معالم في العدل عند ابن تيمية

معالم في العدل عند ابن تيمية


هذه كلمات نافعات وكُليَّات جامعات حررها ابن تيمية في مواطن عديدة بشأن العدل أسوقها على النحو التالي:

رحابة الفهم وسعة الأفق عند ابن تيمية تظهر في تعريفاته ومفاهيمه، كما في تعريفه لمعنى العدل؛ إذ بيَّن أن العـدل والحكمة هو وضع الشيء في موضعه، وعكسه الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، وبيَّن بطلان من فسَّر الظلـم بأنه التصرف في ملك الغير؛ فالحَجْر على السفيه عدلٌ وقسط مع أنه تصرف في ملك الغير، ثم إن السفيه الذي يعبث ويتلف ماله بنفسه لا يعدُّ تصرفه عدلاً ولا حكمة، بل هو حمق وظلم. ومِن ثَمَّ فإن أشدَّ الظلم وأشنعه: الشرك بالله، قال تعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

ومن رحـابة مفاهيمه في هذا الصدد قوله: «والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطاناً، أو نائباً، أو والياً، أو كان منصـوباً ليقضي بالشرع أو نائباً له، حتى من يحكم بين الصبيـان في الخطوط»[1]. وقرر وذكَّر بأن الدولة العادلة تدوم وإن كانت كافرة، والدولة الظالمة تزول وإن كانت مسلمة، وبيَّن أن الشخص إذا بغى أو ظلم طمع فيه خصمه، وأشار في موضع آخر إلى أن ظلم كثير من الأمة وبغيهم هو من أسباب تفرُّق أمة الإسلام وتشرذمها[2]، وأيضاً فإن العدل والإنصاف في تصور المقالات يقلل الفرقة؛ إذ قال: «إذا تصوَّرها الناس على وجهها تصوراً تامّاً ظهر لهم الصواب وقلَّت الأهواء والعصبيات[3]. وكشف عما يقارفه بعض المتدينين من ظلم يظنه من الاحتساب؛ فالشيطان قد يصوِّر ذلك الظلم والتعدي بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[4]، ونبَّه ابن تيمية إلى ملحظ تاريخي مهم وغائب؛ وهو أن من أسباب استباحة المغول (التتار) دار الإسلام واستيلائهم على خرسان وبلاد ما وراء النهر هو: الحمية للظالم ونصرته، وأن هذه الحمية الجاهلية التي أصابت بعض أهل الإسلام من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا[5]، وسطَّر في رسالته للملك الناصر أن ما وقع آنذاك من غدر وظلم للمسلمين من الرافضة الغلاة، هو سببٌ في انتصار المسلمين عليهم، وأورد مقالة ابن عباس رضي الله عنهما: «ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهـم العدو»[6]، وأظهر - رحمه الله - المنزلة الرفيعة لفريضة العدل، فقال: «المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقـوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] »[7]، وأكَّد على وجوب العدل في جميع الأحوال وعلى جميع الأشخاص فقال: «العدل واجب لكل أحد على كل أحـد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح شيء منه بحال»[8]. وقرر أن العدل والشرع متلازمان؛ فليس فيما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم  ظلم قط... وأن الظلم الذي يقارفه علماء أو قضاة، ويرونه شرعاً مع أن الأدلة الشرعية تنقضه... كل ذلك أوجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه والقدح في أصحابه[9]. والتاريخ يعيد نفسه، وفي الواقع المعاصر شواهد ناطقة بذلك.

ولما كان ابن تيمية في غاية الإحكام لمسائل الدين ودلائله، وأصوله وفروعه، فقد ظهرت براعته الباهرة في استيعابه لقضايا العدل والظلم ومباحثه؛ فقرر أن العدل يستوعب فعل كل مأمور، وترك كل محظور، وعكسه الظلم، فقال: «جميع الحسنات تدخل في العدل، وجميع السيئات تدخل في الظلم»[10]، وقال أيضاً: «قد ذكرت في غير موضع أن المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم: إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد، وإما في حقوق العباد... وجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه»[11].

ومن تقريراته أن الأصل في المعاملات المشروعة هو العدل فقال: «الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على غَرر أو رباً دخلها الظلم، فحرَّمها الله الذي حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرَّماً على عباده»[12]، ولما تحدَّث عن «عوض المثل» ردَّه إلى تحقيق العدل، فقال: «عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتِمُّ مصلحة الدنيا والآخرة؛ فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم: قيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، ونحو ذلك...»[13]، ثم قال: «ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله، وهو نفس العدل... قد عُلِم بالمعقول أن حكم الشيء حكم مثله، وهذا من العدل والقياس»[14]، ووضح من خلال تتبعه وتأمله واستقرائه أن القول الوسط بين الأقوال المتقابلة هو أصحها وأحظاها بالدليل، وربما عبَّر كثيراً في مسائل الفقه بقوله: «أعدل الأقوال...». ولما كان ابن تيميـة من الراسخين في العلم والفقه، ومن الراسخين في الدراية بالوقائع والأحداث، وما يكتنفها من تزاحم المصالح والمفاسد وتعارضها، فإنه حرر أجوبة بديعة بشأن «الكلف السلطانية» و «المظالم المشتركة»، ومن أهم ما حرره ما يلي:

أولاً: إذا وقع ظلم ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان، وأن تحقيق نشر العلم ورفع الظلم بحسب الإمكان من فروض الكفايات يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك[15]. والمقصود أنه إذا تعذَّر إقامة العدل المطلوب المحمود فلا أقل من تحقيق العدل الممكن المقدور.

ثانياً: قرر ابن تيمية في غير موضع أن هذه الكُلَف السلطانية التي تطلب من الناس بحق أو بغير حق يجب العدل فيها، ويحرم أن يوفِّر فيها بعض الناس، ويجعل قسطه على غيره، ومن قام فيها بنيَّة العدل وتخفيف الظلم مهما أمكن، وإعانة الضعيف لئلا يتكرر الظلم عليه... كان كالمجاهد في سبيل الله إذا تحرى العدل وابتغى وجه الله... وبيَّن أن أصحاب الولايات ونحوهم الذين أُمروا بأخذ الأموال أو الكلف السلطانية من الناس بغير حق، أنهـم إذا اجتهدوا في العدل ورفع الظلم حسب قدرتهم، فولايتهم خير وأصلح للمسلمين من غيرهم، ولا يعاقبهم الله على ما عجزوا عنه، والله يثيبهم على تخفيف هذه المكوس (الرسوم) وتقليلها[16].

ثالثاً: تكشف هذه النازلة أن ابن تيميـة ذو دراية عميقة بطبائع النفوس، ومراعاة أحوالها، وذو إشفاق عليها؛ فإن المتولي لتلك المكوس أو الكلف عليه أن يعدل بين الناس فيما يطلبه منهم، وإن كان أصل الطلب ظلماً فعليه أن يعدل في هذا الظلم، ولا يظلم فيه ظلماً ثانياً؛ حيث يطالب هذا الشخص بقسطه من الظلم، ويُحمَّل قسط ونصيب شخص آخر قد أسقط عنه لأجل جاه أو رشوة، وعلل ذلك ابن تيمية بأن النفوس ترضى بالعدل بينها في الحرمان، وفيما يؤخذ منها ظلماً، ولا ترضى أن يخصَّ بعضها بالعطاء أو الإعفاء[17].

وأخيراً: إن من يسعى إلى إقامة العدل سواء كان مشروعاً تامّاً، أو ممكناً مقدوراً حسب الوسع، فإنه يبتلـى ويمتحـن، فهـذا سـنة الله تعالى، وهذا عمر بن عبد العزيز مع ترفُّقه بالرعية لحقه العداء والخصومة حتى قال ابن تيمية: «... وعمر بن عبد العزيز عودي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سُمَّ على ذلك»[18]. ونال ذاك العداءُ ابن تيمية الذي أظهر العدل، فنشر الحق ورحم الخلق، فلحقه الأذى وتوالت عليه المحن وسجن سبع مرات، آخرها وأطولها في سجن القلعة بدمشق حيث مات في ذلك السجن.

 


 

 


[1] ينظر: الفتاوى 28/254.

[2] ينظر: الفتاوى 28/254.

[3] ينظر: الفتاوى 12/103.

[4] ينظر: الفتاوى 14/326.

[5] ينظر: الفتاوى 28/326.

[6] ينظر: الفتاوى 28/408.

[7] ينظر: الفتاوى 28/263.

[8] ينظر: الفتاوى 30/339.

[9] ينظر: الفتاوى 30/ 355،354.

[10] ينظر: الفتاوى 28/184.

[11] ينظر: الفتاوى 29/277.

[12] ينظر: الفتاوى 29/107.

[13] ينظر: الفتاوى 29/520.

[14] ينظر: الفتاوى 29/522.

[15] ينظر: الفتاوى 29/271، 30/357.

[16] ينظر: الفتاوى 30/360،357.

[17] ينظر: الفتاوى 30/341.

[18] ينظر: الفتاوى 19/219.

 

  

أعلى