكذا يسوقها لهم جملة عامة ناسباً إياها إلى الشرع دون وضعها في أطرها وضوابطها الشرعية، من أن نقصان العقل إنما هو في أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وأن نقصان الدين يتمثل في كونها تظل فترة من عمرها لا تصلي؛ وذلك لعذر الحيض والنفاس، وأنهن معذورات في ذلك.

وآخر يوصي أبناءه بأن من شتمك اشتمه، ومن ضربك اضربه، ومن، ومن، دون توجيه أو تفصيل. وأمر تلك الوصايا يطول.

وهناك بعض الآباء يهتمون بجسد الأبناء وتغذيتهم أكثر من توجيههم لخيري الدين والدنيا، فتراه لا يوصي الأبناء ولا أمهم إلا بحسن تغذيتهم، والقيام على رعاية أجسامهم حتى تنمو، ولكنها تتضخم في أجساد سمينة وعقول صغيرة.

وآخرون صار همهم الأكبر مستوى تحصيل الأبناء في أمور الدراسة والتعليم والتدريب، ولا يلقى أولاده إلا ويذكرهم ويوصيهم بالجد والاجتهاد والمتابعة، وحسن التأسي بأفضل الطلاب وتحصيل أعلى الدرجات، ويكون ذلك هو المقياس للتفاضل بين الأبناء وذم هذا ومدح ذاك.

وبعضٌ آخر أيضاً يوصي أبناءه بالحرص على قوة الجسد وخوض تدريبات وإتقان فنون الدفاع عن النفس وممارسة كثير من الرياضة، دون التنبيه على ما يليق وما لا يليق، والمباح والممنوع في الدين.

ومن الأمور المهمة أن بعض الآباء يعتقد أنه بمجرد زواج ابنته، فإن حق وصيتها ونصيحتها قد زال عنه، وأنها في عصمة زوج ينصحها ويوجهها حتى لو نصحها بباطل أو وجَّهها إلى محرم، تراهم يقولون: هي مع زوجها ويستلون أيديهم من النصيحة لها أو وصيتها وتوجيهها، وهذا خطأ؛ فالمعيار في الوصايا هي الوصايا الشرعية المقبولة.

 خواطر وتنبيهات في أمر الوصية:

إن كثيراً من الوصايا السابقة قد تكون مفيدة ونافعة إذا ما انضم لها أخواتها من المقيدات والمحفزات؛ فليس عيباً أن يوصي الآباء أبناءهم باجتناب عيوب بعض الأقارب، وبأهمية الحرص على المال في غير بخل، وضرورة التحصيل الدراسي وأهمية القوة الجسدية، كل هذه الوصايا لا حرج فيها، ولكن الأهم من ذلك كله أن يحرص الآباء على دين وخُلُق أبنائهم، وحسن توجيههم للخير وغرسه فيهم غرساً؛ فماذا يضر الآباء لو قال الواحد فيهم لابنه: هذا القدر من المال لك، هو مصروفك. واعلم أنك حر في إنفاقه في ما يلذُّ لك من الحلال ولكنك لو أنفقت جزءاً منه لتلك العجوز أو ذلك الفقير المسكين لكان لك أجر وخير في الدنيا والآخرة؟

 وماذا يضير الآباء لو أوصوا أبناءهم بالحصول على أعلى الدرجات في الطب والهندسة والكيمياء والفلك واللغات والحواسب؛ رغبة في جمع المال من حله ومساعدة الأمة الإسلامية في تخصصات مهمة تحتاج إليها؟

 ماذا لو أوصى الآباء بناتهم بأن يحرصن على الاجتهاد لينلن أعلى الشهادات ولأن الأمة تحتاج - مثلاً - طبيبةً ماهرة تصون أعراض المسلمات، وتحميهن من الأطباء الذكور.

إن وصايا الآباء للأبناء عبادة أمر الله بها ضمن جماعة المؤمنين فإذا كنا مأمورين بإيصاء الآخرين فإن أقربهم حقّاً عليهم وآكدهم في هذه الحقوق الأهل والأبناء. قال - تبارك وتعالى -: {وَالْعَصْرِ 1 إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ١ - ٣].

ونقلت لنا كتب السنة شيئاً من وصايا المصطفى لأبنائه، فمن ذلك وصيته لابنته؛ فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيّاً لَهَا (أَوِ ابْناً لَهَا) فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»[2].

ومن ذلك ما صح عن عَلِي بْن أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَام - لَيْلَةً فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئاً، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]»[3] فأوصاها مع زوجها وهي متزوجة وعند غيره ولم ينس حقها في النصيحة والاهتمام.

وقد أوصى ابن عمه الغلام بوصايا نفيسة ودرر رائعة، حفظها وبلغها كأروع ما تكون الوصية والتوجيه، وحسن رعاية الصغار وتربيتهم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفت الصحف»[4].

فما أحوجنا لإعادة صياغة التناصح والوصايا بين الآباء والأبناء.



 [1] في ظلال القرآن: 1/ 178.

 [2] متفق عليه.

 [3] متفق عليه.

 [4] أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني.

 

 

أعلى