• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نعمة التحول الآمن (2-2)

يستند هذا الفصل إلى المقابلات التي أجراها الباحثان مع ثلاثةَ عشرَ قائداً سياسيّاً كلُّهم أصبحوا رؤساء لحكوماتهم إلَّا واحداً ترأس وزراء بلده، وينتمون لتسع دول أسهمت في إنهاء أنظمة الحكم الاستبدادي خلال الربع الأخير من القرن الميلادي العشرين


استعرضتُ في مقال سابق مقدِّمة هذا الكتاب الماتع، وفي هذه المقالة سأنتقل مباشرة إلى الفصل الحاديَ عشرَ والأخيرِ الذي يمثِّل خلاصةً لفصول الكتاب وتجاربه، وفيها تاريخ ثري جدير بالعرض لولا ضيق الوقت، ولعلَّ خلاصة التَّجارب أن تفيَ بلباب القول وزبدة الرَّأي، ويمتدُّ هذا الفصل عبر صفحات طويلة من (618 - 669).

عنوان الفصل الحادي عشر: التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي: الدروس المستقاة من القادة السياسيين لبناء المستقبل، كتبه: البروفيسور أبراهام ف. لوينثال الذي تخرَّج في جامعة هارفارد، وعمل في جامعة ساوثرن في كاليفورنيا، وأسَّس برامج تخصُّ أمريكا اللاتينيَّة، والمهندس سيرجيو بيطار شقرا خريج جامعة هارفارد أيضاً، وهو اقتصادي وسياسي عمل وزيراً في حكومة الرَّئيس أليندي في شيلي، ثمَّ غدا سجيناً سياسيّاً فوزيراً في حكومات ما بعد بينوشيه، ويرأس مؤسسات وطنيَّة وإقليميَّة تعنى بالدِّيمقراطيَّة والحوار.

يستند هذا الفصل إلى المقابلات التي أجراها الباحثان مع ثلاثةَ عشرَ قائداً سياسيّاً كلُّهم أصبحوا رؤساء لحكوماتهم إلَّا واحداً ترأس وزراء بلده، وينتمون لتسع دول أسهمت في إنهاء أنظمة الحكم الاستبدادي خلال الربع الأخير من القرن الميلادي العشرين، مع اختلاف في شكل التحول وحجمه، ولكنَّ القاسم المشترَك هو في الاستمرار دون انتكاسة أو ارتداد للوراء.

سعى المؤلفان إلى التقاط أفكار القادة، واستخلاص المبادئ المفيدة لمن يتوق لتحقيق التحولات المستقبلية؛ للحصول على نعمة العدل والأمن والنماء، ويرى الكاتبان بأنَّ مصيـر أيِّ حكـومة غيـر ديمقراطيَّـة أن تواجه مطالبات شعبيَّة من أجل المزيد من المشاركة والتَّمثيل، وقد تتصاعد هذه المطالبات لدرجة تحدي الأنظمة المتسلِّطة، وقـررا أنَّ عملية التغيير والاستبدال ما كانت ولن تكون سهلة أو سريعة، مع أنَّ إرادة النَّاس تلتقي في مجمل الأمكنة عند رغبة جامعة مفادها أن تكون أصواتهم مسموعة ومستجاباً لها ضمن طموحهم للتعبير السياسي.

ولذا استعرضا الملامح المميزة لتجارب التحول، وأبرزا أوجه الشبه والاختلاف مع الوقوف عند القضايا الشائكة التي تكرَّر حدوثها غير مرة، ودرسا الإستراتيجيات التي طورها القادة لمواجهة العقبات، وختما بتحديد الصفات المميزة لتلك القيادات السياسية، وجزموا بأنَّه لا يمكن للقادة تحقيق هذه التحولات بمفردهم، وبالمقابل فبلوغ هذه الغايات ما كان لِيَتِمَّ لولا جهود هؤلاء القادة وإسهاماتهم.

تمتاز الخطوط العريضة للتحولات بأنها عمليات واسعة ومتلاحقة، حدثت تدريجيـاً على مدىً زمنيٍّ طويلٍ، وكان للأحداث الشهيرة تأثير في تحفيز التحول وإن ابتدأ الطريق قبل سنوات من تلكم اللحظات التاريخية، وهذه حقيقة مهمة يجب ألَّا تغيب عن العيون، فنادراً ما تكون النَّتائج فجائيَّة.

وتعود لحظة انهيار الاستبداد إلى أصول عمليَّة قديمة متنوعةِ المنشأ والمبعث، وتتميز بالهدوء وربَّما بالخفاء، وساعدت هذه الخطوات الهادئة في تعميق العلاقات الشخصية بين قِطاعات المعارضة، وتعزيز الثقة المتبادَلة، وتحسين الاتصالات وتطوير التَّفاهمات حتى مع شخصيات من داخل النظام الاستبدادي.

كما تسير التحولات غالباً بسرعات متباينة، وبمجرَّد ما تدور عجلتها فإنَّها لا تتوقف أبداً؛ ولكنَّها تتأثر بأحداث تعمل على تسريعها أو إبطائها أو انعطافها أو تغيير مسارها، مثل موت مفاجئ لرئيس منتخب، أو مؤامرة اغتيال فاشلة، أو عمليَّة اغتيال ناجحة تصبح سبباً في تعجيل إطلاق الخيارات السياسية.

وكان سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي، والأزمات المالية الآسيوية، والغضب الشعبي المتأجج، نموذجاً للأحداث المفاجئة التي استلزمت استجابات حاذقة بناء على مسارات طويلة وشاقة من التعبئة الاجتماعية، أعقبها لقاءات تفاوض سرية أو علنية؛ نجم عنها اتفاق على المبادئ والإجراءات الممكنة للحكم الديمقراطي؛ فالجماهير المحتشدة في الشوارع لا ينبثق منها مباشرة أيُّ تغيير مهما كان منظرها باهراً؛ فلا بدَّ من إدارة خلفيَّة تستثمر هذه الأوضاع بحنكة.

استهلكت هذه التحولات وقتاً طـويلاً حتى بلغت مرحلة النُّضج، وتأثرت بمدى التَّعاون بين أطياف المعارضة المعتدلة البعيدة عن العنف أو الإصرار على الانفصال، وبقوَّة منظَّمات المجتمع المدني، والعلاقات السَّائدة بينها أو مع النِّظام المستبد، وقدرتها على الحشد للضَّغط على الحكومات الاستبداديَّة التي يقوى موقفها بما حققته من أمن ورخاء اقتصادي نسبي.

ومن المؤثرات البارزة: القدرة على الإفادة من تجارب التحولات السابقة، والنَّهل من أفكار الزُّعماء السَّباقين في التَّغيير، واستثمار المنافسة بين الأقطاب العالمية، ومستوى تفاعل المجموعة الدولية مع المعارضة، وتركزت قمة النجاح في سحب الدعم الخارجي للنظام المستبد، وقطع التعامل معه.

أبرزت هذه التجارب انحصار التحديات لعمليات الانتقال في أربع مجموعات هي:

التَّحضير لعملية الانتقال.

إنهاء النِّظام الاستبدادي.

نقل السُّلطة وإدارتها.

تحقيق الاستقرار وترسيخ الدِّيمقراطية الناشئة.

ولم تظهر هذه التحديات في ترتيب زمني أو تتابع معيَّن، ولكنَّها لوحظت في جميع النماذج، ومن المرجَّح حضورها في أيِّ تحوُّل مستقبلي.

يحتاج التحضير للانتقال إلى دعم واسع داخلياً وخارجياً، وتماسك المعارضة مع احتفاظها بشرعيتها، ووجود محاورين أقوياء في صفوفها، يمتلكون المصداقية، ولديهم قدرة على جسر الخلافات العميقة، والجدية في التغلب على الانقسامات داخل المعارضة، والسعي الحثيث لإيجـاد مخارجَ من المآزق وتحديد إستراتيجيات للوصول إليها.

ومن الطبيعي ألَّا يتخلى نظام مستبد عن سلطاته طواعية ما لم يتيقن فصيل من داخله بأنَّ عمليَّة التَّخلي هي السَّبيل الوحيد لاجتناب عواقب وخيمة، ومن ثَمَّ فلا محيد عن إنهاء النظام الاستبدادي. وفي كلِّ نظام استبدادي يوجد قِطاعات متسامحة أو أقل رفضاً لمطالب المعارضة، ومن الضرورة الانفتاح عليها، والتواصل معها، وتأمينها من الإجراءات الانتقامية بعد نجاح التحول.

وتنجح المعارضة في نقل السلطة وإدارتها بتعزيز النظام المدني، وإنهاء العنف، مع ضمان عمل جميع قوى الأمن والاستخبارات ضمن القانون وخضوعها لرقابة سلطة مدنيَّة، على أن تصبح غاية هذه القوى خدمة المواطنين وليس السَّيطرة على الرَّعايا وكتم أنفاسهم.

 ومن الأهميَّة نيل الثِّقة المحليَّة، واكتساب الشَّرعيَّة الدولية، وتطوير إجراءات انتخابية لتنفيذ إرادة الأغلبية واحترامها؛ وضمان ألَّا يتولى المناصب أيُّ شخص غير مؤهل سياسياً أو تخصصياً من خلال الحصول على تدريب تأسيسي كافٍ، واستقطاب المسؤولين السابقين المناسبين، وإحداث توازن بين الحاجة للخبرات والحدِّ من نفوذ أعوان النِّظام المنصرم.

كما يقع على كاهل السلطة الجديدة الموازنة بين مطالب من انتهك النظامُ السابقُ حقوقَهم، وبين الحفاظ على ولاء قوات الأمن وزيادة سبل القبول السلمي المتبادل والتصالح، وترث هذه السلطة أنماطاً من الفساد والإفلات من العقوبة؛ ولذلك فلا مناص من تمكين سلطة قضائيَّة مستقلة، ووسائل إعلام حرَّة، ومقاومة أيِّ محاولة لإنشاء مراكز نقض، مع تلبية الحاجة لتحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين السكن والصحة والتعليم، وإشراك المستثمرين المحليين والأجانب.

ومن الضرورة حماية مؤسسات المجتمع والسعي لبقائها وتنشيطها؛ كي لا تضمحل بسبب الديمقراطية الناشئة، فهي ضمانة للاستقرار وترسيخ الديمقراطيّة الحديثة، ومن هذا الباب حماية محوريَّة دور الأحزاب المؤسَّسة على نظام تفاعلي متين، كي تقود بعقلانيةٍ الجمهورَ الذي يُنْحي عادةً باللائمة على القادة الديمقراطيين وأحياناً على الديمقراطية نفسها؛ لعدم تلبية توقعاتهم.

ويؤكد الباحثان على التعلم من القادة السياسيين، وتقديم بعض التنازلات، وكسر حالات الجمود والتعامل مع المخاطر باتِّخاذ قرارات اضطراريَّة، والإفادة من الفرص حتى الجزئيَّة منها، وتنفيذ أكبر تغيير ممكن، وتحسين الأوضاع قدر المستطاع، وإعطاء أولوية دوماً لكسب شيء على الأرض، والبعد عن المواقف المتطرفة والمتصلِّبة، وقبول مبدأ التَّفاوض؛ فالتَّحجر الفكري لا يصنع تحوُّلاً.

ومن الحكمة وجود رؤية واسعة تنظر نحو الأمام بدلاً من الغرق في الماضي، والتركيز على ما يوحِّد الناس ولو باتخاذ قرارات صعبة تجاه دعاة الانفصال والعناد الدائم، وتشجيع أيِّ حوارات موجَّهة نحو المستقبل، وإشراك مجموعة واسعة لوضع الدُّستور، والاعتماد على طول النَّفَس؛ إذ لا يتعيَّن حلُّ المعضلات بخطوة واحدة أو في زمن قصير؛ فالعدالة الانتقالية وليست الانتقامية تحتاج لرويَّة وتحمُّل وإصرار.

ويمكن السيطرة على العسكر بالتقاعد، ووضعهم تحت سلطة مدنيَّة، وتقوية العلاقات مع شباب العسكريين، وأفضل طريقة لترويض القطاع العسكري هي تعزيز الحكم الديمقراطي، وبناء قِطَاعات أمنية واستخباراتية جديدة تخدم الدَّولة وليس النِّظام الحاكم، وتقاوم أيَّ شغب من جانب قدماء العسكريين، ولأنَّه ليس من السَّهل رسم خط سميك بين الماضي والحاضر؛ يكون الخلاص بمزيج من تصالح وتسامح وتعويض ومحاكمة مع التَّوازن والتَّصدي العلني لانتهاكات النِّظام السَّابق.

كما يحسن حشد الدَّعم الخارجي سواء من دول أو شركات عابرة للقارات؛ من أجل مدِّ الجسور بين المعارضة والنِّظام، وتبادل الخبرات والاتِّصالات، وتوفير التَّدريب على الجوانب العمليَّة، ومنح الفرص التعليميَّة والبعثات، وتهيئة كفاءات جديدة لحمل المسؤولية مستقبلاً.

ومن خلاصات التجارب: أهمية دور منظمات المجتمع المدني في تخفيف آثار الفترة الانتقالية، وابتعاد المجتمع الدولي عن التدخلات المتسرعة وغير المثمرة، وأنَّ تنامي الطبقة الوسطى يعني زيادة المطالبة بحريَّة التعبير السياسي، وحتميَّة إشراك الشباب، وتتراوح مواقف المؤسسات الدينية؛ فمرَّة تغدو قلاعاً وحصوناً للاستبداد، وأحياناً ترعى المعارضة وتحتضنها.

ثمَّ انفتل المحرران نحو جزء مهمٍّ للغاية، وهو استلال صفات القيادة السياسية الناجحة من خلال فحص فرسان هذه التجارب، فمنها:

ينشطون في صفوف المعارضة أو في مناصبهم ضمن حكومات الاستبداد.

غالبهم من المحامين أو أصحاب الخبرة السِّياسيَّة أو العسكريَّة، وفيهم عالم اجتماع وأكاديمي ومهندس ورئيس تحرير.

يتوجهون نحو حكم أكثر احتواءً ومساءلةً، وتحوُّل سلمي تدريجي.

يحوزون على مكانة في روح المواطنين ومزاجهم.

يركنون لقواعد دعم منوعة.

ينجحون في إضعاف العناصر المتصلِّبة.

يظهرون الشجاعة والثبات والصبر والمثابرة والقدرة على التحمل.

يمتلكون ثقة بالنفس لاتخاذ قرارات صعبة وحاسمة.

طبيعتهم تحليلية وتأمُّليَّة.

يعتمدون على زملاء أقوياء أوفياء وشركاء في القيم السياسية.

لديهم قدرة على إقناع الآخرين.

لهم جذور ضاربة في أعماق المجتمع.

يجيدون حشد الدَّعم الخارجي دون أن يصبحوا أدوات للخارج.

يستطيعون التكيف وتعديل المواقف.

لا يعملون بمفردهم أو لذواتهم.

وقبل توديع القارئ ألمح الكاتبان إلى أنَّ النِّظام الديمقراطي لا يقام بالميول والرَّغبات، ولكن بفعل الناس، وهذا الفعل يحتاج إلى تضحيات، وتهيئة، وإعداد، وصبر طويل، كما أنَّه يستوجب وجود قيادة آسرة تملك الصفات المذكورة أعلاه أو أكثرها، وإنِّما تأتي القيادة بالممارسة الفعليَّة، والتَّعليم المتواصل؛ وليس بقراءة كتب أو مشاركة في برامج تدريبيَّة فقط.

أعلى